"من أهم ما يجب ان يسود الحياة؛ البساطة فيها، من مأكل، وملبس، والسفر، والحضر، إن الانسان البسيط هو الذي يعيش الراحة في حياته، ومن العبر البليغة من تاريخنا عن دور البساطة في صنع الحياة السعيدة، ما حصل بين رسول الله، صلى الله عليه وآله، وبين ابنته الصديقة الزهراء، عليها السلام، عندما عاد، صلى الله عليه وآله، من إحدى رحلاته خارج المدينة، وكان المعتاد زيارة بيت فاطمة قبل غيرها، وبينا هو متوجه الى دارها، إذ غيّر مساره فجأة وتوجه الى المسجد، مما أثار التساؤل لدى الزهراء، عليها السلام، فما كان أسرع من أن تعرف السبب، وهو الستر (قطعة القماش الجميلة) المعلقة على باب دارها، والسوارين من فضة في يدي الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وقد وصل الى أهل البيت من غنائم المسلمين.
وما هي إلا لحظات حتى سارعت الزهراء، عليها السلام، بنزع ذلك الستر المعلق، وخلع السوارين من الحسنين، وأعطتهما للحسنين وأرسلتهما الى المسجد مع رسالة التحية والسلام بأن "أمنا فاطمة تسلّم عليك وتقول: إن الستر والسوارين لك يا رسول الله، انفقهما كيف تشاء". عندها هتف رسول الله ثلاثاً وهو بين جموع المسلمين: فعلت فداها أبوها، ثم أخذ السوارين والستر ووزعهما بين المسلمين.
هنا يأتي السؤال:
هل كان تعليق الستر على الباب، عملاً محرماً؟ كلا، وهل كان عملاً مكروهاً؟ ايضاً كلا. كذلك الحال بالنسبة للسوارين في يد الحسنين. بيد أن رسول الله، كان يريد ان يؤدب أمته لتتعلم كيف تعيش حياة البساطة وعدم التكلّف، إن الله –تعالى- لا يحب المتكلفين.
هذه القاعدة تشمل جوانب عديدة في الحياة، ربما منها الولائم وموائد الضيافة، فالذي يدعو شخصاً او جماعة، يكفي أن يقدم لهم ما تيسّر له، لا أن يغوض في التكاليف الباهظة لإعداد موائد عامرة بمختلف أصناف الأطعمة والأشربة التي يكون مصير قسم كبير منها الى حاوية القمامة.
ومن أهم ما تحتاجه البساطة في حياتنا، مراسيم الزواج، بغية التقليل من عدد العزاب والعازبات في جميع البلاد الاسلامية.
جاءني أحد الآباء وقد زوج ابنه (والقصة تعود الى أيام وجود الامام الشيرازي في الكويت في سني السبعينات)، وهو يتذمّر من مراسيم زواج ابنه ويقول: سيدنا إن مراسيم الزواج يكسر الظهر!! قلت كيف؟ قال: كنت مجبراً على أن أحضر رزمة من الاوراق النقدية فئة عشرة دنانير، لأوزعها هدية الى الحاضرين...!
قلت في نفس، إن هذا الرجل الذي كان يغمره الفرح بإقامته الزواج لابنه بأحسن وأبهى ما يكون، ولكن؛ يا ترى؛ كم حلم بالزواج يحطم هذا الرجل بفعلته هذه، لأن الجار والصديق والصديقة وسائر افراد المجتمع الحاضرين في ذلك الحفل البهيج والعامر، ومن الذين استلموا تلك الهدية الرائعة، ربما لن يكونوا قادرين على تكرار هكذا مشهد، او مشاهد باذخة مماثلة، لأن من دون هكذا أعمال لن يتم العرس في معظم الاحيان.
من خلال تلك الواقعة التاريخية اراد رسول الله، وابنته فاطمة، عليهما السلام، تربية ابناء الأمة على مر الاجيال بأن يلتزموا بساطة العيش في حياتهم، فالزواج –مثلاً- عندهم بدأ في غرفة، وليس في شقة أو بيت مستقل، أو لابد من تمضية "شهر العسل" في هذه المدينة الجميلة او تلك، بل حتى وإن كانت وجهة العريسين المدن المقدسة، مثل خراسان او العمرة او النجف الأشرف.
وهنا نتسائل: لو كان لدينا البساطة في الزواج، هل كان نصف فتياتنا وفتياننا قابعين في بيوتهم وبين أبويهم اليوم؟، ولذلك لا توجد بيت في البلاد الاسلامية، إلا وفيه بنات وشباب عزّاب".
الإسلام يدعو الى الرخاء
لمن يقرأ الآيات القرآنية من سورة القصص، وهي تتحدث عن قصة قارون؛ يتأكد له حرص الإسلام على أن يعيش الانسان الرخاء في حياته ويتمتع بما أنعم الله عليه، وسخّر له النبات والحيوان والطبيعة بأسرها.
