التاريخ الإنساني كله عبارة عن صراع طويل من أجل تحرر الإنسان وكفاحه كي يكون سيد نفسه، وتحرره من قيود استعباد البشر وحرمانه له من حقوقه وإجباره على أن يعيش ويفكر وفق نمط خاص يفرض عليه، ولطالما كانت العلاقة وثيقة طول التاريخ بين حرية الإنسان وتقدمه وتطوره، فالتجارب الإنسانية في مختلف العصور هي دليل قاطع على أن تقدم الإنسان وازدهار مستقبله وتطوره مرهون بتحرره من القيود التي تكبل حريته وفكره وحركته، وربما لم تخلُ حقبة على امتداد التاريخ البشري من جدل حول الحرية دعوة إليها أو اعتراض عليها، أو صراع بين المطالبين بها والمعارضين لها، ولا غرو ولا غرابة من ذلك أن يسجل تاريخ المعرفة البشرية قرابة 200 معنى لمفهوم الحرية قدمها باحثون في حقب تاريخية متفاوتة ومختلفة في ظروفها وأحوالها، وذلك لأنها تقع في قلب الحركة التاريخية وهي محور التجاذب بين الإنسان والإطار الاجتماعي الذي يعيش فيه والدولة التي يخضع لسلطتها.
الحرية هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة. مفهوم الحرية يعين بشكل عام شرط الحكم الذاتي في معالجة موضوع ما.
والحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعةأو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض.
في كتابه (نقد العقل العربي – ج3 - العقل الأخلاقي العربي – الفصل الثالث - منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – ط3- بيروت 2009) يشير المفكر الراحل (محمد عابد الجابري) : ((في جميع الديانات وفي جميع الفلسفات لا يعتبر الإنسان مسئولا إلا بما صدر عنه بحرية واختيار. فالحرية هي الشرط الأول في المسؤولية. وسواء تعلق الأمر بالمسئولية أمام القانون أو أمام الله أو بالمسئولية أمام الضمير، وهذه الأخيرة هي " المسؤولية الأخلاقية"، فإن الحرية هي الشرط المسبق، شرط في قيام الأخلاق نفسها، فالمكره على فعل ما، لا يُسأل عليه. ومن هنا مبدأ " الضرورات تبيح المحظورات في الفقه"، فالمضطر في حكم المكره، غير مسئول. والحرية في هذا المجال تعني أن الفعل الحر يصدر عن قصدية، فالفاعل هنا يعرف نتيجة عمله ويقصدها عامدا.
الحرية هي المناط الذي يتيح للإنسان في جميع شؤون حياته حق الاختيار الحر من دون خوف أو طمع أو نفاق أو مصلحة أو إكراه من أحد، وعلى النقيض من ذلك المجتمعات التي تصادر حرية الفرد وتنازعه وتشاركه في حق الاختيار الشخصي بوسائل الإكراه والتخويف، فإن تلك المجتمعات ولغياب مظاهر الاختيار والحرية الفردية تستشري فيها غالباً مظاهر النفاق والرياء والكذب.
الاصلاح
كثرت الأحاديث مؤخراً عن الإصلاح السياسي ووجوب تطبيقه فوراً في العالم العربي لأنه السبيل الأوحد لتلافي بديل الخراب الآتي.
الإصلاح السياسي، مفهوم رئيسي وواحد من اهم المقولات المركزية في الديمقراطيات، وهي عادة ماتأتي في الضد من مصطلح اخر، هو الثورة لما تزخر به كل كلمة من معاني هي على النقيض التام من معاني المصطلح الاخر.
والاصلاح يدل على جملة من العمليات أو السيرورات المترابطة التي تجري في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، وتتجه نحو تحسين نمط الحياة العامة أو نوعيتها وتحسين شروطها باطِّراد، وهي عمليات تشارك فيها جميع القوى والفئات الاجتماعية، بخلاف مفهوم الثورة المقترن بمفهوم (الطليعة الثورية) التي تنوب عن المجتمع، وتوصف بأنها (صورة مصغرة عما يجب أن يكون عليه المجتمع في المستقبل). كما يذهب الى ذلك الباحث السوري جاد الكريم الجباعي.
