عندما نستكشف اليوم، تجارب الدول ذات التجارب الديمقراطية البليغة، فإننا سوف نتوصل إلى جملة من الدروس التي يمكن أن تفيدنا اليوم كعراقيين، باعتبارنا تحولنا من حقبة الأنظمة الدكتاتورية العسكرية الفردية، إلى بداية حقبة جديدة، تتخذ من الديمقراطية والتعددية طريقا وأسلوبا لتداول السلطة، لذلك تم في الدول الحرة استحداث مؤسسة البرلمان التي تتألف من أعضاء يتم تحديد عددهم بحسب النسبة السكانية ووفقا لقانون الانتخابات التي تنظّم أنشطة النظام السياسي.
وكما هو معلوم فإن أعضاء البرلمان هم ممثلو الشعب بحسب اختيار الأخير لهم، لذلك فإن أي قرار يتخذه البرلمان بشأن قرارات وإجراءات الحكومة، يعدّ صادرا من ممثلي الشعب وبالتالي يمثل رأي الشعب، وحين تم استحداث البرلمان في الدول الحرة، فكان الهدف الأول هو الحد من سلطة الحاكم المطلقة، وتحديد صلاحياته، ثم شيئا فشيئا، تطورت صلاحيات البرلمان ليصبح هو المصدر الأساس للسلطة، ويمكنه أن يحدد الحكومة بإجراءات تلزمها بما يؤدي إلى صالح الشعب، ويحد من هدر المال العام، أو فساد المسؤولين في قضايا صرف أموال الشعب.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام):
(في البلدان التي تعتبر اليوم من دول العالم الحر، استحدث البرلمان في البداية من اجل تحديد وتحجيم السلطة الديكتاتورية المطلقة للحاكم ولغرض تحديد نفقات ومصروفات المؤسسات الحكومية).
ولا يمكن أن تكون الانتخابات مجدية ما لم تمكّن الأحزاب السياسية الناشطة في الميدان السياسي، من حرية الاختيار بين قطبين مختلفين هما الحكومة والمعارضة، لذلك من محاسن الحكومة الديمقراطية أنها تمنح فرصة الاختيار للعمل في أحد القطبين، أي أنها تعطي للعاملين في السياسة حرية الانضمام للمعارضة التي يكون دورها في ظل التعددية مراقبة الحكومة وتعديل أخطائها وفق الدستور، أي أن أحزاب المعارضة لا تسمح للحكومة بكل الصلاحيات كما هو الحال في الأنظمة الدكتاتورية.
لهذا فإن أهم فوائد النظام الديمقراطي تكمن في أنه يتيح للأحزاب السياسية تأسيس المنظمات التي تشكل ما يشبه جماعات الضغط على الحكومة مع مسؤولية الأخيرة عن دعم الأحزاب والمنظمات بشرط إسهامها الفعلي في مراقبة النظام السياسي، وعدم السماح للسلطة التنفيذية بتجاوز الحدود المنصوص عليها بشأن صلاحياتها وإجراءاتها التي لا يجوز أن تشكل تجاوزا على حقوق الشعب، كالحريات، والحفاظ على الثروات الوطنية، والمال العام من فساد بعض المسؤولين.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه:
إن (الحكومة الديمقراطية تتيحُ للأحزاب المعارضـة حرية التعبير، وتأسيس منظماتها وتدعيم قدراتها بل أنّها تسهِّل لها مثل هذه الأمور).
النظام الانتخابي بعيدا عن التزوير
وثمة فارق كبير في الانتخابات التي تجري في ظل الأنظمة التعددية والأنظمة الدكتاتورية، ففي ظل الأنظمة الأولى ستكون الانتخابات نزيهة شفافة إذا ما كانت هناك رغبة صادقة في إجرائها وفقا للدستور وضوابطه، مع أهمية تهيئة الأجواء المطلوبة والمناسبة لهذا النوع من الانتخاب، وخصوصا حسم قضية التزوير التي غالبا ما يتخوّف منها الشعب العراقي، بالإضافة إلى لجوء بعض النواب في بعض الأحزاب السياسية إلى تزوير شهاداتهم الدراسية حتى يتمكن من المشاركة والترشيح، فيشوب الانتخابات الديمقراطية أخطاء قد تقود بالنتيجة إلى فشل النظام السياسي الذي يقود البلد.
أما في ظل النظام الدكتاتوري، فسوف تكون انتخابات شكلية تنتهي بشكل آلي لصالح الدكتاتور، وقد جرّب العراق هذا النوع من الانتخاب الشكلي في ظل بعض الأنظمة الفردية، وآخرها في النظام السياسي الدكتاتوري السابق، حيث كانت عملية الانتخاب تجري بشكل مفبرك ومعدّ له مسبقا، حيث لا يُسمَح بمنافسة الحاكم المطلق لأي مرشّح آخر، وكانت تأتي النتائج بنسب عالية تصل إلى 99% لصالح الحاكم الدكتاتور، وكان الشعب مجبرا بالقوة للمشاركة في الانتخابات الشكلية.
