ثمة علاقة جدلية تنشأ بين الفرد والمجتمع، تنتهي إلى نتائج نوعية على صعيدين أو في مسارين متعاكسين، فأما أن يتطور المجتمع ويمضي إلى أمام بحسب قدرات الفرد ومؤهلاته وملَكاته، وأما يحدث العكس حين يكون الفرد غير ذلك، أي حين يكون العضو في الجماعة خاملا مترددا قليل الإطلاع والعلم، غير واثق بنفسه، غير مدرَّب، وبلا مؤهلات داعمة لشخصيته، فإنه في هذه الحالة سوف يكون عامل إضافي لتأخر الجماعة.
فالجماعة تتشكل من مجموع أعضائها، كما نلاحظ في هيكلية الأحزاب السياسية أو سواها من الجماعات، فإذ كان الفرد أو العضو متميزا فاعلا مؤثرا، فهذه الصفات والملَكات سوف تصب في صالح الجماعة، ولعل الأحزاب الناجحة هي تلك التي تتكون من قيادة نشيطة ذكية مقتدرة، ولكن يجب أن يتميز أعضاؤها بالتفرد في المؤهلات والإمكانيات الذاتية والمكتسبة، لذلك ينبغي أن يتم استقطاب الأفراد الجيدين دائما كي تتشكل من مجموعهم جماعة فاعلة مؤثرة وناهضة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في مضمون أحد مؤلَّفاته عن (شروط تقدّم الجماعات):
(الجماعة إنما تتركب من الأفراد، كما أن المجتمع الكبير إنما يتركب من الجماعات، فإن صلح الفرد وكان بالمستوى اللائق في الإطار الفكري المناسب، صلحت الجماعة، لأنها ليست إلاّ أفراداً، وإذا صلحت الجماعات صلح المجتمع الكبير، والعكس بالعكس).
أما التساؤل عن ماهيّة المؤهلات التي ينبغي أن يتميز بها الفرد كي يكون متميزا في تفكيره وفعله ومجمل نشاطاته، فهي الهدوء، وصفاء الذهن، والنظرة البعيدة المدى، وكذلك التوازن الفكري والعملي، حتى تكون الحصيلة مضمونة النجاح للفرد نفسه وللجماعة في نفس الوقت.
يقول الإمام الشيرازي: من مؤهلات العضو المنتمي للجماعة (الهدوء والصفاء والتوازن الفكري والعملي، لأن القلق والهياج والخلط فيهما خليقة بأن تجعل من الإنسان عضواً فاسداً مفسداً، فهو لا يبتعد عن القدرة فقط، بل يسقط قدراته أيضاً في الوصول).
دور الإيحاء في التأثير الأخلاقي
ولن يتوقف دور الفرد عند مؤهلاته وجودتها فحسب، ولا في نشاطه الدؤوب، فالحقيقة هناك ما هو أهم من امتلاك الفرد للمزايا الجيدة والملَكات المتميزة، فهناك شيء أهم من هذا وذاك، ألا وهو قدرة هذا الفرد على التأثير في الآخرين، من خلال الإيحاء لهم بما يفكر ويفعل ويطبق في العالم الواقعي العملي، ومن ثم التأثير العالي فيهم من خلال قوة الإيحاء التي تبثّها شخصيته في إطار الجماعة.
هذه الصفات والقدرات والخصال، أي قدرة الإيحاء التي تؤثر في الآخرين هي من سمات القادة الكبار، وأيضا من صفات الأفراد الذي يتحلون بقدرات متميزة وكبيرة على مستوى التفكير والعمل والتخطيط والإدارة، وامتلاك مفاتيح النجاح على نحو دائم، وكذلك إمكانية التأثير في الآخرين عندما يحدث نوع من الهياج والانفعال حيث تكون خصلة الهدوء مؤثرة جدا في الآخرين.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب:
(ينبغي أن يكون عضو الجماعة متصفاً بالصفات الحسنة، كذلك يلزم أن يكون له الإيحاء بهذه الصفات إلى غيره، فإن للإيحاء أيضاً تأثيراً كبيراً في كبح جماع الهياج الذي قد يحدث عند النقاش في الاجتماعات).