وتعطي مشاركة جميع القوى والفئات الاجتماعية في عملية الإصلاح المفهوم والعملية معاً طابع العمومية والاعتدال، مقابل تطرف الطليعة الثورية وطابعها الحصري والإقصائي، اشتراكية كانت هذه الطليعة أم قومية أم إسلامية؛ فالاعتدال ملازم لكل ما هو عام، والتطرف ملازم لكل ما هو خاص وحصري وإقصائي. ورابعها الطابع السلمي الملازم للإصلاح عادة، بخلاف الطابع العنفي للثورة.
والإصلاح يمكِّن من إعادة بناء العلاقة الجدلية بين السلطة والمعارضة انطلاقاً من مفهوم الوحدة الوطنية وابتغاء المصلحة العامة المشتركة والخير العام.
والإصلاح، أساس الثورة التي تستحق اسمها، والتي تهدف إلى تحديث المجتمع وتقدمه، لا إلى احتكار السلطة والثروة ومصادر القوة، باسم الأمة أو باسم الطبقة.
وقبل أن يصبح مفهوم الإصلاح، مفهوما متداولا ومستقلا في الأدبيات السياسية الحديثة، فان أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية متضمنة في الكثير من المفاهيم الشائعة مثل: التنمية السياسية، أو التحديث، أو التغيير السياسي، أو التحول، أو التغيير، وجميع هذه المفاهيم تقريباً مرتبطة بالبلدان النامية ومنها بلدان العالم العربي، كما انه يوجد لديها تعريفات متعددة، دقيقة وواضحة إلا أن مفهوم الإصلاح لا يزال يكتنفه الغموض وذلك لتداخله مع العديد من المفاهيم السابقة، إلا انه يمكن استخدام التعريف التالي لمفهوم الإصلاح: «التغيير والتعديل نحو الأفضل لوضع شاذ أو سيء، ولا سيما في ممارسات وسلوكيات مؤسسات فاسدة، أو متسلطة، أو مجتمعات متخلفة، أو إزالة ظلم، أو تصحيح خطا أو تصويب اعوجاج».
يعرفه قاموس "أكسفورد" الاصلاح بأنه" تغير أوتبديل نحو الأفضل في حالة الأشياء ذات النقائص، وخاصة في المؤسسات و الممارسات السياسية الفاسدة أو الجائرة، إزالة بعض التعسف أو الخطأ".
ويعرف قاموس "وبستر" للمصطلحات السياسية (1988) الإصلاح السياسي بأنه "تحسين النظام السياسي من أجل إزالة الفساد والاستبداد". ويعتبر الإصلاح السياسي ركنًا أساسيًا مرسخًا للحكم الصالح، ومن مظاهره سيادة القانون و الشفافية والمشاركة الشعبية في إتخاذ القرار والعدل وفعالية الإنجاز وكفاءة الإدارة والمحاسبة والمساءلة والرؤية الإستراتيجية، وهو تجديد للحياة السياسية، وتصحيح لمساراتها، ولصيغها الدستورية،والقانونية، بما يضمن توافقًا عامًا للدستور، وسيادة للقانون، وفصلا ًللسلطات، وتحديدًا للعلاقات فيما بينها "وهو التعريف الذي يتبناه برنامج الأمم المتحدة لإدارة الحكم في الدول العربية".
اما الاصلاح الاجتماعي، ففي (معجم العلوم الاجتماعية) يعني إحداث تغيير في نموذج من النماذج الاجتماعية، أملاً في الوصول إلى تحسين ذلك النموذج. وتُعني حركات الإصلاح بتخفيف مساوئ النظام الاجتماعي وتصحيح الأوضاع الفاسدة، من طريق التعديل في بعض النظم الاجتماعية، من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير البناء الأساسي للمجتمع. فالإصلاح حركة تحاول تخفيف الآلام الاجتماعية الناجمة عن إحباطات تعوق النسق الاجتماعي، عن أداء وظائفه.
