يقول السيد جواد شبر في موسوعته الخالدة (أدب الطف) (ج3ص7): (إني لا أُؤمن أن أمثال اولئك الشعراء الفطاحل لم ينظموا في يوم الحسين مع ما عرفوا به من الموالاة والمفاداة لأهل البيت (صلوات الله عليهم).
ثم يتساءل شبّر باستفهام عميق: (فهل تعتقد أن أمثال أبي تمام والفرزدق وابن الرومي والبحتري والحسين الطغرائي وصفي الدين الحلي والمتنبي وأضرابهم لم يقولوا في الحسين، ولم يذكروا يومه ويتأثروا بموقفه البطولي مع أن يوم الحسين هزّ العالم هزاً عنيفاً لا زال صداه يملأ الآفاق) ؟.
ويشير شبر إلى جناية يد التعصب بحق الأدب الشيعي فيقول: (إن الكثير من تراثنا الأدبي ضاع وأهمل، وغطت عليه يد العصبية في الأعصر الأموية وتوابعها في عصور الجهل والعقلية المتحجرة).
ثم يسوق شبّر بعض الأمثلة على ضياع الشعر الشيعي وتضييعه وإخفائه من قبل السلطات المعادية لأهل البيت (عليهم السلام)، وماجناه المؤرخون على الشعر الشيعي في إخفائه.
هذا التساؤل من قبل السيد جواد شبر يدعونا إلى البحث والإستقصاء عن شعر هؤلاء الشعراء الذين ذكرهم وهم من شعراء الشيعة كما دل على ذلك شعرهم، وكما دلت التواريخ على ضياع الكثير من الشعر الشيعي لهم ولغيرهم، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى.
تساؤلات كثيرة ولكن ..
إن ما يهمنا هنا في هذا الموضوع الحديث عن الشعر الشيعي لدى المتنبي والذي أفرزته مكونات بيئته الشيعية الكوفة التي تعد مركز التشيّع.
أليس عجيباً أن يلد شاعر يُعد أعظم شاعر عرفته العربية عبر تاريخها الطويل في بيئة ويدرس في مدارسها وينشأ على تعاليمها ولا تجد أثر تلك البيئة في شعره إلا في النزر اليسير ؟
فهل صحيح إن المتنبي اكتفى بمدحه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ببيتين فقط ؟ وهما:
وتركتُ مدحي للوصيِّ تعمُّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استقلَّ الشيءُ قامَ بنفسهِ *** وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا
وإذا كان كذلك فلم انفرد الواحدي بذكرهما في شرحه ؟
إن هذا الأمر يقتضي منا التساؤل والوقوف أمام هذا الشاعر فإذا كان قد اكتفى بهذين البيتين في مدحه لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فهل ترك وهو عاشق الشجاعة والبطولة وممجدهما مدح سيد الإباء وعنوان الشجاعة الإمام الحسين (عليه السلام) ؟
وإذا كان هذا التساؤل يقتضي منا أن نستجوب التاريخ فهو يُضم إلى التساؤلات الأخرى عن بقية الشعر الشيعي الذي فُقد وهي كثيرة وحسبنا منها أن نسأل التاريخ أين ضاع أكثر شعر ابراهيم بن العباس الصولي في أوائل العهد العباسي ولَمَ جُمع كل شعر له يتضمن مدح أهل البيت وأحرق ومنه قصيدته الدالية التي تزيد على مائتي بيتاً والتي أنشدها بين يدي الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فلم يحفظ التاريخ لنا منها سوى مطلعها وهو:
أزالَ عزاءَ القلبِ بعد التجلّدِ *** مصارعُ أبناءِ النبيِّ محمدِ
وحسبنا أن نسأل أين ضاع شعر دعبل وديك الجن والناشيء الصغير والكميت والسيد الحميري وغيرهم الكثير من الشعراء ؟
سيجيبك الشاعر منصور النمري الذي نُبش قبره بأمر هارون العباسي لأنه قال:
آل النبي ومن يحبهمُ *** يتطامنون مخافةَ القتلِ
أمنوا النصارى واليهود وهم *** من أُمّة التوحيد في أزلِ
المتنبي
لا نغالي إذا قلنا إنه لو جاءت كل أُمة بشاعرها لجاءت العرب بالمتنبي..، وهذه الحقيقة يكشفها شعره الذي ما فتئ يشغلها حتى الآن. فلم تعرف العرب شاعراً أعرف بلغتها وأعلم بتاريخها وألمّ بثقافتها منه، وكأنه قد قرر هذه الحقيقة قبل أكثر من عشرة قرون بقوله:
أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها *** ويسهرُ الخلقَ جرّاها ويختصمُ
والحديث عن المتنبي حديث طويلٌ متعدد الجوانب، متشعب الاغراض، متنوع الموارد خاض فيه الدارسون والباحثون على مدى قرون طويلة، ولا يدعي أحد أنه أحاط إحاطة شاملة بهذا الشاعر الفذ، وقد سلّم له الأولون من علماء اللغة والشعراء كما دان له المتأخرون بأعلميته وشاعريته.
