"...في الغرب نلاحظ الالتزام بقوانينهم وقيمهم، بينما نحن بعيدين عن قوانينا وقيمنا، ولا يقول أحدٌ أن في البلاد الاسلامية من يصلي ويصوم ويحج، لان المطلوب أن يلتزم الجميع بهذه الفرائض، بمعنى أن الجميع يحترمون قوانين دينهم، ويحتكمون الى القرآن الكريم، ومتى ما تحقق ذلك، نكون قد خطونا الخطوة الاولى نحو التقدم، ونستعيد تلك القوة الحضارية الشامخة في العالم التي كان تهابها الامبراطوريات والقوى الكبرى في العالم.
إن السبب وراء فقدان القيمة الحضارية للمسلمين في العالم، يعود الى التخلّي عن قوانين الاسلام، وهذه تمثل معادلة إلهية ثابتة وردت في القرآن الكريم: {...نسوا الله فنسيهم}، فالذي ينسى الله –تعالى- فانه ينساه ايضاً، والنتيجة ان العالم يساوي اليوم بين 150مليون عربي مع مليونين انسان في اسرائيل.
ومفردة "نسوا" في المعادلة الإلهية، لا ينصرف لغوياً الى النسيان او السهو، وإنما الى الترك والهجران، بالمقابل استسهال المنكر والبعد عن القوانين الاسلامية بممارسة مختلف اشكال الرذيلة والفساد والانحراف الاجتماعي والاقتصادي، من قبيل الزنا، وتبرّج النساء، والعاب القمار وشرب الخمر والربا وغيرها، فكل هذه وغيرها كثير، باتت عند البعض أمور عادية لا يجب تعظيمها في الاوساط الاجتماعية والثقافية والاعلامية.
والسؤال هنا؛ ما هو السبيل للعودة الى تلك القوانين التي تمثل عناصر قوة ومنعة عظيمة؟
هنالك خطوتان في هذا الطريق:
الخطوة الاولى: تطبيق القوانين الاسلامية حرفياً على الشريحة المثقفة والواعية والمتصدّية لمشروع الإصلاح والتغيير في الامة.
الخطوة الثانية: دعوة الناس لتطبيق الاحكام الاسلامية حرفياً ايضاً.
إن "مرور الكرام" على ظواهر اجتماعية مثل الفقر او التبرّج لدى النساء والفتيات، أو الفساد الاداري، وعدم التدخل لمعالجة الظاهرة ثم إزالتها من الواقع، هو الذي تسبب في السقوط الحضاري للأمة، كما انه يكرس التخلف والحرمان والمزيد من المشاكل المعقدة.
أما الآلية المفضلة فهي؛ اتباع افضل اساليب الكلام اللين والناصح والقوي في نفس الوقت، لتغيير سلوك المرأة المتبرّجة ودعوتها الى ارتداء العباءة لتحقيق الشخصية الانسانية، وايضاً حثّ بعض الناس على التخلّي عن التعامل الربوي في الاسواق، بل والتعاون بين أهالي المنطقة على إغلاق دار يُشار اليها بانها عبارة عن "مبغى" او مكان للدعارة، والتهاون عن التصدّي لمسؤوليات كهذه وعدم الاكتراث بها، هو الذي جعل الامة متخلفة وغير ذات شأن في العالم.
ما علاقة القيم الاخلاقية والدينية بالتقدم العلمي؟
الاكذوبة الكبرى التي انطلت على المسلمين طيلة مائة عام وقرن مضى من الزمن، تسببت في تحويل المساجد الى أشبه بالكنائس، والفرائض الدينية أشبه بالطقوس الدينية قوامها الحركات البدنية بعيداً عن الروح والمعنى، والقرآن الكريم، هذا الكتاب السماوي الذي عظمه العلماء والمفكرون في العالم، اصبح وسيلة للتبرّك تارةً، ولدفع المكاره، تارةً أخرى، و وسيلة لإراحة الموتى في قبورهم، وفي أحسن الفروض؛ إقامة أبهى وأضخم المسابقات للحفظ والتجويد، وما يعقب ذلك من تنافس شديد على التفوق، أما الحج، فهو لا يعدو كونه رحلة لأداء فريضة عبادية وردت في القرآن الكريم، تضفي على شخصية الانسان صفة جديدة يحصل عليها، على وزن؛ "الاستاذ"، أو "الدكتور"، أو "الشيخ"، و غيرها من الصفات التي تعبر عن الانتماء والتخصص.
كل هذه وغيرها من الفرائض الدينية والقيم الاخلاقية لا دخل لها بتقدم الحياة وتطور حياة الانسان، بعد ان غزت السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا الحديثة في تحديث الطرق والمواصلات، وايضاً في تحديث وسائل الدفاع عن النفس، والتي تحولت الى وسائل دمار شامل ينقلب على اصحابه، وبعد الاقتناع بهذه الفكرة، أعلن الطلاق الدائم بين الدين والحياة، والتطلّع بعيداً الى العالم الغربي الذي وصل الى ما وصل اليه انطلاقاً من العقيدة المادية وتقييم الاشياء بالمحسوسات لا المعقولات.
