إذا أرادت الأحزاب السياسية المشارِكة في الانتخابات البرلمانية التي باتت على الأبواب، أن تصحح المسار السياسي للعراق بعد هذه السنوات الطويلة في إدارة الحكم، فما عليها إلا قراءة المنهج الاستشاري وبناء الحكومة التعددية الحامية لجميع الحقوق بغض النظر عن الهويات الفرعية للمكونات العراقية المختلفة...
مع إقبال الناخب العراقي على انتخابات نيابية جديدة، ينبغي أن يكون دور الأحزاب السياسية هذه المرة مختلف عن الدورات السابقة، من حيث الأداء المختلف والمساند للشعب والساعي لبناء نظام سياسي ينتهج التعددية، ويقوده جملة من الثوابت والضوابط والقيم الأصيلة، حيث يشجع مفكرو السياسة على دور فاعل للأحزاب السياسية في البناء الحكومي، كونه الطريق السليم نحو تدعيم بناء المؤسسات الدستورية، وهناك من يضع معادلة تقول، كلما التزمت الاحزاب في نشاطها السياسي دستوريا، كلما أسهمت في بناء السلطة التنفيذية وأحكمت أداءها في إدارة شؤون الدولة والشعب، وبهذا يكون الالتزام الدستوري للحزب السياسي، علامة مهمة ومؤشر على النجاح الدستوري للفعل الحكومي في جميع المجالات، فالحكومة الجيدة هي نتاج طبيعي للأحزاب الملتزمة التي تقدم مصالح الدولة والشعب على مصالحها.
وهذه هو المطلوب اليوم من الأحزاب السياسية المشاركة في هذه الانتخابات، من هنا غير ممكن إقصاء الأحزاب أو إبطال مهمتها، أو التشجيع على ذلك، ولكن هذا لا يعني عدم انتقاد الأحزاب عندما تفشل في الامتثال للدستور، فمع أهمية دور الأحزاب في تشكيل الهيكل الحكومي وطبيعة إدارة وتنظيم شؤون الدولة، لكن ينبغي أن يكون التمسك بالعمل الدستوري من لدن الأحزاب أمرا مفروغا منه، علما أن القول بإلغاء الأحزاب لا يمكن أن يصب في مصلحة بناء الدولة لاسيما أن العراقيين جربوا نظام الحزب الواحد وعانوا من ويلاته.
لذا ينبغي التركيز على الدور الاستشاري للأحزاب وتطبيقه بصورة محكمة، إذ يؤكد علماء السياسة أن الشورى وهي تقابل الديمقراطية كمصطلح معاصر، تعني حرية الرأي والتشارك في اتخاذ القرار ونبذ الفردية وعدم حصر السلطات في شخص واحد، ليتحول أعضاؤه الى إمّعات لا دور لهم في رسم سياسات الحزب ولا قدرة لهم في بناء نظام سياسي تعددي.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام):
(إنّ قدرة التفكير والإرادة الحـرة والبصيرة لدى منتسبي الحزب وجماهيره، تزول وتمحى، وتزول معها قدرتُهم على خلق القيم وتبلورها، بسبب التوزيع غير المُتعادل وغير المتكافئ للإمكانيات الحزبية، ولهذا فانّ الكذب والنفاق وفقدان الإيمان والمُبالغة في الأمور والخوف تطغى على الأخلاقيات والتقاليد الحزبية السليمة).
من الظواهر التي تم تشخيصها في العمل الحزبي، خاصة على مستوى الإدارة الداخلية لشؤون الأحزاب، النفاق والتملق للقائد الأعلى للحزب، او الأعضاء المؤثرين فيه، ولعل السبب الأساس يكمن في قائد الحزب نفسه، وإدارته المستبدة الفردية، وهكذا عندما يكون هناك قائد متجبّر (أوحد) للحزب السياسي، مع غياب السلطة الجماعية الاستشارية للحزب، فإن العيوب ستكون كثيرة أثناء الأداء السياسي للحزب، وهذه ثغرة واضحة أمكن ملاحظتها في عدد من الأحزاب السياسية التي نشطت في ساحة العمل الإسلامي والعربي، حيث ظهرت أحزاب (دكتاتورية)، لم تسهم بدور جيد في البناء الدستوري للحكومات.
