"...المطلوب منّا ملء البلاد الاسلامية بالكتب ذات المضامين التوعوية، فعلى الأقل علينا ملء البلاد الاسلامية بمليار نسخة من الكتب التي تحمل الوعي للقارئ.
هذه المهمة لن تنجح إلا على يد المثقفين من ذوي المكنة في اللغة والأدب والتعبير، فكما ان افراد المجتمع موزعون على اختصاصات عدّة، فان تخصص المثقف في الكتابة والتأليف وتوجيه الرأي العام.
وهذا يشمل الدور الخطابي ايضاً، فعلى الأخوة الخطباء التوجه نحو المواضيع التوعوية، الى جانب ما يطرحونه من مفاهيم اخلاقية وقيم دينية، مثل الصدق والأمانة والفرائض الدينية، فالمنبر الحسيني ينبغي ان يكون غنياً بالفكر والثقافة والوعي بما يجعله مصدر إلهام واقتباس يعتمد عليه لبناء المجتمع والامة.
أما عن كيفية الكتابة والتأليف والاجواء المحيطة بها، واسئلة واستفهامات عدّة في هذا السياق، يطرحها البعض ممن يبحثون عن توفير الاجواء اللازمة والمناسبة لكتابة مقال أو كتاب، وإلا فلا...!
لمن يريد ان يعرف كيفية التأليف وما هي شروطه الصحيحة، ما عليه إلا ان يراجع سيرة حياة العلامة الحلّي (648هـ -726)، وهو عالم دين يدرس في الحوزة العلمية قبل حوالي سبعة قرون، وكان يتنقل من مكان الى آخر على حمار له، مما كان يستغرق الأمر أوقات كثيرة، فكانت ساعات الترحال فوق الحمار يستثمرها هذا الشيخ للتأليف فغادر الحياة وقد ألف (1000) كتاب!، وأي كتب كانت...! ملؤها البحوث المعمّقة في الفقه والحديث والتفسير والعقائد والاخلاق وغيرها.
وفي تاريخنا ايضاً؛ عالم دين ألف مائتي كتاب، وعالم آخر ألف ثلاثمائة كتاب، وآخر ألف اربعمائة كتاب، وأخر ألف ستمائة كتاب.
ولنأ ان نتسائل: ما هي الظروف التي كانت تحيط بالعلامة الحلّي والعلماء المؤلفين الآخرين؟ وماذا كانوا يفعلون في أجواء الطقس البارد أو الحر القائض؟ أو في ظلمات الليل، وهل كانت آنذاك وسائل التدفئة والتبريد؟ وهل كانت الأنواع والاشكال الزاهية للإنارة كما اليوم؟
علماً انه لم يفوّت زيارة الامام الحسين، عليه السلام، كل ليلة جمعة، فكان يمتطي حماره كل مساء خميس للتوجه الى كربلاء المقدسة، بيد انه في الوقت نفسه، لم يضيع الوقت الذي يستغرقه الذهاب الى كربلاء والعودة منها الى مدينته الحلة، فيستثمر الوقت بالتأليف والكتابة على ظهر حماره!
وذات مرة سأل العلامة الحلّي شخصٌ عربي من سكان البادية وقد سلّم عليه: هل يمكن للانسان ان يرى الإمام المهدي في غيبته، فقال: نعم! وكيف لا، وانت يدك في يده...! فخرّ العلامة الحلّي مغشياً عليه وسقط من على حماره، لانه عرف ان الذي يصافحه هو الإمام الحجة نفسه،عجل الله فرجه.
هذه الواقعة تؤكد لنا أن من يسير في طريق الإمام الحجة المنتظر، فانه يلاقيه يوماً ما، فعلينا ان نكون في هذا الطريق من خلال التأليف والكتابة التي تنشر الوعي والثقافة بأوسع مدياتها.