إن الإصلاح بحاجة إلى إصلاحيين يتمتعون بمزايا معينة منها قوة الإرادة وصدق الانتماء وثقافة الحوار والتسامح، والرغبة في المشاركة، واحترام قيم العدالة والمساواة والشفافية، وحقوق الإنسان التي ضمنتها المواثيق الدولية، ورفض الفساد والاستبداد والعنف، وهذا يتطلب مشاركة الجميع في المجتمع من حكام ومحكومين، رجال ونساء، فالإصلاح عملية مجتمعية وبالتالي فان الفرد محدود الإمكانات ولا يستطيع إحداث الإصلاح بمفرده، فلا بد من أن ينتظم الأفراد في إطار جماعي من خلال مؤسسات المجتمع المدني سعياً لتحقيق الإصلاح المنشود.
مختارات من كلمات الامام الشيرازي
في الحريات والاصلاح وما يتعلق بهما
الحرية
الحرية في كل شيء إلا المحرمات، ومن مصاديق الحرية، حرية تكوين الأحزاب وإقامة المؤسسات الدستورية وسن القوانين المتناسبة مع أهداف المجتمع الإسلامي، وحرية التجارة وحرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة من زراعة وصناعة وعمارة وطبع ونشر، واستفادة من المباحات أرضا كانت أو غيرها). كذلك الحريات الشخصية التي لا تتعارض مع الأحكام الشرعية كحرية السفر والإقامة والعمل.(1)
الاستبداد
فساد الاستبداد عندما ترك المسلمون الشورى، وشل المجتمع عندما ترك المسلمون العمل بالحريات وانخفضت إنتاجية المجتمع عندما ترك المسلمون السعي، وتشتت المسلمون وتمزقوا عندما قطعت بلادهم، وأضحوا في ضنك عندما تركوا قانون (لكم). (2)
إن الانفرادية في المرجعية هي سبب تغلب الغرب علينا ليس دينيا فقط بل ودنيويا، فاصبح العلماء والمراجع يتعرضون للاعتقال والتعذيب والقتل ومصادرة الأموال... ولا من منقذ ولا من مجير إلا الله سبحانه وتعالى). (3)
إن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم، فان الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف المستقبل أيضاً كما هو في صحة الإنسان فان الإنسان الذي لا يراعي صحته في صغره لابد وأن يكون في كبره معرضاً للآفات والأسقام وما أشبه وهناك العديد من القصص التاريخية التي تدل على ما ذكر.
لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والاتقان في العمل، وما أشبه ذلك
نعم إن المسلمين اليوم يصلّون ويصومون، ويزكون ويحجون، ولكنهم تركوا الكثير من القوانين الإسلامية. مضافاً إلى إنه هل إن الكل يصلي ويصوم، ويزكي ويحج؟ وهل في بلادنا لا توجد محرمات ومنكرات؟ وهل نملك نحن المسلمين اليوم تلك العزيمة اللازمة، والفكر الكافي، والوعي الإسلامي، والإيمان الثابت، والجهاد الصادق، وبذل كل الطاقات في سبيل الله كالذي كان عليه المسلمون الأوائل، وبحسب الذي يريده الإسلام منا، أم أن الإسلام شيء ونحن المسلمين شيء آخر؟ ولعل هذا هو من أهم علل تقدم المسلمين في صدر الإسلام وتأخرنا نحن في هذا اليوم. (4)
الشورى
جعل الله الشورى بين الصلاة والإنفاق، والصلاة هي ركن العبادة وعمود الدين وهي السبيل لبناء الشخصية الإسلامية أما الإنفاق هو السبيل لتقدم المجتمع وإقامة نظام اقتصادي أساسه العدل، وبين الواجبين ـ واجب الصلاة وواجب الإنفاق هناك واجب ثالث هو الشورى.