العناصر المؤلّفة لهيكلية الحزب
ثمة جوانب تنظيمية لإدارة شؤون الحزب ينصح بها الإمام الشيرازي، منها وربما أهمها أن لا يكون القسر والإجبار، طريقا لإنتاج التملق والنفاق، وهو أول ثمار الطغيان الفردي في الحركة الحزبية، وإذا بقي هذا المسار الخاطئ متفشيا في الحركة الحزبية فإن النتائج المتوقعة ستكون بالغة السوء، بسبب غياب الإرادة الحرة لأعضاء الحزب وانتشار حالة الخوف بينهم ومن ثم التزلف والتملق للشخص الأقوى في الحزب أملا بكسب رضاه، وهذا المرض الاستبدادي سوف ينتقل حتما إلى الحكومة.
لذلك يرى الإمام الشيرازي:
بـ (أنّ المُنتسبين إليه من وجهةِ النظر الشخصية هم أكثر حقارةً وتزلفاً ونِفاقاً وخوفاً ولا عقائدية، وهم بالطبع أكثر انقياداً واستسلاماً، لكن مثل هذا المنتسب الحزبي هو من أكثر العوامل والعناصر المؤلفة لهيكلية الحزب ثقةً وتقرباً عند القائمين عليه).
وأمر طبيعي أن النظام السياسي الذي تنتجه أحزاب لا تؤمن بالديمقراطية والاستشارة، سوف يبتعد كل البعد عن التعددية، لذا يمكننا أن نلحظ بدقة، ما يفرزه التعسف القيادي للحزب السياسي أثناء أداء دوره في الساحة السياسية، فحين يبدأ أعضاء الحزب حياتهم الحزبية بالتملق والتزلف والكذب لقائد الحزب، فإن العواقب لابد أن تكون وخيمة على قادة الحزب وأعضائه جميعا، ومع ذلك يبقى العضو المنافق والمتملق هو الأقرب للقائد من غيره إذا كانت القيادة فردية، وهذا سينتقل بدوره إلى النظام السياسي حيث يكون الاستبداد والفردية منهجا له، ولكن هناك من يعترض على هذا النوع من القيادة المتجبرة، فيعلن اعتراضه بصوت عال ولا يخشى العواقب مهما كانت صعبة، على العكس من الأعضاء المتملقين، حيث غالبا ما يكونوا مقربين من القائد الأوحد للحزب حتى لو كانوا كاذبين، بينما يجب أن يسود الوعي والتفكير والمشاركة في صنع القرار الحزبي والحكومي من قبل الجميع حتى لو تم ذلك بالنيابة أو التمثيل.
يقول الإمام الشيرازي:
(على العكس مـن ذلك فـإن الأفراد الشجعان من ذوي الإيمان والإرادة والذين لا يتلاءم طبعهم الذاتي مع الانقياد الأعمى والطاعة المطلقة، لا يمكنهم أن يكونوا موضعَ ثقة واطمئنان هؤلاء القائمين والمشرفين على شؤون الحزب بل لا يمر زمان إلاّ ويُطردون من الحزب).
