د. هيثم الحلي الحسيني
نطاق الدراسة ومعضلتها ومقدماتها
أظهر الباحث المجدد، في الفصل السابع من كتابه موضوع الدراسة، اهتماماً واضحاً بمادة البناء العمراني، وعامل تأثير قوانين فلسفة التاريخ فيها، من خلال عنوان "وحدة الاشتراك في الحضارات"، وقد أثبت مادته النظرية، بتطبيقات عملية تاريخية، من خلال نماذج حضارية مختارة بعناية، بيّنت تحميل تلك الحضارات، المختلفة في زمانها ومكانها، لوحدة القوانين العامة لفلسفة التاريخ، مؤكداً "أن تلك الحضارات لها وحدة واحدة وروح عامة، هي فلسفة التاريخ، وأن لها فلسفة عامة حالها حال النوع والجنس".
وقد تشكلت اختيارات المفكر المجدد، في هذا الفصل، لنماذج من أديان مختلفة، هي في جلّها غير سماوية، ربما ليتجنب أن يسلك البحث فيها، منحىً عقدياً، والحال أنها بنت حضاراتها، وفق رؤاها ومتبنياتها، فيبين الباحث المجدد، في مسألته في صدر العنوان، أن "جميعها لها روح عامة واحدة، هي وحدة المبدأ والهدف، كما أن لكل واحدة بمفرها، روحا عامة أيضاً".
منهج الدراسة والمقاربة النظرية
لكون المرجعية المحورية، التي تتأسس عليها الروح العامة والقوانين الكلية، في فلسفة التاريخ، هو ما يطلق عليه، بقانون "التحدي والاستجابة"، الذي ارتبط تنظيره ووضعه، بالمفكر المؤرخ "أرنولد توينبي"[1]، فكانت الحاجة البحثية، ضمن هذه الحلقة من الدراسة وموضوعها، في إلقاء الضوء على المباني والأسس لهذه النظرية عموماً، ولقانون "التحدي والاستجابة" بوجه خاص، مع بيان تأثيراتها، ومقارنة مرجعياتها الفكرية، بنتاجات بن خلدون، استكمالاً للدراسة، وتأسيساً لمبانيها الفكرية ومعطياتها النظرية، لجهة إرجاعاتها، الى مقدمات نشوء وتداول عنوان "فلسفة التاريخ"، لتشكل "حاشية" على متن الكتاب، موضوع الدراسة، والتي شرعت في الحلقة السابقة.
وتعتمد هذه الحلقة من الدراسة، الى جانب ملامستها، لتجربة بناء الحضارة العربية الإسلامية، استعارة التجارب الغربية كذلك، إن في الجوانب التطبيقية، أو التنظيرية الفكرية، بهدف إستدعاء التجربة العالمية، ومقاربة ذهنية الآخر، وطرائق تفكيره mentality، ليس بقصد الإنبهار المتجمّد، أو الدعوة للتقليد غير الواعي، وإنما لتوسيع دائرة المعرفة والتجربة، فضلاً أن النظرية موضوع البحث ذاتها، تدعو بصرامة، الى اعتماد الخصوصية في الوسائل والأدوات وطرائق الفكر، للأمم والشعوب، على طريق تحقيقها الأهداف النهضوية.
مقدمة لمنهج "توينبي" وقانون التحدي والاستجابة
كتب "توينبي"، موسوعته "دراسة التاريخ"، في العام 1961، والتي قضى في تأليفها أربعين عاماً، وهي نتاج مشاهداته ومعايشته لأحداث الحربين العالميتين، وكان من أشد المعجبين بأعمال "ابن خلدون"، لكنه رأى أن يوسع دائرة النظر، ووحدة البناء العمراني، من إطار الدولة الى مستوى الحضارات، وشرع بدراسة الحضارات البشرية، فخرج بخلاصات عنها، ضمّنها في نظريته في فلسفة التاريخ.
