في مرحلة لاحقة من نشوء الإنسان، تشكّلت التجمعات السكانية، وظهرت ما أطلق عليها بـ (المجتمعات)، وتكونت من نواة بشرية ما فتئت تتزايد مع الزمن، وجمعت بين أفرادها روابط كثيرة منها رابط التاريخ المشترك، والدين، والعادات والأرض وطرائق العيش والنمط الثقافي الذي يشكل هوية مهمة تميز هذا المجتمع وأعضائه عن المجتمعات الأخرى، وكلما كانت ثقافة المجتمع مصانة ومحمية من الاختراق، كان المجتمع في مأمن من التبعية بكل أشكالها، فحتى التبعية العسكرية أو الاقتصادية سوف تفشل إذا بقي الاستقلال الثقافي صامدا.
ومن المزايا المهمة التي منحت المسلمين قوة ورصانة أبان انطلاق الرسالة النبوية، حرصهم على بقاء ثقافتهم عصيّة على التذويب والاختراق، مما أعطى لهم ميزة الصمود ضد الثقافات الوافدة ومغرياتها، وقد أدرك علماء المسلمين هذه الأهمية التي تقدمها الثقافة الرصينة للأمة، فمنحوا هذا الجانب اهتماما يستحقه بالفعل، وشرحوا التأثيرات الكبيرة للثقافة على بقاء الأمة مستقلة في تفكيرها وسياساتها وتعليمها وقراراتها وإدارة شؤون حياتها.
ومن هؤلاء العلماء الذين أفنوا أعمارهم في تدعيم الثقافة المستقلة، الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، وقد خاض في موضوع الاستقلال الثقافي بجدية ومثابرة وعلمية وتنوع، حتى أنه إضافة إلى تعريجه على الثقافة المستقلة في كتب ومؤلَّفات عديدة، إلا أن سماحته خصصّ كتابا لهذا الفحوى لإشباعه فكرا ومعنى ومغزى، وقد أسمى كتابه بـ (ثقافة التحرير)، حيث عالج فيه بتركيز كبير مسألة الاستقلال الثقافي، وأهمية أن يحرص الجميع بلا استثناء على هذا الهدف.
يقول الإمام الشيرازي، في كتابه القيّم الموسوم بـ (ثقافة التحرير) حول الأسباب التي دعته لتأليفه: (لقد كتبت كتاب - ثقافة التحرير- للإشارة إلى الأسس التي تُبنى عليها ثقافة التحرّر وتتخلص من نير الغرب والشرق عبر الاستقلال الثقافي، الذي هو مقدمة للاستقلال السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي وغيرها).
فالاستقلال الثقافي كما يركّز الإمام الشيرازي على ذلك، يعني استقلالا عن الآخرين في المجالات كافة، والمعني بالاستقلال هنا ليس الانغلاق والعزلة، بل صيانة الهوية والخصوصية مع الانفتاح على الثقافات الأخرى بما يفيد ثقافتنا ويمدّها بالقوة وليس جعْلها ثقافة تابعة ذائبة في الثقافات الأخرى، لأن التبعية الثقافية تعني التبعية في كل شيء للآخر.
المسلمون تعرضوا للظلم والحيف
وكما هو واضح وتبعا لطبيعة بعض الأمم القائمة على الانتهاك والتجاوز، تشكلت ظاهرة الاستعمار التي بدأت بشكلها العسكري، ثم تحولت الى الاستعمار الاقتصادي، ليكتشف هؤلاء أن الطريق الأقرب لمسخ الأمم الأخرى ومنها أمة المسلمين وضمان تبعيتها هي التذويب الثقافي، لذلك سعى ويسعى المستعمرون الى استخدام الوسائل الكفيلة بإعاقة تقدم المسلمين، عبر إثارة الفتن والإرهاب وصنع الأزمات، وهي عوائق لا يمكن التصدي لها من قبل المسلمين إذا تم اختراق ثقافتهم.
ما جعل الإمام الشيرازي يؤكد في كتاب ثقافة التحرير على أنه: (من أهم وسائل المستعمرين في بلاد الإسلام ــ بل في كل العالم الثالث ــ الإرهاب والأزمات، وذلك لإشغال الناس بالتوافه عن التفكير في مصيرهم الأسود وحاضرهم البائس).
ولأن المسلمين يمثلون مصدرا فكريا عميقا، وبؤرة لانطلاق العلم بأنواعه، ومبدئية عالية، ورباطة جأش وتمسك بالقيم، فقد بات من المهم اختراقهم ثقافيا وعدم السماح لهم بالاستقلال الثقافي، وهذا يؤكد أن البلدان الطامعة بخيرات المسلمين، تحاول أن تشغلهم عن الهدف الأسمى، وهو تحقيق الانسجام بين مبادئ الإسلام والحضارة عبر ثقافة مستقلة ورصينة وحديثة المنحى، وهو أمر لا يتضارب مع ما تؤسس له ثقافتنا التي تحترم الآخرين وخياراتهم، وتسعى للحفاظ على خصوصية المسلمين عبر الثقافة المستقلة.