والشورى قاعدة بين حلقتين لا يبنى المجتمع الإسلامي إلا بهما: وللمجتمع ثلاث أبعاد، بعد روحي يتحقق من خلال العبادة، وبعد سياسي يتحقق من خلال الشورى، وبعد اجتماعي يتحقق من خلال الإنفاق. (5)
للاستشارة فوائد كثيرة لا يحصى، ذكرها العلماء والمفسّرون فهي بالاضافة إلى بلوغ الحق أو ما هو قريب منه عبر تلاقح الأفكار تفيد بآثارها في نفوس الناس المستشارين» فالناس كما يحتاجون إلى الماديات لبناء أجسامهم فهم أيضاً بحاجة إلى المعنويات لبناء أرواحهم، والشورى هي إحدى وسائل البناء هذه».(6)
مقومات الاصلاح
مقومان اساسيان للاصلاح هما: (الأول: الرشد الفكري ومعرفة الضار والنافع. الثاني: يلزم أخذ النافع المانع من النقيض وترك الضار كذلك مما يعبر عنه بالواجبات والمحرمات).
(المسلمون اليوم ملياران لكن يفقدون ـ على الأغلب ـ الرشد الفكري اللازم في مختلف مجالات الحياة).
(المسلمون بحاجة إلى أمرين مفقودين عندهما: أولاً: الوعي. وثانياً: نوع من الإلزام فيما هو بصالحهم).
(يمكن التغيير والإصلاح بواسطة جماعة جادة مخلصة تعمل ليل نهار وعلى طول الخط).
(من أهم أسرار الانهزام عدم اتصاف -المسلمين- بقوة الإيمان كما كانوا عليه في صدر الإسلام.. أن هذا الانهزام باق إلى الآن ومن أهم أسباب استمرارية الانهزام هو حكام المسلمين).
(من مقومات الإصلاح مواكبة العصر، فإن الدين الإسلامي هو الدين الصالح لكل زمان ومكان، وفيه من الأسس والقواعد ما يجعله قابلاً للتطبيق في مختلف الظروف، وهو الذي يضمن سعادة البشر وتطوره وازدهاره).
(من أهم مقومات الإصلاح هو تحييد موقف الغرب من عداء المسلمين، فإن الإسلام لا يشكل خطراً على الغرب، بل الإسلام هو الذي ينقذ الغرب من مفاسده ويمهّد له طريق التقدم الأكثر والأشمل).
(من مقومات الإصلاح في البلاد الإسلامية، التنظيم وتأسيس منظمة إسلامية عالمية تكون من مهامها التنسيق بين الحركات الإسلامية وكوادر الأمة وما أشبه وتعمل للإصلاح في مختلف الميادين. فإن الفرد بمفرده، أو الحركة الإسلامية الواحدة غير المرتبطة بسائر الحركات، لا يمكنها عادة الوصول إلى الهدف وهو الإصلاح في البلاد الإسلامية، فاللازم ربط هذه القدرات بعضها ببعض لتكتسب قوة تقابل قوة الفساد والإفساد في العالم).