فهذا البديعي يقول في (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) (ص141): (أنت أبو عذرتها - أي اللغة - وأولى الناس بها، وأعرفهم باشتقاقاتها، والأعلم على أفانينها، وما أحد اولى بأن يسأل عن غريبها منك).
ويخص الثعالبي أبا الطيب المتنبي بدراسة مستفيضة في (يتيمة الدهر).
وقال عنه ابن وكيع التنيسي في المنصف: (أما اللغة فكان فيها إماماً، لم تضرب العرب بعصا إلاّ وعنده منها خبر، وأما الشعر فإنه لسان الزمان لا ينطق أو يستأذنه، واما النحو فهو على مذهبه في النحو نحوي).
وحتى خصومه من الشعراء والنقاد أيضاً اعترفوا بشاعريته عليهم وفضله. وتطول قائمة الأحاديث.
جذوره ونشأته وتشيعه
وبالرجوع الى الجذور الاولى لحياة المتنبي تتضح العوامل المهمة التي ساعدت في تكوين ثقافة هذا الشاعر وشاعريته ومدى تفاعله معها واستجابته لها نفسياً وذهنياً. يقول ابن الانباري في (نزهة الالباء) (ص204): (ولد المتنبي في أسرة شيعية)، وعن بواكير نشأته العلمية ينقل لنا محمد بن جعفر النجار المتوفى سنة (402هـ) في (تاريخ الكوفة) وهو أقرب المؤرخين الى عصر المتنبي: (إن المتنبي التحق بمدرسة أشراف الكوفة وتعلم الدروس العلوية شعراً ولغة وإعراباً).
وقد أيد رواية ابن النجار ابو الحسن محمد بن يحيى العلوي وهو ممن جاور الشاعر في الكوفة وتوفي سنة (390هـ)، والمعروف إن المتنبي ولد سنة (303هـ) في الكوفة وتوفي سنة (354هـ) في دير العاقول، وعلى هذا الأساس فإن نشأة الشاعر بالمدارس العلوية أمر مفروغ منه كما جاء على لسان معاصريه ابن النجار وأبو يحيى العلوي.
كما اتفقت كل الحقائق والمصادر التاريخية على مساندة هذا القول فالكوفة كانت وعلى مدى قرون طويلة مهداً للتشيع ومعقلاً لشيعة علي وأولاده (صلوات الله عليهم).
تقول هدى الارناؤوطي في كتابها (ثقافة المتنبي وأثرها في شعره) (ص23): (وفي ظل هذا النظام الاجتماعي الذي يتسم بالخصوصية وهذه الحياة المذهبية التي سيطرت عليها روح التشيع إلى حد كبير فأن تخصيص الشيعة لمثل هذه المدارس التي التحق بها المتنبي يبدو أمراً معقولاً).
ويعزز المستشرق الفرنسي جوزيف بلاشير هذا الرأي كما نقله طه حسين في كتابه (مع المتنبي) (ص43) بقوله: (وكان بما عرف عنه من ميل إلى علوم الشيعة الذي خلفته الوراثة والنشأة الأولى في مدرسة العلويين قادراً على الموازنة بين ما يعتقده وبين الاتجاهات المذهبية الاخرى).
