الحروب بأنواعها الخارجية والداخلية، بالأصالة أو بالنيابية، دينية أو سياسية أو طائفية أو غيرها، كل هذه الأنواع من الحروب تقف بالضد من سيادة وانتشار قانون السلم والسلام، على الرغم من أن حاجة البشرية للتعايش في إطار السلام، تفوق بأهميتها جميع الحاجات الأخرى، لأن السلام هو الحاجة التي بمقدورها أن تمهد الطريق لتحقيق جميع ما تحتاجه البشرية من سبل ووسائل العيش الرغيد المستقر.
ولكن يبقى السلام حلم البشرية كلها، في ظل تصادم المصالح الدولية والإقليمية وحتى في إطار الدولة والمجتمع الواحد، بل في إطار الجماعات الصغيرة كالقبائل والأفراد، نلاحظ وجود حالات التصادف الذي قد يصل بعضها حد الاحتراب، وربما هذه هي الأسباب التي تجعل من عالمنا اليوم مثل قنبلة موقوتة، قد تنفجر كلها في أية لحظة، في تصارع الإرادات بين الدول العظمى مع بعضها، والدول الإقليمية الأقل درجة، فهذه أيضا تتحرك وفق مصالحها، ودائما لديها الاستعداد للقتال دفاعا عن مصالحها، بغض النظر عن معايير العدالة، لهذا يبقى قانون السلم هو الحال الوحيد في ظل هذه الصراعات المتفاقمة.
لذلك يرى الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: السلم والسلام) بأنه: (في إطار تناقض المصالح تنشأ الحروب والثورات والإضرابات والمظاهرات وأسباب العنف وما أشبه ذلك كما هو مذكور في علم الاجتماع).
هذا الأمر يثبت حاجة البشرية جمعاء الى تطبيق مبدأ السلم والسلام، ومن باب أولى أن ينتشر هذا المبدأ في ربوع البلاد الإسلامية والعربية، كونها تعتمد الإسلام دينا لها، وهو الذي يتبنى السلم منهجا لا يجوز الجنوح بعيد عنها كما يرد في نصوص قرآنية كثيرة (واجنحوا الى السلم)، (وادفع بالتي هي أحسن)، فضلا عن الأحاديث الشريفة والروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت في هذا الصدد، حيث التركيز على أهمية السلم وقدرته على توفير فرص الحياة الأفضل والأكثر استقرارا وانتماء الى روح العصر والى المدنية الصحيحة في الفكر والسلوك والبناء، لذلك توجد حاجة كبيرة جدا لتطبيق هذا القانون الذي يشمل كل مفردات العيش المادية والمعنوية، لذلك يؤكد الإمام الشيرازي قائلا: (من هنا تتضح الحاجة إلى تطبيق قانون السلم والسلام ومعرفة مقوماته في مختلف مجالات الحياة).
الكل يريد الخير لنفسه
ومع كل يوم إضافي في عمر البشرية، تزداد نسبة سكان الأرض وتقل مواردها، فتزداد مظاهر الصراع ومسبباته، ويغدو السلم الدولي حلم يصعب تحقيقه في ظل التصاعد الحاد في نزعة الاستحواذ التي تلبّست العقول والإرادات المريضة، ولعل المشكلة تكمن في هذه الشمولية الغريبة لحالة الاستحواذ، حيث يُصاب الجميع بها، فتتحول هذه النزعة الى حالات صراع وإرادات تتصادم فيما بينها، وهي في الغالب غير مستعدة للالتزام بقانون السلم، بسبب ضيق الحياة وانحسار الفرص نتيجة البحث عن المصالح في إطار الصراع والاحتراب والإقصاء وليس التنافس الشريف والتعاون الخلاق.
في هذا المجال يقول الإمام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (إن الحياة صارت ضيقة إلى أبعد الحدود، فصار الكل يريد الخير لنفسه ويريد إبعاد كل الشر عنها، فتصادمت المصالح في إرادة الاستحواذ).
ومع أن السلم والسلام حاجة فعلية ماسّة للعالم أجمع، لكن حتى هذه اللحظة لم يتم وضع قواعد دولية ملزمة تضمن إطفاء الصراع وإنهائه بين المتصارعين (دول أو حالات احتراب داخلية)، لأن الدلائل كلها تشير بل وتؤكد على أن الصراع ظاهرة بشرية من المستحيل القضاء عليها، ولكن بالإمكان التعامل معها في إطار حالة الاحتواء الذي يمكن أن يحيلها أو يخفف منها لينقلها من حالة الصراع الى حالة التنافس الإيجابي.