(من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف. فكما أن لكل مخلوق من المخلوقات بيئته الخاصة به سواء كان إنساناً أم حيواناً أم نباتاً، من ماء وهواء وشمس وأرض، وما أشبه ذلك. فللتخلف أيضاً بيئة خاصة به، فبيئة التخلف هي الجهل والنزاع، والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة، واشتغال كل بلذائذه ومصالحه بأقصى ما يمكنه وعدم الاعتناء بحقوق الآخرين، عدم تحمل المسؤولية وخدمة الآخرين، والعمل لكسب المنافع من أي طريق كان ومطاردة ما يتصوره من المضار كذلك، كلها من أسباب تكوّن بيئة التخلف). (7)
آليات التقدم
لابد أن يكون اهتمام الإنسان بالإنتاج، الفلاح في مزرعته يفكر بالإنتاج في الجانبين الكم والكيف والعامل في مصنعه يفكر بالإنتاج في الكم والكيف وهكذا كل إنسان يعيش في المجتمع الإسلامي رائده الأول هو الإنتاج، وعندما يزداد الإنتاج ينتعش المجتمع، وعندما يتحسن الإنتاج يحصل الاكتفاء الذاتي، والحصيلة هي التقدم في كل المناحي وعدم الاحتياج إلى الأجانب).(8)
الكتاب أحد وسائل التغيير والإصلاح بل «إنه أهم وسيلة لتثقيف وتوعية الاُمة، وهو الوسيلة الوحيدة التي تمتلكها الاُمّة، بينما سائر الوسائل التثقيفية بيد الحكومات». (9)
المسلمون تقدّموا بالعلم، وسقطوا حين سمحوا للعلم أن يهرب من أيديهم إلى الغرب، والغرب في الوقت الحاضر سيطر على العالم بالعلم».(10)
ما نراه اليوم من نشوب الحروب الكثيرة بين المسلمين أنفسهم وليس مع غيرهم، بل إنّ المسلم في الدولة الكذائية مثلاً بدأ يقتل أخاه المسلم الذي يعيش معه على أرضٍ واحدة وتجمعهم عقيدة واحدة وتربطهم روابط اجتماعية معيّنة، ولكن من دواعي الأسف أن يفقد بعض المسلمين هذه الروابط ويستبدلها بالتناحر والتنازع، بالإضافة إلى ذلك ما تعانيه البلدان الإسلامية ككل من عمليات نهب واستغلال لثرواتها الطبيعية الوفيرة، حيث أخذ المستعمرون يستغلّونها لمنافعهم الشخصية، ومن ثم يضربون بها المسلمين». (11)
لو تتبّعنا التاريخ المعاصر، ووقفنا وقفة قصيرة عند العهد العثماني، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية قد سيطرت سيطرة تامّة على مناطق شاسعة وكبيرة من الدول الإسلامية، فلم تكن هناك أي موانع أو حواجز تعرقل وتقيّد تحرّك الأفراد من منطقة إلى أخرى، على العكس ممّا هو عليه الآن، لأنّ عمر الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين لم يتجاوز الستين سنة، حيث كانت البلاد الإسلامية بلداً واحداً والشعب المسلم شعباً واحداً، فلا تفرّق ولا عنصريات ولا قوميات، وبقي الأمر على هذا الحال يجري وفق مجراه، حتى بات الضعف والعجز يدبّان في إدارة ومؤسّسات الحكومة العثمانية نتيجة سياستها الهوجاء. وقد فسح هذا الضعف المجال لبوادر الاستعمار أن تنشأ وتتهيّأ للظهور على الساحة العالمية. (12)
يجب على المسلمين أن يعملوا على تنمية عقول أبنائهم، لأنّ العقل نعمة أنعم الله عزّ وجلّ على عباده؛ حتى يتمكّن العبد من مواجهة الأهواء والشهوات والانحرافات التي يواجهها من كل حدب وصوب، فالعقل يجب أن يكون هو الحاكم لدى الفرد المسلم لا الشهوة والرغبة، فإذا ما أصبح العقل هو الحاكم، وهو المقرّر فسيتغيّر بالتأكيد جميع أعمال الإنسان، وتتّجه نحو الصواب والصلاح». (13)
التربية عامل مهم في تعديل وتهذيب أفكار المسلمين، ونرى الذين اهتمّوا بهذا الجانب رأوا ثماراً طيّبة ونتاجاً رائعاً، وأصل التربية هي هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم. (14)