وقد كان قارون أحد افراد المجتمع اليهودي في عهد النبي موسى، عليه السلام، بيد أن تعاظم الثروة لديه دفعه نحو الانحراف عن الطريق، لذا دعاه المؤمنون من ابناء مجتمعه بأن {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، فرغم إن السياق القرآني يتحدث عن بغي قارون على قومه بأمواله وكنوزه، فإن الباب يبقى مفتوحاً أمامه بأن يستفيد من هذه النعمة لضمان الآخرة، وايضاً للتمتع بها في الحياة الدنيا، بيد أن هذا الرجل رضي لنفسه أن يكون عبرة للتاريخ والأجيال لمن يعد نفسه كل شيء المالك الحقيقي لكل شيء في الحياة: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي...}، { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ...}، فضاعت أمواله وممتلكاته مرة واحدة ولم تكن عاملاً لسعادته في الحياة الدنيا ولا في الآخرة.
وكم من أناس يحظون بثروات هائلة وفرص للعيش الرغيد، بيد أن خطأ واحداً وفادحاً في آن، يجعلهم يخسرون كل شيء، في حين كان بالامكان التمتع بهذه الثروات والامكانات في ظل نظام اقتصادي واجتماعي أرسى دعائمه الإسلام وبين قواعده وقوانينه يجعل من الانسان الثري يعيش حياة مرفهة وآمنة الى جانب سائر افراد المجتمع، حتى مع من هم دون مستواه المعيشي، بفضل التكافل الاجتماعي.
وهذه النقطة تحديداً يشير اليها سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في مقطع من محاضرة له يدعو فيها الى بساطة العيش، بأن توفير احتياجات البيت وحتى بعض الكماليات ليس من المحرمات ولا مكروهاً من الناحية الشرعية، وإن كان النبي الأكرم، قد غضّ النظر في تلك الحادثة، عما رآه، لم يكن أحد ليلتفت الى القضية بتاتاً، ولا التاريخ يسجل شيئاً لنا، بينما العبرة في تعميم حالة الرخاء على عامة افراد المجتمع، بدلاً من أن تكون لشخص او فئة معينة.
وليس بالضرورة أن يكون هذا التكافل على حساب النظام المعيشي للانسان الثري، إذ يؤكد العلماء على أن التكافل والإحسان والعطاء تكون الى جانب الملكية الفردية والتنافس الشريف على الانتاج وكسب المزيد من الارباح، بل إن هذا النجاح الاقتصادي من شأنه ان يكون عاملاً لنشر هذه القيم الاخلاقية والانسانية وتفعيلها في المجتمع.
ومن أبرز تطبيقات هذه القيم على أرض الواقع، ويشير اليها سماحة الامام الشيرازي؛ تغيير الصورة النمطية للزواج في بلداننا بأنه يستدعي الى الذهن للوهلة الأولى؛ التكاليف الباهضة لمراسيم الزفاف والمهر ثم توفير السكن الجيد مع محتوياته من أثاث بماركات مقبولة، وهذا ما يستثقله ويئن من وطأته شريحة واسعة من الشباب، في الوقت الحاضر، كما هي المشكلة قائمة منذ عقود من الزمن.
إن بعض الاعمال التي يؤديها الآباء او الأمهات في مراسيم الزفاف، تترك أثراً في السلوك الاجتماعي وتتحول – من حيث يريدون او لا يريدون- الى سنّة وقانون اجتماعي لابد من الالتزام به، مثل إجراء حفلات الزفاف في القاعات الفارهة واستئجار السيارات الحديثة وإعداد وجبات الطعام المكلفة، هذا فضلاً عن أعمال اخرى ربما لا تخطر على بال، تبذر فيها أموال طائلة كالذي قام به ذلك الأب في زفاف ابنه من نثر الأموال على الحاضرين.
واذا طالعنا سيرة حياة المعصومين، عليهم السلام، نجد أنهم لم يكونوا فقراء، ولعل أبرزهم؛ الصديقة الزهراء، عليها السلام، محور حديثنا وحديث سماحة الامام الشيرازي، فقد كانت تملك "فدكاً" تلك الأرض المعطاءة ربما بآلاف الدنانير الذهبية، بيد أن هذه الثروة لم تغير من طريقة حياتها شيء، بل كانت تنفق المردود المالي من فدك على الفقراء والمحتاجين، وبين قوسين؛ فإن فقراء المسلمين من بعد غياب الصديقة الزهراء، عاشوا الضنك والكمد لفقدانهم تلك اليد البيضاء التي كانت تمدهم بالعطاء من تلك الهبة النبوية، واتضاح زيف الادعاءات بأن هذه الارض ستكون "صدقة للمسلمين".
وهكذا كان الأئمة الاطهار، يملكون الذهب والفضة، وقبل ان تلامس حياتهم وملابسهم وطعامهم وأثاث بيوتهم، كانت تتوجه فوراً لإصلاح الوضع والمعيشي والاقتصادي للأمة، فيما كانوا هم ايضاً يعيشون حياة عادية لا شحّة فيها ولا عوز، بل كانوا يسكنون البيوت الواسعة ويستخدمون الدواب، بل ويوصون بـ "الدار الوسيعة والدابة السريعة...".
ولعل هذا هو الذي يفسّر لنا إحدى النقاط المضيئة في تاريخنا، عندما كانوا يدعون الى استلام الاموال والعطايا، في بعض الازمان، فلم يتقدم أحد من المسلمين، لعدم وجود الفقير والمحتاج الى مال أو مسكن أو ملبس.
اضف تعليق