كيف يفرز المجتمع الطغاة؟، إن المجتمعات التي هشّ فيها المصلحون وشرس فيها المفسدون، هي التي تفرز الطغاة، فالمجتمع الذي يكون فيه المصلح خَمِل، بينما المفسد نشِط، فمن الطبيعي أن يتسلّق الطاغي سلّم السلطة بفضل وجود الكثرة من المفسدين فيسيطر على البلاد. وهذا يفسر حديث النبي: "...لتأمرنّ بالمعروف وتنهون عن المنكر وإلا يسلط الله شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم". وهو أمر منطقي، فاذا لم يصلح المصلح، معناه تحول المجتمع نحو الفساد. وفي هكذا مجتمع يصعد الى الحكم أحد الفاسدين.
إن الله لا يقدر موازين الحياة بالدعاء؟، لقد بين النبي الاكرم في حديثه؛ قانونين كونيين: الاول: كيفية استيلاء الطغاة على قمة السلطة، الثاني: إن الحياة بأسبابها، والدعاء لا يغير الواقع الفاسد، فالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، لم يأت بكشف جديد، ولم يخبر عن الغيب أو وضع تشريعاً، إنما هو تأكيد لحقيقة انسانية وحكمة تسود العالم والكون، أما الدعاء فله مقامه، كما أن للعمل مقامه".
لنضع حداً نهائياً للحالة "النخبوية"
مناقشة الاسباب المؤدية الى ظهور الديكتاتوريات وايضاً الحكام المستبدين والفاسدين، يدعونا الى فتح نافذة صغيرة نحو الحديث الواسع عن أزمة القيادة في البلاد الاسلامية، فبدلاً من أن ينصرف اهتمام الامة نحو آليات التطور العلمي والمزيد من التماسك الاجتماعي وانتشار الوعي والثقافة، كما كان حالها في العهود الذهبية في القرون الاولى من تاريخ الاسلام، نجدها اليوم عاجزة عن بلورة مفهوم هو من أساسيات الحياة، فتجد نفسها على حين غفلة بين قبضة حاكم لا يعرف من شؤون الحكم والعلاقة مع الامة، سوى الاستبداد والفساد وفرض الطاعة العمياء، وإلا فالحديد والنار ومختلف اشكال القمع والاضطهاد.
إن التجارب الديكتاتورية في العالم وعلى طول الخط، لم تعرف بالمرة نظام الهرم القيادي بما يمكنه من تحقيق علاقة سليمة مع القاعدة (الجماهير)، لذا يبتلى هكذا نوع من الحكام بخوف دائم من أن يتخطفهم الاعداء والمنافسون في كل لحظة، كونه رأس كبير وثقيل فرض نفسه على جسم ليس من سنخه، بينما المنظومة القيادية التي بينها الاسلام، تتسم بالحضارية والانسانية، تجعل من الهرم القيادي قطعة متلاحمة واحدة كالجبل الأشم، عصيّة على النيل منها من الاعداء والمتربصين، من خلال وجود القيادة الوسطى بين القاعدة الجماهيرية والقيادة العليا، ويطلق عليهم في الوقت الحاضر "النخبة المثقفة" أو "الطبقة المتوسطة"، ومنها ينبثق المصلحون الذي يشير اليهم سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، ويحمّلهم مسؤولية الحؤول دون تسلّق الطغاة والفاسدين، سلّم السلطة.
وكلما كانت هذه "الشريحة المصلحة" اكثر حيوية ووعياً وتحملاً للمسؤولية، كانت اكثر أقرب الى النجاح في إحكام الربط بين جماهير الشعب وبين قيادتها، فهي التي تنشر الوعي وتصنع الثقافة وتعمّق الفكر الأصيل وتصون العقيدة الحقّة، وهذه ليست من التجارب السياسية المبتكرة، إنما هي تجربة حضارية رائدة قدمها للعالم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في بداية دعوته، حيث ربّى عدداً من الاشخاص ممن اجتازوا الاختبارات الصعبة فتميزوا على سائر الناس بالصبر والبصيرة والتحدي، من أمثال عمار ابن ياسر، وأبو ذر، وسلمان، الى جانب علي بن أبي طالب، واذا نجد قيم العدالة والحرية والتسامح والتقوى وسائر الفضائل والخصال الاخلاقية، باقية على طراوتها رغم التكالب على قمة الحكم من بعد رحلة النبي، فان الفضل يعود، ليس فقط على وجود الامام أمير المؤمنين، عليه السلام، وإنما الى تلك الثلّة المؤمنة والمضحية والمتفاعلة التي نذرت نفسها لأن لا تترك الامة وحيدة فريسة طلاب الحكم والسلطة؛ فكان صيحات أبو ذر، ومواقف الامام علي، وحضوره الدائم في الساحة.
أما اذا استراحت هذه "النخبة المثقفة" لما لديها من علم وفهم تكسبها منزلة اجتماعية، مع بعض الامتيازات الآتية من العلم والثقافة، فلا نتوقع بأقل مما حصل في العراق خلال فترة الستينات والسبعينات، من انفصام مؤلم بين القيادة الوسطى والقاعدة الجماهيرية، في وقت كانت تلك الفترة تمثل العهد الذهبي للثقافة في العالم الاسلامي، حيث كانت الاحزاب السياسية والضباط الطامحين، مصابون بحمّى السلطة تراودهم أحلام القصر الجمهوري، كانت منابر الخطباء صدّاحة في العراق ومصر، والأقلام المبدعة تضخ فكراً وثقافة ووعياً، ودور النشر تطبع وتوزع عشرات الآلاف من الكتب والمجلات، الى جانب النشاط الملحوظ من الحوزات العلمية في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة.