أول أسباب التقدّم المستلزم للعزّة هو: وعي الأمة الإسلامية نفسها وما يجري حولها، حتى يحسّ المليارا مسلم بأنّهم أصبحوا بالنسبة إلى الأمم الأخرى متخلّفين، وصاروا على أثره لهم منقادين، ويدركوا ذلك من أعماقهم، وعن قرارة أنفسهم، فإنه لا يمكن التقدّم في شيء من مجالات الحياة، إلى مقبض الزمام إلاّ بالوعي، علماً بأنّ الوعي له أسباب ثقافية مادية، بغضّ النظر عن الأسباب المعنوية الروحية، فإنّ المسلمين على كثرة عددهم قد تأخّروا في كلا المجالين: المادّي والمعنوي، فليس لهم ثقافة مادّية تؤهّلهم للتقدّم، كما ليس لهم معنويات تدفعهم من الداخل إلى الأمام». (15)
إنّ عامل الكثرة إذا اتّحد مع عامل الاُخوّة، أنتج العزّة وليس للكثرة وحدها، ولذلك نرى أنه قد آخى الرسول صلّى الله عليه وآله بين المسلمين مرتين: مرة في مكة المكرّمة، ومرّة في المدينة المنوّرة، فسلمان الفارسي وصهيب الرومي، وبلال الحبشي وأبو ذر العربي، كلّهم صاروا اُخوة ببركة الإسلام، وصار لكل واحد منهم ما للجميع، وعلى كل واحد منهم ما على الجميع، وذلك من غير نظر إلى عشيرة أو قبيلة أو أصل أو فرع، وإنّما كان الميزان هو: ما ذكره القرآن الحكيم بقوله: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، علماً بأنّ هذه (الأكرمية لأفراد الأمة المتآخين) إنّما تكون عند الله من حيث الأجر والثواب لا من حيث الأمور الدنيوية».(16)
إنّ الاتّحاد قوّة وأنّ التشتّت ضعف، وقد نهى الله عمّا يسبّب ضعف المسلمين بقوله سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ومن المعلوم أنه قد حصل تنازع غريب بين بلاد الإسلام على أثر هذه الحدود الجغرافية المبتدعة، ممّا أنتج ضعف المسلمين وذهاب شوكتهم وسيادتهم».(17)
من أسباب عزّة المسلمين هي الحريات الإسلامية الواسعة والشاملة لكل جوانب حياة الإنسان ومجالاته الفكرية والعملية، ويدلّ عليها القرآن الحكيم، والروايات الشريفة المأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله والأئمّة من أهل بيته الطاهرين»(18)
ومن أسباب عزّة المسلمين، التي أسقطها حكّامنا بأمر من أسيادهم هو: «العمل الصادق، والتطبيق الحرفي لأحكام القرآن وتعاليم الإسلام)، فإنّ الإسلام أهدى للبشرية أرقى قوانين التقدّم وأجمع مواد التمدّن والتحضّر، وأفضل مناهج السعادة والهناء، ومن الملحوظ أنه من يوم ترك المسلمون أوامر السماء فاتتهم الأرض والسماء، بينما في اليوم الذي كان المسلمون قد أخذوا فيه بقوانين السماء أتتهم السماء والأرض بكل خيراتها وبركاتها».(19)
أطلق القرآن الكريم جانب الأسوة ولم يقيّده بشيء، ممّا يدلّ على أنّ الله تعالى جعل الرسول صلّى الله عليه وآله قدوة لنا في كل شيء، وأسوة لنا في كل مجالات الحياة، ومن يوم تركنا نحن المسلمين الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله آل أمرنا إلى تقهقر مستمر وتأخّر متواصل في كل مجالات الحياة وجميع جوانبها وأبعادها». (20)
إن تغيّر زماننا وتطوره في الطب والعلوم الأخرى، وكثرة الوسائل والتقدم الصناعي وغزو الفضاء وما أشبه يوجب طبع كتب مناسبة لهذا الزمان، في مختلف المجالات من الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية وغيرها. وهذا يقع على عاتق الحوزات العلمية والجامعات عبر التنسيق بينهما وبذلك نكون قد أدينا بعض الواجب تجاه إصلاح المجتمع).(21)
من الواجب على كل مسلم أن يعمم الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي والسياسي والشرائعي والاجتماعي والتربوي والعسكري والزراعي والصناعي والاستقلالي وفي كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة والمجلات والنوادي والكتب والمؤتمرات وغيرها).(22)
لبناء الشخصية الإسلامية ثقافياً، نمر بمرحلتين طبيعيتين هما الهدم أولاً… والبناء ثانياً… فالمرحلة الأولى هي تحطيم الثقافات الاستعمارية الغازية، وهدم البنى الفكرية المستوردة… وأما المرحلة الثانية فتتم بأمر هام هو: العلم.