مع الحمدانيين
وإضافة إلى ذلك فإن المتنبي لم يتأثر بعد الكوفة بوسط أدبي أكثر من بلاط بني حمدان، حيث قضى فيه الشاعر نحو ثماني سنين وفيها كتب أروع قصائده في سيف الدولة الحمداني، وبنو حمدان كما هو معروف شيعة إثنا عشرية.
واستدل مصطفى الشكعة في كتابه (الشعر في بلاط بني حمدان) (ص301) بأبيات أبي فراس الحمداني وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني على ذلك:
شافعي أحمدُ النبيّ ومولا *** يَ عليٌ والبنتُ والسبطانِ
وعليٌ وباقرُ العلمِ والصا *** دقُ ثم الأمينُ ذو التبيانِ
وعليٌ ومحمدُ بن عليٍّ *** وعليٌ والعسكريُّ والداني
والإمامُ المهديّ في يوم لاينـ *** ـفع إلاّ غفرانُ ذي الغفرانِ
ولما كان أبو فراس ابن عم سيف الدولة، وقد تربى على يديه، فقد عُدّ مذهبه مذهباً للدولة، ونجد الكثير من أمثال هذه الأبيات في شعر أبي فراس، كما كان البلاط الحمداني يضم كبار الشعراء والأدباء الشيعة الذي التحق بهم المتنبي.
فإضافة إلى أبي فراس فقد كان البلاط يضم: الصنوبري والنامي والناشئ الصغير والسري الرفاء وابو الفرج الببغاء والوأواء الدمشقي وكشاجم ومن العلماء أبو علي الفارسي والتنوخي والشمشاطي وابن خالوية وغيرهم، وكانت هذه الإمارة - بني حمدان - تنافس بغداد عاصمة الخلافة على الرغم من حداثتها في ذلك الوقت كما يقول طه حسين.
إذن فقد ولد المتنبي في الكوفة في أسرة شيعية، وجهته توجيهاً شيعياً، وألحقته بمدرسة أشراف العلويين، وتلقى مبادئ علوم الشيعة فيها، ثم انتقل إلى بيئة الحمدانيين وهم شيعة، وخالط علماءها وشعراءها.
بطاقة المتنبي الشيعية
وعلى الرغم من أن ديوان المتنبي لا تجد فيه كما تجد في دواوين شعراء الشيعة من الشعر المعروف بالشعر الشيعي الذي يتضمن مآثر أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم ورثائهم وقدح مناوئيهم وغاصبيهم حقهم، كما هي عادة الشعراء الشيعة كدعبل الخزاعي والناشئ الصغير وأبي فراس الحمداني ومهيار الديلمي وغيرهم وكما تضمنه دواوينهم من ذلك، إلّا أننا نجد بصمات واضحة تدلّ على ولاء المتنبي وتشيّعه واعترافه بأفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على غيرهم، وقد أحس معاصروه بهذا الأمر في عدم تعرّضه لقضية أهل البيت كما هي عادة شعراء الكوفة فسأله بعضهم: (لِمَ لم تذكر علياً) ؟ فقال في ذلك البيتين الذين ذكرناهما في بداية الموضوع والذين نقلهما الواحدي في (شرح ديوان المتنبي) ص (856).
ويدلنا سؤال السائل على أن شيعيته كانت مشهورة وإلّا فما مغزى أن يُسأل الشاعر عن عدم مدحه لعلي بالذات دون غيره من الخلفاء والصحابة إذا لم يكُ شيعياً ؟
ثم إن بيتيه الذين قالهما تضمّنا العقيدة الشيعية الصريحة وهي إضفاء كلمة الوصي في مدحه لعلي في البيتين وهو ما اختص به الشيعة في إطلاقهم هذا اللقب على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو اللقب الذي أضفاه عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فالبيتان يمثلان بالحقيقة بطاقة التعريف الشيعية للمتنبي، كما يدلان على المكانة الكبيرة والمنزلة العظيمة التي يحتلها علي في قلوب الشيعة:
وتركتُ مدحي للوصيِّ تعمّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
واذا استقلَّ الشيء قامَ بنفسهِ *** وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا
فالدلالة على عظم قدر الممدوح في هذين البيتين وإنه (عليه السلام) مما يعجز عن إيفاء حقه أعظم الشعراء، تحمل النفس الشيعي بوضوح، وهو ما اعتاد الشيعة في وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك.