إن الانسان المثقف والواعي يقف يوم القيامة للسؤال والحساب امام الله –تعالى- وفق القانون الإلهي؛ {ولله الحجة البالغة} والتي تعني أن الله تعالى يأتي بنا يوم الحساب، ويسألنا عن سبب عدم التأليف ونحن نحمل الوعي والثقافة، فربما يكون الجواب: وجود المشاكل العائلية والمالية واشباهها، ثم يأتي الله –تعالى- بالعلامة الحلّي، ويُقال لذاك المثقف: هذا انسان مثلك، كان يعاني المشاكل والازمات والعقبات، فكيف ألف (1000) كتاب، أو ذاك الخطيب الذي كان تحت منبره الآلاف من المستمعين، فلماذا لم تصعد أنت المنبر وتخطب؟
وهذا مصداق قوله –تعالى- : {ولله الحجة البالغة}، حيث لا مجال لأحد يومئذ بأي اعتذار او تبرير مطلقاً.
وإذن؛ علينا الكتابة والتأليف في مختلف الفنون الاسلامية التوعوية حتى نعطي للمسلمين جرعة كبيرة من الوعي ليعرفوا "من أين دائهم وكيف دواؤهم".
الوعظ والوعي
تعتقد شريحة من المؤلفين بأهمية الوعظ والإرشاد رغم التطورات الحاصلة في الساحة الثقافية ليس أقلها السرعة الفائقة في انتشار الثقافات والافكار حول العالم في تنافس محموم على النفوذ والتأثير بفضل تقنية الاتصال المتطورة باستمرار، الى درجة ظهور تحديات مثل "العولمة الثقافية".
وربما يكون اختلال التوازن في ميزان القوة الثقافة لصالح الآخر، هو الذي يخلق الدوافع لأنصار الوعظ والإرشاد لأن يتمسكوا بهذا الخطاب اكثر من أي وقت آخر لإعادة التوازن – على الأقل- على أمل تحقيق التفوق المأمول، لذا نلاحظ تكرار العناوين التي تتحدث عن الفضيلة والسلوك الحسن والمسائل المتعلقة بالنفس الانسانية، وايضاً العناوين التي تتحدث عن الاحكام العبادية الى جانب سيرة الأولياء والصالحين.
كل هذا وغيره حسنٌ ومطلوب، بل لن يفقد اهميته مهما كانت الظروف، فهي موضوعات تتعلق بمنهج حياة الانسان وعاقبته، بيد أن المهم ايضاً، الى جانب تنظيم السلوك؛ إفساح المجال للفكر أن يأخذ دوره في ضمان استمرارية هذا السلوك الحسن والالتزام الدقيق بالقيم والمبادئ الحقّة.
فيمكن لأي انسان إقامة الصلاة –مثلاً- بيد أن المهم فهمه لتأثير هذه الصلاة التي يؤديها صاحبها خلال دقائق، على الواقع الخارجي وعلى ظواهر اجتماعية خارج مكان المصلّي، وأن تكون مصداق الآية الكريمة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، فالصلاة في المسجد، بينما الفحشاء والمنكر في الشارع والسوق وبعض الحدائق والاماكن العامة، فكيف يصل تأثير هذه الصلاة في أماكن كهذه؟
وسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- ليس فقط في هذا المقطع الصوتي، وإنما في عديد مؤلفاته، وتحديداً؛ "الكتاب من لوازم الحياة"، و"ثلاثة مليارات من الكتب"، يدعو الكتاب والمؤلفين الى الخطاب التوعوي، الذي من شأنه تحريك العقل للتحليل والتدبّر ثم الاستنتاج، فالوعظ يمثل المادة الخام للعقيدة والسلوك، بينما الوعي يقوم بدور التكرير وايجاد المصاديق العملية على ارض الواقع فيكون للفرائض الدينية والقيم والمفاهيم أثرها المباشر في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، كما يكون للرموز الدينية الكبيرة حضورها النابض في حياة الناس.
من أجل ذلك نلاحظ تقدم بعض الشعوب والأمم في العالم بفضل وعيها في عديد المسائل والقضايا بالحياة، من الصحة والامن والبيئة والاستهلاك الى جانب الوعي السياسي، حيث يكون المواطن هناك ذو رؤية واضحة ومتكاملة الى حد كبير حول ما يجري حوله، لذا بامكانه اتخاذ القرار المناسب والتصرف بشكل صحيح.