ويعني معرفة الأمراض الكامنة في جسد الأمة الإسلامية، ومعرفة كيفية تحقيق الهيمنة الاستعمارية علينا، وما هي خطط العدو ومؤامراته التي يحيكها ضد الإسلام من وراء الكواليس….). (23)
إن الاقتصار على تثقيف المسلمين الموجودين في بلاد الإسلام فقط بالثقافة الإسلامية يؤدي إلى تضييق الحركة الإسلامية وعدم توسعها، ومن هنا فإن من الضروري إعطاء الوعي الإسلامي المتكامل للبلاد الأجنبية.
ويعتمد ذلك على دعامتين:
1 ـ تثقيف المسلمين الموجودين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام.
2 ـ إيصال صوت الإسلام إلى الكفار والمعادين للإسلام عبر محطات للإذاعة مخصصة لهذا الغرض..). (24)
إن تغيير زماننا وتطوره في الطب والعلوم الأخرى، وكثرة الوسائل والتقدم الصناعي وغزو الفضاء وما أشبه، يوجب طبع كتب مناسبة لهذا الزمان، في مختلف المجالات من الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية وغيرها).
(كلما كان القادة ممن يؤمنون بالله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل البيت عليهم السلام، وكانوا يخافون يوم الحساب، فإن نظام الحياة بأسره سيسير على طريق الخير والرشد والصلاح، فلا مكان فيه للفساد ولا مجال للإفساد حتى أن الخبثاء والأشرار يمكنهم الرجوع إلى حصن الدين وإصلاح سيرتهم وسريرتهم وبذلك تنمو الحسنات وتمحق السيئات ويكثر فعل الخير وينحسر فعل الشر في المجتمع).
(إذا كان زمام الأمور بيد أناس لا يؤمنون بالله ولا يخافون يوم الحساب، أناس انغمسوا في الشهوات واتبعوا الشيطان، فإن نظام الحياة لا محالة سائر على البغي والعدوان والفحشاء والمنكر، فيدب الفساد والإفساد في كافة أنحاء المجتمع، وتعم الفوضى وتنتشر الأفكار الهدامة والنظريات الباطلة، وتكثر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية، وبذلك تعشعش السيئات وتمحق الحسنات ويزداد فعل الشر ويقل فعل الخير).(25)
الحركة الاسلامية
ممّا يلاحظ على بعض العاملين أنه يترك الهدف الأكبر وهو إقامة دولة المسلمين الواحدة، ويتفرّغ إلى أعمال اُخرى من قبيل تزويج العزّاب وإقامة الأعمال الخدماتية للمحتاجين، وعلى رغم أهمية هذه النشاطات إلاّ أنه يُمكن تخصيص أفراد لا يؤتى منهم هذا العمل لاقامة الدولة».(26)
من النقاط الحيوية في برنامج الحركة الاسلامية عدم دفع الأطراف المناوئة إلى الانفجار مهما كان الحق مع الحركة، ومهما كان الطرف معانداً أو مُعرضاً، فإنّ التنازل عن شيء من الحق أفضل في نظر العقل والشرع من التدقيق الكثير الذي سيؤدّي إلى الانفجار حتماً، فالخسارة في ذلك أكبر وتكون المشكلة حينئذ أعمق وأوسع».(27)
إنّ اهتمام الحركة الإسلامية بهذا الأمر الهام سيجعلها في غنى عن كل أجنبي بل يجعلها مستغنية تماماً، الأمر الذي يبعدها عن طريق التقدّم في الحياة السياسية والاجتماعية».(28)
تحتاج الحركة الإسلامية الى النظرة الثاقبة في المستويين الاُفقي والعمقي، فإنّ النظرة الاُفقية لا تعطي الثمن المطلوب، كما إنّ التعمّق الكثير بدون استيعاب الجوانب السطحية لا يُجدي نفعاً أيضاً».