لقد كان الأساس المرجعي والاصطلاحي، لمفردة "فلسفة التاريخ"، يعود الى المفكر الفرنسي "فولتير"[2]، الذي رأى أن علم التاريخ، في تجمدّه لمجرد سرد الحوادث والوقائع، قد لا يمثل إضافة، للكم والنوع المعرفي الإنساني، لأن وقائع التاريخ السردي، "تعوزها الحكمة، ومسارها المجرد، ينقصه إدراك المغزى أو المعنى"، وهو ما يتماهى وحاجات العلّة والتعليل، والأسباب والمسببات، في دراسة المقدمات ونتائجها، في البحث التاريخي، وذلك ما تهتم به، موضوعة "فلسفة التاريخ"، أو علم التأريخ الحركي.
والقانون الكبير الذي خلص اليه "توينبي"، هو قانون "التحدي والاستجابة"، الذي يطرح في شرحه مجموعة ثرية من الافكار، والتي من المفيد أن يلم بها صنّاع القرار، وبناة النهضة، سواء في السياسة أو المجتمع، كونه يلخص العوامل المحورية في نهضة الحضارات، وأسباب بنائها ونشوئها، في ظل معطيات الجغرافية والتاريخ، وظروفها واشتراطاتها.
رؤية "توينبي" للمشتركات الحضارية
يرى "توينبي" من زاويته، ان الحضارات وبرغم وجود عناصر الوحدة فيها، فيما يسمى بالتشكيلة الحضارية لمجتمعات ما، إلا أن هناك تنوعاً للوحدات الصغيرة "الدول والمجتمعات"، داخل هذه المنظومة الحضارية، ثم وبداخل هذه المجتمعات الحضارية، يوجد الانسان المبدع، وهؤلاء المبدعين الكبار، هم الذين أنشأوا الحضارات، أو أطلقوا شرارة قيامها، كالأنبياء والرسل، أو من في تبعهم من المفكرين والمنظرين، الذين بنيت على أساس افكارهم مجتمعات عامرة.
ويرى أن هذا النظام، المكوّن من المنظومة الحضارية، والدول التي تقع داخل إطارها، وفي قلبها الأناس المبدعون، الذين يقومون على قيادة الاوضاع فيها، تمر بهم المجتمعات في تحديات، فتستجيب لها وتطوّر قدراتها، من أجل التغلب عليها، وتحقيق نهضتها وأهدافها، وهو ما عبر عنه بنظرية التفسير الحضاري، أو نظرية "التحدي والاستجابة".
وترى نظرية التفسير الحضاري، أو "التحدي والاستجابة"، إن نشوء الحضارات وبعثها، متعدد الأسباب، لكنه يقوم أساساً على عمليات التحدي الجغرافية والبشرية، التي تدفع للاستجابة والتحرك الخلّاق، سعياً للإقلاع الحضاري[3].
وتفسير ذلك، أن الإنسان يواجه في طريقه لبناء الحضارات، مجموعة من التحديات، وهي قد تكون مواقف وظروف ومشكلات صعبة، فيتعامل معها، أمّا وفق إستجابة ناجحة، تؤدي الى التغلب عليها، فينتهي الى تحقيق البناء النهضوي المنشود، وصولاً لبناء الحضارة، أو الى استجابات فاشلة، لا تؤدي الى تحقيق النهضة والحضارة.
أشكال التحديات الحضارية ونظريات فلسفة التاريخ
يقسم "توينبي" التحديات الحضارية، أو التي يواجها بناة الحضارة، الى شكلين من التحديات، أولها التحديات الطبيعية، مثل الجغرافية والمناخ وبضمنها عوامل الأرض والموارد الطبيعية والموقع الجغرافي وغيرها، وثم التحديات البشرية "الديموغرافية"، مثل حجم وطبائع السكان، ومستوى ثقافة المجتمعات وطبيعتها، بمعنى أنهما وفق المفهوم المعاصر، تمثّلان العامل "الجيوبوليتيكي" الجغرافي السياسي، أو "الجيوستراتيجي" الجغرافي السوقي، الذي تحمله البيئة المستهدفة، التي يروم بناة الحضارة، التأسيس فيها.