تشيعه في ثنايا شعره
كما نجد بين ثنايا قصائده هذا الحسّ الشيعي الذي يفيض في صدر الشاعر الولائي بمدح أهل البيت (عليهم السلام) وذكر فضلهم كما ورد في مدحه لطاهر بن الحسين العلوي بقوله:
الطيبُ مما غنيتُ عنه *** كفى بقربِ الأميرِ طيبا
يبني به ربُنا المعالي *** كما بكم يغفرُ الذنوبا
ويبدو بوضوح المعنى الذي أشار إليه في الشطر الأخير حيث يشير المتنبي إلى مبدأ الشفاعة الذي اختص به النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، وهي من مبادئ الشيعة.
وفي موضع آخر يشبه أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم من معجزات الرسول وآية لتصديقه وتحقيقا لقوله تعالى: (ان شانئك هو الابتر) رداً على المشركين الذين قالوا (إن محمداً أبتر ولا عقب له)! فيقول:
نصرتَ علياً يا ابنه ببواترٍ *** من الفعل لا فلٌ لها في المضاربِ
وأبهرُ آياتِ التهاميِّ إنه *** أبوكَ وأجدى مالكمْ من مناقبِ
فقد مدح العلويين بانتسابهم إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وجعل ذلك إحدى مناقبهم الكثيرة.
وروى ابن فورجة في كتابه: (شرح مشكلات ديوان المتنبي) (ص163) البيت برواية يقول فيها:
(يعني إن أباك علي بن أبي طالب كان آية من آيات الرسول)، ويقول في نفس القصيدة يصف أبناء فاطمة بقوله:
كذا الفاطميون الندى في بنانهم *** أعزّ امّحاءً من خطوط الرواجبِ
والرواجب مفاصل الأصابع.
كما نراه يشيد بالمميزات التي يمتاز بها العلويون والصفات الموروثة عن آبائهم من مكارم الاخلاق فيقول:
اذا علويٌ لم يكن مثل طاهرٍ *** فما هو إلّا حجةٌ للنواصبِ
وتتكرر لفظة (الوصي) في شعره وكان ممدوحه من العلويين:
هو ابن رسولِ اللهِ وابن وصيه *** وشبههما شبّهت بعد التجاربِ
فحييتَ خير ابن لخيرِ أبٍ بها *** لأشرفِ بيتٍ من لؤيِّ بن غالبِ
المثل الأعلى
والشاعر عندما يريد أن يصف ممدوحه فأنه يشبهه بالمثل الأعلى الذي يراه، بغض النظر عن الفارق الكبير بين الممدوح وذلك المثل الأعلى، فهذا هو ديدن الشعراء وخاصة المتنبي عندما مدح سيف الدولة بعد انتصاره على الأخشيديين بقيادة محمد بن طغج فشبه تلك المعركة بصفين فقال:
يا سيف دولة ذي الجلالِ ومن له *** خير الخلائقِ والأنامِ سمي
انظر إلى صفين حين دخلتها *** فانحازَ عنكَ العسكرُ الغربي
فكأنه جيشَ ابن هندٍ رعته *** حتى كأنكَ يا علي عليّ
وفي البيت الأول تصريح كامل بعقيدته الشيعية فسيف الدولة هو علي بن أبي الهيجاء بن حمدان بن الحارث سمي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي وصفه المتنبي بأنه خير الخلائق والأنام وهو اعتقاد الشيعة بأنه (عليه السلام) سيد الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
موقفه من العباسيين
وكأي شيعي كان ينظر إلى الدولة العباسية بأنها دولة مستبدة وظالمة حاربت أهل البيت وقتلت الشيعة فلم يخلُ شعره من كرهٍ لخلافة بني العباس أو (دولة الخدم) كما يسميها بقوله:
لأتركنّ وجوهَ الخيلِ ساهمةً *** والحربُ أقوم من ساقٍ على قدمِ
بكلِّ منصلتٍ ما زال مُنتظري *** حتى أدلتُ له من دولةِ الخَدَمِ
وفي هذين البيتين نفس ثوري شيعي واضح.
اضف تعليق