ولكن لم يتوقف الآخرون عن إبداء طمعهم وعدائهم ، ما جعل من الإمام الشيرازي أن يحذّر من ذلك، خصوصا بعد أن تعرض المسلمون إلى ظلم وحيف كبير، من قبل الدول الاستعمارية التي تعد من الدول العظمى المتحكمة بالعالم، لهذا يتطلب الأمر القيام بخطوات حتمية، لرفع الحيف عن المسلمين، وفتح أبواب العلم والثقافة أمامهم لتعزيز استقلالهم الثقافي أكثر فأكثر، حتى تتوافر لهم القدرة على مواجهة التبعية الثقافية، التي هي في حقيقة الأمر حماية ضد التبعات الأخرى الاقتصادية والفكرية والسلوكية وسوى ذلك، يستدعي ذلك القيام بخطوات فعالة علمية عملية، لنشر الثقافة والوعي الحامي للعقول من الثقافات الطامعة الدخيلة، بالإضافة الى نشر مبادئ الإسلام وثقافته في الغرب نفسه لتقليل درجة العداء ضد المسلمين.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
ينبغي (نشر الوعي الإسلامي الحضاري للغربيين وللمسلمين بوسائل الإعلام الحديثة حتى يخفف الغرب من عدائه التقليدي للمسلمين، وحتى يعي المسلمون الدور الحضاري الذي يمكن أن يؤدوه هناك لإنقاذ بلاد الإسلام من التخلّف والفوضى).
ثقافة الحرية ودور الأموال في نشرها
لقد عرف الغربيون تمام المعرفة عمق الفكر والثقافة لدى المسلمين، ولهذا نظروا إلى أنها تمثل تهديدا لهم، فقاموا بكل ما في وسعهم لإضعافها ومن ثم إلغاء سمة الاستقلالية التي تتميز بها، من هنا تولّدت رؤى وأساليب وخطوات عملية عند الإمام الشيرازي وليست لفظية او صورية فحسب، بل عندما يطرح سماحته رؤية معينة حول الإشكالية الثقافية، فإن الأمام الشيرازي يرفق ذلك بالبدائل والحلول، وفق تنظير مدعوم بالتخطيط وسبل التنفيذ أيضا، وهنا تكتمل الفائدة من الأفكار في تعضيد الاستقلال الثقافي، وهذه ميزة ينبغي أن يتوفر عليها المصلحون والمفكرون، لأننا بصريح العبارة لسنا بحاجة إلى تدبيج الكلمات ولا تجميل الألفاظ التي لا يتم تطبيقها في الواقع.
ولكي نضرب عصفورين بحجر واحد، هما تعضيد الاستقلال الثقافي وضمان عدم اختراقه من جهة، ومن ثم انفتاح على الإرث الحضاري العالمي من جهة ثانية، وهذا ما ذهب إليه الإمام الشيرازي، وأكد على الوسائل العملية العملية التي تساعد المسلمين، على الدخول في تفاعل مع الفكر العالمي مع الحفاظ على الهوية الثقافية، حتى يتسنى لنا اخذ دور الريادة في المجتمع البشري كله، بسبب توافر القدرات الفكرية والمبدئية في الثقافة الإسلامية، لكن تحقيق هذا الهدف، يحتاج الى رصد الأموال الكافية وهي كبيرة وكثيرة، وينبغي أن تتعاضد على توفيرها الحكومات والأثرياء من الأهالي كالتجار على سبيل المثال، حتى يمكن تحويل الفكر والتخطيط الى عمل مطبّق على الأرض.
يقول الإمام الشيرازي: (من دون بذل المال الوفير لا يمكن أن نبني ثقافة مستقلة).
بالنتيجة فإن تعزيز الاستقلال الثقافي سينتهي بنا الى تصدر قيادة العالم، بعد القناعة التامة وليس بالقوة أو التذويب الثقافي كما يفعل بعضهم، وبهذا يضع الإمام الشيرازي خطوات وبدائل عملية أمام المعنيين، لكي يصنعوا الفرصة الملائمة والدوافع العملية لانطلاق المسلمين في دورهم الريادي، وهنا يركز الإمام على قدرة المسلمين في تحقيق النفع للشرق والغرب معا، من خلال المبادئ التي تشكل دوافع إضافية لتقبل هذا الدور التنويري عالميا.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على جانبين مهمين، تم ذكرهما في صدر هذه الكلمة، الجانب الأول تعزيز الثقافة واستقلالها الدائم، والجانب الثاني الانفتاح المدروس على الحضارة الإنسانية بلا تخوّف أو تردد، مع أهمية حماية الهوية الثقافية، وفائدة هذا التداخل سيكون في صالح الغرب والشرق معا.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه ثقافة التحرير: (من المعلوم أنّ المسلمين إذا دخلوا تحت المظلة الحضارية الحديثة ـ بمبادئهم السماوية ـ يكون ذلك في نفع الغرب والشرق وأمثالهما من البلاد غير الإسلامية).
اضف تعليق