أقرب مثال على ذلك؛ النظافة، ففضلاً عن انها تمثل قيمة دينية واخلاقية سامية، فان "وعيها" بشكل كامل، ينتج أسرة ومجتمع وشعب بعيد عن الامراض ومن ثم التكاليف الباهظة للعلاج، وايضاً تكاليف التنظيف، بل ويجعل ظاهر البلد جاذباً للزوار والسائحين مما يدر عليه يشكل مصدر تمويل جديد، بمعنى أن النظافة التي نقول أنها "من الإيمان" بحاجة الى وعي صحّي، كما أن الحجاب للمرأة، وهو ايضاً من القيم الدينية، بحاجة الى وعي اجتماعي وبشكل تفصيلي، ربما يتعمّق الى الفوارق الفسيولوجية للمرأة والرجل، وحاجات كل منهما، وما ينبغي ان يكون أو لا يكون وفق حكم العقل والمنطق، حتى يُصار الى فهم متكامل لفلسفة الحجاب.
الكفاح من أجل التأليف
بالرغم من الحاجة الماسّة الى الوعي في جميع شؤون الحياة، وافتقار المكتبات الى هذا اللون من الخطاب، ما يزال البعض متمسك بالأجواء المناسبة للتأليف وشروطها، من توفر الهدوء والإنارة الجيدة مع أجواء مكيفة داخل الغرفة صيفاً وشتاءً، مع الوقت الكافي وغيرها كثير من الشروط الغريبة التي لا تتناسب مع أبعاد هذا المشروع الحضاري، ولعل وجود شروط كهذه يُعد احد اسباب غياب الوعي عن الساحة، وعدم وجود المؤلفات التوعوية، ولذا يشير سماحة الامام الشيرازي الراحل الى هذه المعضلة النفسية التي لم يكن لها وجود في الازمان الماضية، بل حتى الى وقت قريب، فهو – طاب ثراه- يورد مثل العلامة الحلّي الذي خلف ثروة علمية ومعرفية هائلة بـ (1000) كتاب في تلك الظروف الصعبة، التي لو أعيد أحدنا اليها، لما تمكن من كتابة صفحة واحدة. بينما يمكن الاشارة الى كتاب ومفكرين من عصرنا الراهن كافحوا الصعاب وألفوا للوعي والمعرفة، ولعل أبرزهم هو الامام الشيرازي نفسه، وشقيقه الشهيد السيد حسن الشيرازي، والمرحوم الشيخ محمد جواد مغنية من لبنان، والشهيد الشيخ مرتضى المطهري في ايران، وآخرين كُثر تجاوزوا مختلف اشكال الصعاب والمشاكل في محيطهم الاجتماعي والظروف السياسية المحيطة بهم، وتمكنوا من إثراء المكتبة الاسلامية بمؤلفات تضخ وعياً وثقافة في مجال العلم والعقيدة والاخلاق.
إن وعي المرحلة، والتفهّم العميق لحاجات الأمة، هو الذي ينتج كتاباً مبدعين يلبون حاجة المجتمع من الوعي في المجالات كافة، فيجعلون الأولوية للصالح العام وأن يصل الى أقصى درجات الوعي بما يجري حوله، حتى وإن كلّفه ذلك بعض الخسائر والضغوطات والمنغّصات من المجتمع أو من السلطات الحاكمة، واذا رأينا التوفيق لمؤلفات توعوية خلّفها اصحابها بعد عقود من رحيلهم من هذه الحياة، فيما هي تنبض بالحياة في عقول قرائها، علينا أن نعرف حجم التحديات التي واجهتها هذه الكتب والافكار حتى وصلت الى هذا الجيل.
أما البحث عن أفضل طاولة للكتابة وأفضل غرفة وأشباهها، فانه لن يقدم سوى مرآة لصاحبه لا يجد الناس الوقت الكثير للنظر اليها، فهم ربما يفضلون انفسهم عليه، فما حاجة الناس الى اجترار الافكار ونسج الخيال والتصورات الذهنية الخاصة؟.
اضف تعليق