وقد تكون التحديات الطبيعية، دافعاً ليطور الإنسان قدراته، ويبتكر وسائل جديدة لتنميتها واستغلالها، كالأرض البكر والظروف الطبيعية القاسية، وتحديات إنشاء الطرق والقنوات، ووسائل الاتصالات والإعلام، ومستلزمات الحياة الأخرى.
إن الرغبة بحياة ليس فيها تحديات، تكون بمثابة حبس لطاقات الإنسان، وفي ذلك يقول "روبرت شولر"[4]، "إن الصراع هو مكان ولادة الإبداع الأعظم[5]، كما أنّ "الأهداف التي تعمل على إثارة الحافز في الإنسان، تقوم بتقديم أثمن الهدايا للبشرية، على شكل إنجازات"، فالتحديات القاسية، هي العامل الخلّاق، الذي يستفز طاقات الإنسان.
ومن ذلك يلاحظ، أن تقدم الأمم نحو الحضارة، لا يتم بخط مستقيم، نسبة الى محور التحديات، ولا بشكل منحنِ ثابت، وإنما بشكل منحنيات متغيرة ومتقلبة، تشير الى سلسلة المتغيرات في المسالك الى القمة، حتى تنتج الاستجابة الصحيحة، أو الوسيلة المثلى، التي تعيد المنحني الى الصعود، وهكذا يتحرك خط السير، في البناء الحضاري، بين المحاولات السلبية والوسائل المتاحة، حتى تصل الحضارة الى ذروتها.
ويمكن في هذا العنوان مثالاً، إستدعاء التغيرات التي أدخلها "نابليون"، على أساليب الإدارة، والرؤى الاستراتيجية، والبناء المدني والمجتمعي، وتطوير التعليم الجامعي، والتي أحدثت تطورات مستقبلية راسخة، وعليه فإن مراحل البناء العمراني، التي أثبتتها هذه النظرية، تتمثل بالصحوة أولاً، ثم اليقظة، فالنهضة، وصولاً الى مرحلة الحضارة، ضمن الطريق بين البداية وتحقيق الأهداف.
ويقول "ريمون رينيه"[6] في تاريخه عن الثورة الفرنسية، التي لا زالت ثوابتها، حاضرة في الدولة الفرنسية الحديثة، ضمن أهداف "الإخاء والمساواة والحرية"، أن "الثورة لم تكن على الدوام موفقة في إلهامها، فقد كانت مشاريعها على الدوام "طوباوية"، ومترجحة بين النموذج الفاضل المثالي التخيّلي، المتمثل في مدينة أفلاطون الفاضلة، وبين النماذج التراجعية والمتقهقرة، إذ لم تكن بكلّيتها متوجهة نحو المستقبل، فأوجبت الظروف تغيراً كاملاً."[7]
وعليه يمكن الاستنتاج، أن الاستمرار بتجريب نماذج غير مجدية، قد لا يحقق النجاح والنتيجة المرجوة، كونه سيشبه الدوران حول الذات، بينما لو جرّبت الأمة طرقاً جديدة، مستلهمة من واقعها وخصوصياتها، لأمكنها الوصول الى حالة النهضة، وذلك يتطلب الجرأة على ولوج المنافذ الجديدة، وعدم الإكتفاء بالوسائل القديمة، وينسجم ذلك مع مقولة "روبرت شولر"، "افضل أن أغير رأيي وأنجح، على أن أبقى على رأيي وأفشل".
وبنفس البيئة الفكرية، يقول العالم الفيزياوي "أديسون"، الذي حقق نجاحات مهمة، في تطوير وسائل الحياة الإنسانية، أن العديد من التجارب الفاشلة في الحياة، تكون بنتيجة عدم إدراك الباحثين، انهم كانوا قريبين من النجاح، عندما قرروا التوقف والاستسلام، فالإنسان عندها، لم يقم بألف تجربة فاشلة، بل تعّرف على ألف طريق، لا يؤدي الى الحل الصحيح، وعليه فهو مقاربا النجاح، طالما لم يتوقف أو يتراجع.
اضف تعليق