إن حُسن الاستنباط والتـطبيق لا يـكون إلاّ بالاستشارية، لذلك نجد إنّ الحكومات التي قامت باسم الإسلام في هذا العصر، لم يمضِ إلاّ زمن يسير عليها، حتى انفضَّ الناس من حولها، ثم عملوا لتقويض تلك الحكومات...
من القضايا التي تم حسمها تاريخيا وواقعيا، أن التقدم الموسوعي، أو ما يسمى بالتقدم الكلّي، أي في المجالات المختلفة، يقتضي تطبيق الشورى في إدارة السلطة، وليس ثمة مغالاة إذا قلنا أن النظام السياسي الذي يفتقر للشورى، يحفر حتفه بنفسه، لأنه يدير ظهره لهذا المنهج أو المبدأ أو القانون، ونعني به الشورى، وثمة معادلة من الصعب نكرانها، او تجاوز نتائجها، تساعد في بناء الأمم والشعوب كما ينبغي، تنص هذه المعادلة على أنه، كلما ازداد وعي الأمة، وتبلور فكرها، واعتمدت الشورى في إدارة شؤونها، كلما تقدمت خطوة في طريق التقدم والازدهار والتميز.
فالنسبة والتناسب هنا في هذا الأمر تكون طردية، أو بمعنى أدق تصاعدية، أي أننا كلّما عثرنا على تطبيق سليم لمبدأ الشورى في حياة الأمة، سنجد التقدم والازدهار حاضرا، ويصح العكس بطبيعة الحال، وهكذا لابد أن يكون المعيار الذي يحدد مدى تقدم الأمم، مرتبطا بمدى الرقي الفكري السائد في تنظيم حراكها وأنشطتها كافة، ولعل التشاور ورفض القسر والإجبار في التعاطي مع شؤون الحياة لا ينتج إلا في ظل تسيّد الأفكار الناضجة والوعي الايجابي المعاصر، بالإضافة إلى اعتماد مبدأ الشورى من قبل النظام السياسي الحاكم في الدولة.
يرى الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (يرحمه الله)، في كتابه الموسوم بـ (الشورى في الإسلام):
(إنّ الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم، يحتاجون إلى ملء أذهانهم، فكما انّ الجائع يخرج على مَن أجاعهُ بالإضراب والمظاهرة، حيث ورد: "عجبتُ للفقراءِ كيفَ لا يخرجونَ بالسَّيف على الأغنياءِ"، كذلك من لا يستشار يخرج على من أجاع فكرهُ).
فحين يجوع الإنسان لا يمكن أن يسكت أو يبقى حبيس الصمت، بل يسعى لإعلان حالة الاحتجاج والانتفاض على الحاكم وحكومته، وكذا الحال عندما يتم إهمال مبدأ الشورى في إدارة الحكم، لذلك حين تبحث الأمة عن التطور في السياسة لابد أنها تعتمد الفكر المتقدم، وهكذا تأتي الحاجة الى الفكر والأجواء المتحررة مساوية لحاجة الإنسان للفكر كغذاء للعقل والروح معا، وحين يجوع العقل او الروح، فإن هذا النوع من الجوع لا يقل أذى عن الجوع المادي الجسدي.
فالحاكم والحكومة التي لا تسعى لتطوير قدراتها السياسية ومنهجا الفكري، فسوف تكون محل رصد ومراقبة الناس، لأن الشعوب الواعية تراقب حكامها بصورة دقيقة، وحين تشعر بأنهم متجبرون وطغاة، هم وحكوماتهم، فإنها سوف تبذل قصارى جهودها لإزاحة الحاكم وحكومته.
الشورى وحسن الاستنباط والتطبيق
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي على:
(أنّ الناس عندما يرون أن الحاكم لا يُطبَّق قانون الشورى ينفضّون من حوله ثم يثورون عليه حـتى إسقاطه).
ولهذا فإن مآل الحكومات المتجبرة هو السقوط الحتمي بسبب غياب الحرية وفرض ما تراه السلطة الحاكمة من دون أخذ حاجيات الأمة بنظر الاعتبار، كما يحدث اليوم في بعض الدول الإسلامية حيث تتقدم مصالح الحكام على مصالح الشعوب، والسبب هو عدم كفاءة الحاكم وحكومته بسبب عدم اعتماده منهج الشورى بالصورة الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وليس كما يريدها الحاكم.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(إن حُسن الاستنباط والتـطبيق لا يـكون إلاّ بالاستشارية، لذلك نجد إنّ الحكومات التي قامت باسم الإسلام في هذا العصر، لم يمضِ إلاّ زمن يسير عليها، حتى انفضَّ الناس من حولها، ثم عملوا لتقويض تلك الحكومات).