لابدّ أن تضع الحركة نصب عينها هذه المعادلة «الشعار بحجم الواقع».(29)
الحركة الحكيمة هي التي تتجاوز عن صغائر ما يرتكبه أفرادها، فإذا ما حاسبت الفرد على الإتيان بالصغيرة فإنه سيقطع علاقته بالحركة وربما ينقلب عليها شخصاً معادياً لها».(30)
هناك امتدادات اجتماعية يمكن أن تفيد الحركة بالمال تبرّعاً أو اقتراضاً وهناك امتدادات تصلح لأن تكون واسطة لحلّ المعضلات، وهناك امتدادات اجتماعية يمكن الاستفادة منها لجمع الكلمة ولتقديم الاُمّة إلى الأمام أو لاستثمار طاقات الأفراد.. فجميع هذه الوسائل وزجّها في نشاط الحركة سيوفّر لها عنصراً هامّاً من عناصر التحرّك».(31)
إذا اختلف ظاهر الحركة مع باطنها كانت أقرب إلى النفاق منه إلى الإيمان، وسرعان ما ينكشف باطنها، وبذلك ينفض الناس من حولها أكثر من انفضاضهم إن كان ظاهرها وباطنها سواء وإن كان على شيء من السوء».
إنّ الناس سينفرون من الحركة الانتهازية ولا يثقّون بها كما ينفرون من المنافق حتى لو كان صادقاً في بعض أعماله، لأنّهم يقيسون الصحيح بالخطأ فلا يرون منه إلاّ النقطة السوداء».(32)
المؤتمرات
اقامة المؤتمرات من مستلزمات قيام دولة المسلمين الواحدة، فالمؤتمرات المكثّفة التي تستوعب كل أفكار الاُمّة وحاجاتها وطموحاتها هي من المقدّمات المهمّة في حياة الحركة خصوصاً، إذا كان الهدف المرجوّ لهذه الحركة هو اُقامة حكومة المسلمين الواحدة وإنقاذهم من التأخّر والتشرذم والتبعثر». (33)
لابدّ أن تنعقد هذه المؤتمرات في استقلالية تامّة عن أيّ عاملٍ خارجي سواء كان عاملاً حكومياً أو تياراً سياسياً».(34)
لابدّ أن يُراعى في أعضاء المؤتمر النزاهة والإخلاص والابتعاد عن العنف، إذ ستؤدّي هذه الصفات إلى نتائج من جنس المقدّمات».(35)
لابدّ من إقامة مؤتمرات دورية كل سنة أو كل ثلاث سنوات يتم فيها تداول الآراء والأفكار، ويتمّ فيها أيضاً وضع الخطط والبرامج التي يعوّل عليها تقدّم الاُمّة».
هذا هو المؤتمر العام الذي ينعقد إلى جانبه عدد كبير من المؤتمرات. «ويلزم أن يسبق المؤتمر العام، مؤتمرات اقليمية تنعقد في مختلف المناطق وتكون بمثابة الرافد حيث تصبُّ نتائجها في المؤتمر العام».
«وقبل إنعقاد المؤتمر العام لابدّ من تشكيل لجنة تحضيرية تهيأ الأرضية الكافية لعقد المؤتمر، أمّا نظام العمل في داخل المؤتمر فيقول الإمام الشيرازي: «ويتم في المؤتمر العام توزيع الأعمال على شكل لجان اختصاصية مثل: اللجنة المالية واللجنة السياسية واللجنة التنظيمية واللجنة الثقافية ولجنة العلاقات واللجنة الإعلامية، كما لابدّ من الاهتمام بلجنة مهمّتها وضع الخطط الكفيلة بالاكتفاء الذاتي، إذ الحياة تؤخذ بالتدريج، إذ لا يمكن تحقّق الهدف الكبير إلاّ بالاعتماد على النفس».(36)
اضف تعليق