ما هو خطر الأحزاب على الحكومة؟
هل هناك خطر من الممكن أن تتسبب به الأحزاب السياسية على الدولة والحكومة والشعب؟، بالطبع ستأتي الإجابة بنعم، ولعله من اخطر ما تفرزه مثل هذه الأحزاب في الساحة السياسية، أنها لا تسهم قط في البناء الدستوري للحكومة او دولة المؤسسات، كونها أحزاب قائمة على التفرد بالسلطة، ولا تعتني بآراء أعضائها، ولا تعطي اهمية للصوت الذي يعارضها سواء من داخل الحزب او من خارجه، لذلك فإن مثل هذه الاحزاب التي تفتقد للاستشارة وحرية التحاور والتشارك في اتخاذ القرار وما شابه، لابد أنها تؤول للسقوط، بسبب عدم قدرتها على تمثيل مصالح الجماهير، ولعل النتيجة الأكثر خطورة تتمثل في ابتعاد الجماهير عن الأحزاب، بل ومقتها للانخراط في العمل الحزبي، بسبب غياب الثقة الجماهيرية بها، كونها تمثل صورة مصغرة للدكتاتورية وغياب حرية الرأي، مما يؤدي الى انتعاش الكذب والغش في الإدارة الفاشلة لشؤون بعض الأحزاب وأعضائها، وثمة مشكلة تتمثل في ابتعاد الشعب عن الأحزاب، إذا كانت قيادتها دكتاتورية، لسبب واضح وبسيط أن الشعب لا يثق بالحكومة المستبدة، فكيف يثق بالأحزاب التي تقودها قيادات دكتاتورية؟؟ لذلك في هذه الحالة، تكون هناك فجوة كبيرة بين الشعب وحكومته، وهذا يجعلها غير دستورية، او فاقدة للشرعية بسبب عدم قبول الجماهير على أدائها، ومن تجربتنا الشخصية مع الأحزاب ملاحظ فقدان تأثيرها في المجتمع بسبب انتفاء رابط الثقاة بين الطرفين.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(في البلدان النامية، تفقد الأحزاب تلقائياً نفوذها الاجتماعي وطبيعتها الشعبية إذا كانت مُمثلةً بصورة مباشرة للحكومات والنظم السياسية والاجتماعية القائمة في البلاد، فانّ مثل هذه الأحزاب تفتقد للجاذبية السياسية والشعبية، وذلك لأنّها ديكتاتورية بطبيعتها، والديكتاتور ينفضّ الناس من حوله وإنّما يبقى بمشنقته وسجنه وتعذيبه).
فما هي الضوابط والأساليب التي تقرّب الأحزاب من الجماهير؟، في الواقع قادة الأحزاب وقواعدها تعرف الإجابة أكثر من سواها، فإذا أراد الحزب أن يكسب الجماهير، عليه أن يتمسك بالقانون، ويحرص على تطبيق الدستور، وينبغي أن يبدأ بنفسه أو وأعضائه، دعما للحكومة الدستورية، وفي حالة حصول العكس، أي عندما لا يكون الحزب ديمقراطيا استشاريا، فإنه لا يمكن أن يسهم في البناء الدستوري للحكومة، وهكذا سيؤدي فقدان الحزب لمنهج الشورى الى عزله عن الشعب شيئا فشيئا، وقد هذا هو السبب الذي يقف وراء فتور العلاقة بين الأحزاب السياسية والشعوب النامية، وهي ظاهرة أمكن ملاحظتها من لدن علماء السياسة والمعنيين، فعندما لا يستطيع الحزب أن يمثل تطلعات الناس، فإن السبب يكمن في قيادته وطريقة أدائها، وربما معظم الأحزاب الكبيرة تكون على هذه الشاكلة، وقد أثارت هذه الظاهرة، جملة من الأسئلة لدى النخب، كونها أدت الى قطيعة بين الأحزاب والجماهير، وفشل في المشاركة بالبناء الدستوري السليم للمنهج التعددي في إدارة الدولة مع ضبط الأمور الإدارية بقوة الالتزام الأخلاقي والمبدئي الذي يحمي الحقوق والحريات على أفضل وجه.
يقول الإمام الشيرازي:
(تبقى هناك أسئلة حائرة على أًلسنة المثقفين والذيـن فوجئوا بالأحزاب وذاقوا الويلات وهي: هل للأحزاب مقدرة على تجسيد الخيارات الاجتماعية للشعوب؟ وهل هي قادرة على التعبير عن رؤيتها العالمية وتحسسها بقضايا الأمة؟؟؟).
لذلك إذا أرادت الأحزاب السياسية المشارِكة في الانتخابات البرلمانية التي باتت على الأبواب، أن تصحح المسار السياسي للعراق بعد هذه السنوات الطويلة في إدارة الحكم، فما عليها إلا قراءة المنهج الاستشاري وبناء الحكومة التعددية الحامية لجميع الحقوق بغض النظر عن الهويات الفرعية للمكونات العراقية المختلفة.
اضف تعليق