ولكن؛ بعد أن وصل العالم الاسلامي الى ما وصل اليه اليوم من تناحر وتخلف مريع وأزمات متفاقمة ومعقدة، ربما يستحيل حلّها، انكشفت الحقائق عن ذلك العالم الغربي، وأنه ليس ذلك العالم المادي الذي كنا نتصوره بشكل بحت، إنما نهضت الشعوب هناك بالتعاون والتكافل والتزام قيم سامية مثل نبذ الكذب والخيانة والاحتكام الى النظام والقانون والاعتماد على قاعدة الحقوق والواجبات في العلاقة بين المجتمع والدولة، فهل هذه القيم والاحكام والانظمة نشأت من جذور مادية؟
ما تحدث عنه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي قبل حوالي اربعين سنة، يكرره اليوم الشباب الهائمين على وجوههم صوب بلاد الغرب علّهم يحققون حلمهم بالوصول الى البلاد التي تحترم القانون والنظام والانسانية، متناسين أن الشعوب في اوربا او اميركا الشمالية وحتى استراليا، انما تقدموا في المجالات كافة، بالتزامهم بقوانينهم ومبادئهم، فانتفعوا منها واليوم قادرون على أن يصدروا منافع هذه المبادئ الى المسلمين بل وحتى لجميع شعوب العالم التي نخرتها الحروب والازمات السياسية والاقتصادية.
إن لدى المسلمين مفاهيم وقيم أعمق بكثير في دلالاتها وأشمل لنظام الحياة مما يعتقد به الغربيون، فقد بشّر الاسلام بما يكفل تحقيق السعادة الحقيقية للانسان في هذه الحياة من خلال منظومة اخلاقية متكاملة وقيم سماوية سمحاء، فثمة مفاهيم مثل؛ الصدق والامانة والتعاون، وقيم عليا مثل؛ العدل والحرية والمساواة، لها مدخلية في جميع شؤون الحياة، فهي تتجلى في نظام الأسرة الصغيرة في البيت، كما تتجلى في النظام السياسي الكبير والحكومة التي تدير شؤون شعب بأكمله، ولعل هذا يكشف جانباً من معنى الآية الكريمة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، فالصلاة الحقيقية التي يريدها الله –تعالى- لها مدخلية بتقويم سلوك انسان يسكن الى جوار المسجد، و من دون ذلك، فاذا انتشرت المساجد و ازداد عدد المصلون، وبموازاته ازداد عددت المتبرجات في الشارع من اللاتي يظهرن مفاتنهنّ بكل ثقة واعتداد، او عدد المرابين في السوق، فهل تبقى لهذه الصلاة قيمة؟
وإذن؛ لنتصور ونتخيل اذا كنا ملتزمين – بما لدينا من كل تلك القيم والمفاهيم- بنفس التزام الغربيين بقيمهم، كيف يكون حالنا؟
هل كما نراه اليوم، حيث الانحرافات الغريبة تبدأ من الفرد داخل أسرته وتمتد سرطانياً الى محيط عمله ومدرسته وجامعته ولا تنتهي الى الميادين الاقتصادية والسياسية وحتى القضائية؟
إن دعوة الامام الشيرازي لأن نطبق احكام الاسلام حرفياً، ليس من باب النصح والارشاد والتمنّي الجميل، بقدر ما هو نابع من تجربة حضارية ثرية عندما كانت الدولة الاسلامية مُهابة في العالم، فهل كانت الدولة الاخرى، وهي امبراطوريات لها أنظمة حكم وتاريخ وحضارة، تخاف الاسلام مما يمتلكه من أسلحة فتاكة او جيش جرار وعنيف، أو حتى قوة اقتصادية تغزو الاسواق عبر العالم، كما يحصل اليوم؟
يكفي ان نراجع تاريخ دخول الاسلام تحديداً الى دول شرق آسيوية، مثل الصين و اندونيسيا وماليزيا، لنجد أن التعاليم الاسلامية التي يلتزم بها المسلمون هناك حالياً، لم تكن بفضل المبلغين من علماء وخطباء مرسلين من الحواضر الاسلامية، مثل الكوفة او البصرة او بغداد او الشام، وإنما الفضل الى التّجار الذين برزت أخلاقهم وحسن سلوكهم وأمانتهم وصدقهم قبل بضاعتهم لأهل تلك الديار، فاشتروا البضاعة الحسنة عن طيب خاطر، ثم اعتنقوا الدين الاسلامي عن طيب خاطر ايضاً وعن إيمان عميق.
اضف تعليق