وجاء الاختبار العسير في نهاية السبعينات، حيث المرحلة التاريخية الفاصلة، التي كانت تمثل بحق المنعطف التاريخي الخطير في تاريخ العراق، وربما في تاريخ العالم الاسلامي برمته، فقد تمكّن نظام حزب البعث بقيادة شخصية حزبية مثل صدام حسين، لأن يمرر السكين بسهولة وهدوء بين كل تلك الجهود الثقافية والفكرية وما ضمته القاعدة الوسطى والشريحة المثقفة، وبين القاعدة الجماهيرية العريضة، حتى انه توّج صعوده الى السلطة بإفراغ الساحة تماماً من هذه الشريحة، وذلك من خلال سلسلة من المشاريع والاعمال المثيرة وغير المتوقعة، مثل تشكيل تنظيمات وجمعيات استوعبت جميع افراد المجتمع ولم يدع فرداً او شريحة مهما كانت خارج الهرم المكون من الجماهير المطيعة والمصفقة والقائد الضرورة، فكان اتحاد النساء، والجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، بلغ حتى بلغ الأمر الى تلاميذ المرحلة الابتدائية الذين ابتكر لهم هذا "القائد" تنظيماً خاصاً لهم بعنوان "الطلائع"! بما يوهم أنهم طلائع الحزب الحاكم رغم صغر سنهم.
ومن هذا المنطلق نجد سماحة الامام الشيرازي يؤكد مراراً في مناسبات عديدة على أهمية تنشيط القاعدة الوسطى، ليس فقط لتكوين الهرم القيادي الصحيح وتحقيق مصالح حزبية وسياسية، وإنما لضمان استقرار وأمن المجتمع والامة برمتها وإبعادها عن كل اشكال الاضطراب السياسي والاقتصادي.
ففي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يدعو الى "تلاحم" مؤسسات التنظيم وعناصره بالجماهير "لقيادة معارك التحرير ضد الاستعمار والاستبداد، ولو فقد التنظيم صلته بالجماهير يعيش الفراغ ولا يتطور".
وهنا يعالج سماحته واحدة من أبرز الاشكاليات المنهجية في بعض التنظيمات الاسلامية النازعة نحو النخبوية الثقافية المقيتة والتفاخر بها امام الناس، على أن مصدر قوتها من الايديولوجية التي تحملها، ومن نظريات وافكار وتصورات يحملها عدد من المنظرين، بينما الرؤية الاخرى لسماحة الامام الشيرازي فانها ترى في أن الجماهير التي في نظر البعض فاقدة للوعي والثقافة، "تغذي التنظيم فينمو ويتوسع حتى يستوعب العالم الاسلامي وتحدث اليقظة الكاملة والحركة الشاملة في مكافحة الاستعمار". وفي مناسبة أخرى يحذر سماحته من مغبة تجاهل قدرات الناس العاديين، بأن "لا تقل: وما قيمة هذا أو ذاك...؟! فهذا الانسان العادي ربما ينقذك في ساحة المواجهة، وربما يرديك"! وهو ما حصل فعلاً في تجربتنا مع نظام حكم صدام.
الجماهير بين المجاهد والمتقاعس
ربما يقول البعض بعدم توفيق المصلحين بتحقيق النجاح المأمول بسبب تقاعس الأمة وتخاذل الجماهير لاسباب عديدة، ليس أقلها الخوف على المصالح والرغبة في الحياة بعيداً عن الألم والسجون والمضايقات، ولكن؛ في نفس الوقت هناك الكثير ممن يؤكد نجاح مصلحين في تغييرات كبيرة في مجتمعاتهم عندما غاصوا في عمق واقعهم وتوصلوا الى فهم صحيح للظواهر والازمات التي يعيشونها فجاءت وصفات العلاج دقيقة وناجعة، ومثالنا القريب؛ ايران في أيام النضال ضد نظام الشاه البائد، فالشريحة المثقفة لم تكن في الغرف المغلقة، إنما كانت بين عامة الناس، وهذا كان يشمل مختلف الانتماءات؛ من دينية ويسارية وعلمانية، فكما كانت منابر شخصية مثل الشهيد الشيخ مرتضى مطهري في الحسينيات والمساجد وايضاً في البيوت، تستقطب الكسبة والنساء واصحاب المهن الحرة والشباب، كانت محاضرات الشهيد الدكتور علي شريعتي تستقطب مئات الجامعية، وكذا كانت تفعل سائر التنظيمات والجماعات في تعبئتها للجماهير وتسابقها على استقطاب الساحة.
ومن الطبيعي جداً أن الناس بشكل عام تنجذب الى المضحي والعامل النشِط – كما يعبر عن ذلك الامام الشيرازي- وتتعلم منه دروس التضحية والاقدام بشجاعة لتغيير الواقع الفاسد، وليس بالضرورة ان نتوقع انطلاق شرارة انتفاضة جماهيرية هادرة من اليوم الاول، إنما القضية بحاجة الى نضال وتضحيات وعمل دؤوب وممنهج، ربما يستمر لسنوات، في داخل البلد او في بلاد المهجر، حتى تكون القاعدة الجماهيرية من النضج والقدرة أن تتحدي أي انحراف او طغيان او خطر يهدد أمنها واستقرارها.
اضف تعليق