ومما يعتمده بعض الحكام بسبب غبائهم، أنهم بدلا من الاتعاظ واعتماد الشورى في حكمهم، يذهبون إلى الأسلوب المعاكس تماما، فيفتحون أبواب السجون للناس، ويلقون بالمعارضين في الزنازين المظلمة، لأنهم يظنون بأن هذا الأسلوب سوف ينهي المعرضة، لكنها تتزايد أكثر فأكثر بسبب الاستفزاز وتواصل الصراع بين الحاكم المستبد والأمة، وهكذا يبدأ الصراع ويتصاعد بين الشعب الباحث عن حرياته وحقوقه وبين الحكومة المستبدة التي تحاول أن تفرض أجنداتها وتحمي مصالحها بالقوة على حساب مصالح الشعب، فتبدأ رحلة الخداع التي غالبا ما يلجأ إليها الحكام الطغاة، إذ أنهم يقربون الإمعات والمرتزقة منهم لكي يؤيدوهم في أفعالهم وأعمالهم السيئة، ويوظفون الإعلام لصالحهم، وفي نفس الوقت يتحدثون عن الحرية والديمقراطية ويدّعون بأنهم يعملون بها، في الوقت الذي يقمعون شعوبهم بقوة السلاح والسجون وانتهاج أساليب التعذيب والقمع وحتى التصفية الجسدية عبر الإعدامات أو الاغتيالات بأساليب الغدر التي تلتصق بواقع وتاريخ جميع الأنظمة الدكتاتورية.
الإمام الشيرازي لاحظ هذا الأسلوب المخادع لبعض الحكام، فقال في كتابه نفسه:
(في ذات الوقت الذي يتكلم فيه الحكام حول الديمقراطية والشورى نجدهم يقربون المصفقين والمهرجين والمُرتزقة والإمعّات لهم بأموال الأمة ليسبّحوا بحمدهم في الإعلام).
ويقول سماحته: (ونجد هؤلاء الحكام يفتحون أبواب السجون لأصحاب الفكر والـرأي، وينصبون المشانق لكل حرّ، والويل لمن فتح فمه بكلمة واحدة، ظناً منهم أن السجون والمشانق ستقمع الصوت الحر والإرادة النبيلة).
اليأس واندلاع شعلة الاحتجاج
وفي الغالب تنطلق شعلة الاحتجاج عندما تصل الأمة إلى حافة اليأس، وفي نفس الوقت يصل الاستبداد إلى مستوى الذروة حينها يستعرّ الصراع بين الشعوب المظلومة من جهة وبين حكامها الذين يدّعون أنهم مسلمون من جهة ثانية، وغالبا ما تكون الغلبة للشعوب في نهاية المطاف، ولكن الأمر الغريب أن الحكومات المستبدة لا تريد أن تتعظ من تجارب غيرها، على الرغم من أن جميع التجارب والدلائل والأسانيد تؤكد غلبة الشعوب على حكامها المستبدين، حيث تعرض لنا صفحات التاريخ فضائح أنظمة الحكم القمعية، ونهاياتها التي تأتي عليهم جميعا عبر ثورات كبيرة يعجز الحكام الطغاة عن إطفائها أو حتى تقليل أوارها، بعد أن قام هؤلاء الحكام وحكوماتهم بكل الأفعال والأعمال التي يندى لها الجبين على المستوى الإنساني، ولكن في نهاية المطاف، لا يصحّ إلا الصحيح.
يقول الإمام الشيرازي:
(لذلك ترى الحكام أكثر إمعاناً في سلب الأموال، وقتل الناس الأبرياء، وتكثير السجون، وتخريب البـلاد، وإذلال العباد، ممن سبقهم الذين ما كانوا يسمون أنفسهم بالإسلاميين).
لذلك لم يذكر التاريخ حالة واحدة تفوق فيها الحاكم المتسلط الذي يهمل الشورى على شعبه، حتى لو استخدم أبشع طرق الاستبداد، ففي كل الأحوال وكما تشير التجارب يكون الطرف الخاسر هو الحاكم الإسلامي بالاسم والذي يستبد برأيه ويفرض ما يراه صحيحا بالقوة على الشعب، وهو ما يقود دائما الى التعجيل بإسقاطه، لأنه يتجاوز مبدأ الشورى الى القسر والإجبار والإكراه بكل أنواعه، أملا بإطفاء جذوة المعارضة والرضوخ للحاكم القمعي تحت قبضة الاستبداد، ولكن هذا محال، فالسقوط الحتمي هو مآل مثل هؤلاء الحكام دائما.
لذلك يقول الإمام الشيرازي:
(إنّ عدم تطبيق الشورى سيجعل الفاصلة بين الحاكم والمحكومين شاسعة وكبيرة، فيأخذ كل طرف بقذف الطرف الآخر، وهنا يبدأ الصراع، فيأخذ الحاكم الـذي يسمي نفسه بالإسلامي بمهاجمة المسلمين ويقذفهم بمختلف التهم).
اضف تعليق