وهكذا وعى المجتمع الدولي حاجته للسلم، وقانون السلام العالمي في إطار ضوابط يتم الاتفاق عليها وقبولها بعد الدراسة والتمحيص من لدن جميع الدول التي تمتلك هذه الصفة بصيغة رسمية، وبهذا شرعت تتصاعد دعوات متواصلة تتردد هذه الحاجة في وسائل الإعلام والمنظمات المتخصصة وسواها، حيث يتم إعلان هذه الحاجة التي لا مجال لإهمالها أو عدم وضعها ضمن أولويات الأهداف العالمية الباحثة والعاملة على ترسيخ قانون السلم في ربوع المعمورة أجمع.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: إن (السلم والسلام كلمة ترددها الألسن في المحافل الصغيرة والكبيرة، الدولية والمحلية، خصوصا في هذا العصر الذي تقدَّمَ في علومه وحضارته، كما تقدَّم في أسباب التناحر).
السلم ووسائل الإعلام
قد يكون من البديهي أن نتحدث عن فوائد السلم وما ينعكس منه على حياة الدول والمجتمعات والأفراد في عموم العالم، لذلك فإن الحياة تزدهر تحت ظلال السلام، والمواهب تنمو، والعقول تبدع وتبتكر، والاستقرار يسود، وينشغل الإنسان بما هو أفضل بكثير من الحروب والتدمير والهدم، فالسلام هو صانع البناء الأول في جميع الأزمان، لهذا نجد أن جميع مجالات العيش تنتعش تحت ظلال شجرة السلام الوارفة.
فتغدو البشرية متنعمة فيما تجده أمامها من نعم وضعها الله تعالى في خدمة الجميع، شريطة أن يتعامل الإنسان مع هذه النعم وفق قواعد صحيحة، حتى تنعكس النتائج الجيدة على جميع مجالات الحياة المتنوعة، بين الصحة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، والإعلام وسوى ذلك مما يمكن أن تنعكس عليه قواعد وفوائد السلم بصورة تصب في الصالح العام والأفراد معا.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن - السلم والسلام- بمعناهما الأعم والشمولي يقتضيان الأمن والعافية، والاستقرار والازدهار، وكل ما يضمن تقدم الحياة وتطورها، ويضعها في أبعادها الصحيحة، الصحية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، والعسكرية والإعلامية، وغيرها).
وبعد أن نتمعن في هذه الفوائد الجمة لقانون السلم العالمي والإقليمي أيضا، بل حتى في المجتمع الواحد، وبين الأفراد كذلك، فإن عدم الوصول الى تحقيق السلام سوف يلحق بالجميع حالة من النقص التي تدفع بهم الى الشعور بالحاجة القوية إليه كمقوم أساسي لاستمرارية الحياة بصورة سليمة أو مقبولة، فيدفع هذا الأمر بجميع الدول والمنظمات المتخصصة والشخصيات الفكرية والسياسية الى المطالبة بالبحث عن قواعد سلمية ضامنة لكبح الحروب وعدم تأجيج مظاهر الاحتراب بأشكالها المختلفة ومصادرها العديدة.
من جهة أخرى تدل هذه الدعوات المتكررة للسلم في المحافل الدولية ووسائل الإعلام والمؤتمرات وسواها، على التأثير الكبير والفعلي الذي ألحقته مظاهر الحروب بالعالم أجمع، ولهذا تبدو حالة التصادم الدولي من أجل المصالح القومية للدولة مشكلة كبيرة وخطير في وقت واحد، ولا ينبغي التلكؤ في وضع الأساسيات الكابحة لهذه الظاهرة التي قد تدفع بالبشرية الى حرب تفني الأرض بمن فيها، لاسيما أن الترسانة النووية الموزعة بين الدول العظمى وسواها، تهدد البشرية بالفناء التام، إذا لم يتحرك المجتمع الدولي بصورة سريعة حكيمة حاذقة لوضع (قانون السلم والسلام) موضوع التنفيذ، بما يضمن (الجنوح الى السلم) بين جميع المجتمعات والجماعات والشخصيات وصولا الى الأفراد، لكي يتم وضع حد لهذه العاهة البشرية التي تكاد تفتك بالجميع في حالة إهمالها.
لذلك يقول الإمام الشيرازي: (كلما اشتد البحث عن السلم والسلام في الوسائل الإعلامية وغيرها، وعلت الأصوات في ترويج كلمة السلام وتكرارها، ربما دل ذلك على مدى مشكلة البشرية ومعاناتها وصعوبة الوصول إلى السلام وتعقد مسالك سبلـه وضياع معالمه).
اضف تعليق