كذلك هنالك محدّدات ذاتية ينبغي أن يمتلكها عضو الجماعة الفاعل، ومنها وربما أهمها السيطرة على انفعاله ومشاعره في حالة استدراجه إلى العصبية والهياج في النقاش وسواه من الأمور التي تسبب نوعا من الهياج في النقاش أو غيره، وإذا امتلك الشخص القدرة على نفسه وذهب إلى الاعتزال ليهدّئ نفسه والآخرين، فإنه في مثل هذه الحالة سوف يمنح الجميع فرصة للمضي في النقاش الهادئ السليم المجدي، علما أن الركون للهدوء والعزلة المؤقتة سوف تمنح الإنسان فرصة كبيرة لرؤية صحيحة ومفيدة للجميع.
يقول الإمام الشيرازي: (على العضو إذا رأى من نفسه هياجاً لا يتمكن من كبحه، أو رأى ذلك في النقاش، أن يعتزل انعزالاً بسلام، لا بشدة ليهدّئ من نفسه ومن الآخرين، والانعزال في هذا الحال يعطي الإنسان الهدوء الذي يهيئ المناخ الملائم للتفكير وتحري المخرج).
السير نحو الهدف مباشرة
وقد تكون هنالك مؤثرات تفرّغ الهدوء من جودته وتأثيره، يحدث ذلك عندما ينشغل الفرد والجماعة أثناء الجدل والنقاش بالأمور الجانبية، خاصة أنها لا تصب في الهدف المطلوب ولا تساعد على التركيز وتشتت أفكار الجميع، ويتم هدر الوقت والأفكار وينتهي الجميع إلى نتيجة ليست ذات جدوى.
فالمهم دائما أن ينظر الفرد إلى الهدف الذي يسعى إليه مباشرة، وينبغي أن لا ينشغل بالفروع، أو بالأمور والأفكار الجانبية التي تخرج عن لب الفكرة أو الموضوع الذي يذهب بالجميع إلى هدفهم مباشرة، لهذا على الفرد الناجح أن لا يضيّع الوقت والجهد والتفكير بالانشغال في أمور لا تدفعه إلى الأمام نحو هدفه المباشر.
وهذا يستدعي بالطبع، التركيز الفكري والتوازن النفسي، والتأني في الدخول في مساجلات غير مجدية، أو جدل بيزنطي يحرم الجميع من بلوغ الهدف أو النتيجة المرتجاة، وفي هذه الحالة ستشمل الخسارة الجميع، الفرد والجماعة بلا استثناء.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(مما يؤثر سلباً على الهدوء الدخول في الأمور الجانبية، فإن المهم عند النقاش أن ينظر الإنسان إلى الهدف ويسير إليه، ولا يدخل فيما لا يهم الأمر).
(يجب أن لا يقول السياسي القدير أبداً أن له أتعاباً كثيرة، وأنه مشغول الذهن، وأنه لا يستجيب ذهنه، أو لا يسعه عمله، فإن كل ذلك يوحي إلى النفس بما يقوله الإنسان، وينتهي به الأمر إلى الاعتقاد بصحة ما يقول).
ومما يساعد الفرد والجماعة، خاصة إذا كان التخصص سياسي، القدرة على الصبر ومواجهة المشاكل بتأن وامتلاك القدرة والرؤية الواضحة للسير الحثيث نحو الهدف المبتغى، فالصبر من أقوى سمات القدرة، حيث يقول الله تعالى: (ولمن صبر وظفر أن ذلك من عزم الأمر).
في حين يؤكد الإمام الشيرازي على الصبر الذي ينبغي أن يتحلى به الفرد، كذلك على السياسي وجميع من يجد قدراته في السياسة، أن يحصن نفسه وفكره وقراراته وكل ما يتخذ من خطوات بخصلة الصبر التي سوف تساعده على بلوغ أهدافه بنجاح كبير، فثمة مزايا كبيرة للصبر.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على أن الصبر هو:
(الضمان لحفظ النظام ولحفظ الهدوء، ولتبصر العواقب ولمعرفة ارتباط الأشياء بعضها ببعض).
كما أن صبر الفرد خصوصا في المواقف الحرجة والأوقات العصيبة، يمكن أن يشكل مصدر الإدارة الجيدة وقدرتها على الوصول إلى بر الأمان بالفرد والجماعة معا، إذ يؤكد الإمام الشيرازي على أن: (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد)، فإنه المسيطر المسيّر للأمور، كما أن الرأس هو المسير للأعضاء والمسيطر عليها.
اضف تعليق