الإمام الشيرازي الراحل، يقول حول هذا الموضوع:
(في الأنظمة الحرة تجري الانتخابات، بعيداً عن التزوير، أما في الأنظمة الديكتاتورية فليست هناك انتخابات، وإذا ما جرت انتخابات، فإنّهـا تكون عادة انتخابات مزورة وغير حقيقية).
لذلك تؤدي هذه العملية الانتخابية المفروضة على الشعب في ظل النظام الدكتاتوري، إلى مساوئ سياسية واقتصادية خطيرة، والأكثر من ذلك تؤدي إلى نشر الأمراض النفسية التي تؤدي بدورها إلى انتشار القنوط واليأس بين المواطنين، بسبب إجبارهم على المشاركة في انتخابات كاذبة أو شكلية، في حين نجد أن هنالك اختلافا كبيرة في الوضع النفسي للمواطن في ظل الأنظمة الديمقراطية، حيث يسود الأمل بينهم، ويتطلع المواطنون إلى الحياة بتفاؤل، فتكون حياتهم أفضل بكثير من حياة الناس في ظل الأنظمة الدكتاتورية.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا الفارق النفسي في ظل النظامين الديمقراطي والدكتاتوري في قوله:
(هناك فرق كبير بين النفسية السائدة فـي ظل الحكم الديمقراطي والنفسية في النظام الديكتاتوري).
دور البرلمان الرقابي
وكما في كل الأمور التي يتطور نموّها بالتدريج، تطور دور البرلمان من بدء تشكيله في الأنظمة الحرة شيئا فشيئا، في البداية تم تشكيلها لصالح الحكومات لكي تضفي على قراراتها الشرعية حتى لو كانت تصب في صالحها، وخاصة المصادقة على اللوائح المالية التي تقدمها الحكومة للبرلمان حتى تكون حرة في صرف الأموال، وكان البرلمان يحصل مقابل هذه المصادقة على امتيازات مالية وغيرها.
ولكن مع مرور الزمن تطور الدور الرقابي للبرلمان، ولم يعد للمصالح الفردية وجودا في عمله الرقابي، وهكذا أصبح دوره في نهاية المطاف بالغ الأهمية، خاصة بعد أن أصبحت هذه المؤسسة المنتخَبة من الشعب، ممثلا صادقا له، وصار يتحكم بصورة تامة في عمل الحكومة وإجراءاتها، لدرجة أن الأخيرة لا تجرؤ على اتخاذ أي قرار يتعارض مع مصالح الشعب.
لذلك تطور نظام الرقابة والتقنين والحد من صلاحيات الحكومة مع مرور الزمن، وهذا ما يحتاجه العراقيون اليوم، إذ لابد أن يجري الانتقال من المنفعة الذاتية التي يبحث عنها أعضاء البرلمان، إلى الدور الرقابي المشرّف الذي يجب أن يلعبه البرلمان على الحكومة والسلطات المستقلة الأخرى، بوصفه الممثل الشرعي الوحيد للشعب، ولا بد أن يُتاح للجميع المشاركة في صنع القرار، فهذا هو الدور الأساس للبرلمان.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: لقد (استطاعت المجالس البرلمانية بعد استحداثها أن تحصل على مزايا لصالحها في مقابل مصادقتها على اللوائح المالية للحكومات، وبذلك تمكنت بالتدريج من إحداث إصلاحات في مستوى متطلبات البلاد، وذلك في شكل قوانين جرت المصادقة عليها من جانبها، وتولت بالتدريج مسؤوليـة التقنين والرقابة على الحكومة).
بالنتيجة سوف يتم تحقيق الكثير من التوازنات بين صناعة القرار، وبين أصحاب هذه الصناعة والمشمولين بها، ففي النظام الدكتاتوري، من يصنع القرار هو الحاكم الفرد، أما دور البرلمان فينبغي أن يشرك الشعب والعاملين في الميدان السياسي بالمشاركة في صناعة جميع القرارات التي تصدر من السلطة التنفيذية.
فلا يجوز للحكومة وحدها أن تصنع القرار كما تشاء هي وليس كما يشاء الشعب، لأننا في هذه الحالة سوف نقع تحت سيطرة الفردية والدكتاتورية التي وضعناها خلف ظهورنا منذ من ما يقرب من عقد ونصف، لهذا فإن دور البرلمان كونه ممثلا للشعب، إتاحة أكبر مشاركة ممكنة في صناعة القرار، وإذا تم ذلك بالفعل بطريقة مجزية، فإننا سنقطف كعراقيين ثمار النظام السياسي التعددي الذي لا يتيح لفرد واحد أو حاكم دكتاتور التحكم بمصائر الملايين.
يقول الإمام الشيرازي موضّحا هذا الموضوع:
إن (النظام الانتخابي يجعل القضايا السياسية فـي متناول الناس العاديين والشارع السياسي).
اضف تعليق