بقدر ما يمثّل الرأي القائل بأن النبي (صلى الله عليه وآله) مات ولم يوص قدحاً برسالة سيد الأنبياء والمرسلين، فإنه يمثّل رأياً مُنفصلاً تماماً عن الأحداث التي مرت بالتاريخ الإسلامي منذ وفاة النبي إلى الآن، بل ومُضاداً للحقيقة التأريخية، إذ أن صاحبه يحاول أن يتستّر على الداء المُزمن الذي أصيبَ به جسد الإسلام دون أن ينظر إلى مسببه وكيفية علاجه، وينظر كذلك إلى الجراح العميقة التي مُنيت بها الأمة الإسلامية، فيحاول أن يغطيها بقوله هذا رغم إن القروح النازفة والموجعة لا تزال تنهش في جسد الإسلام، إنه بإيجاز يحاول أن يوهم نفسه قبل أن يوهمنا أن ما حلّ بالأمة الإسلامية من ويلات ومآس ونكبات ومجازر وعميات إبادة ودمار وخراب ومجاعات وتقتيل وتشريد وسجون كان النتيجة الطبيعية لمسار الإسلام !!
إن هذا القول أفرزه التعصّب الأعمى الذي وضع في عقل قائله حاجزاً يفصله عن رؤية الحقيقة، ودسّ إليه هذا القول ليتستّر به ويتجنّب الإصطدام بالحقائق التاريخية التي تحتّم وجود وصي لرسول الله، وتفرض عليه السؤال: من هو هذا الوصي ؟
إننا لو تغافلنا عن كل النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة والروايات، وكل القرائن والدلائل والبراهين الواضحة التي بيّنت وأوضحت وأشارت إلى الخليفة الشرعي، فهل يقبل العقل أن يتبنّى هذا الرأي ؟
هل يقبل العقل أن دولة ناشئة جاءت بشرائع وسنن وفرائض وأحكام وقوانين لكل ما يتعلّق بدنيا الإنسان وآخرته ثم يموت مؤسسها دون أن يوصي ؟
هل يقبل العقل أن دولة أسسّت دعائمها على العدل وتحرير الإنسان من ربقة العبودية والذل، وحطمت أصنام الجاهلية، وانتصفت للمظلوم من الظالم، وكسرت شوكة الجبابرة ثم لا يعين فيها قائداً يحفظ لها هذه المنجزات العظيمة ؟
هل يقبل العقل أن دولة امتلأت قلوب أعدائها من كفار قريش وغيرهم غيظاً وحقداً عليها، وتربّصوا بها الدوائر، واضطرهم ظهور الإسلام إلى الإستسلام ولم تسلم قلوبهم التي امتلأت كفراً، وكانوا يتحيّنون الفرص للإنتقام لآلهتهم وقتلاهم ثم يدع صاحب الرسالة ومؤسس الدولة دولته دون أن ينصّب من يرد عنها كيد الأعداء ؟
هل يقبل العقل أن يترك رسول الله أمته دون قائد لهم لتتقاتل فيما بينها على منصب القيادة، وقد أحاط المنافقون بالمسلمين للكيد لهم والإيقاع بينهم بالعداوة والبغضاء كما أخبره تعالى بذلك: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) ؟
فليسأل كل إنسان عاقل نفسه: هل أراد رسول الله لأمته الإختلاف فيما بينهم والعياذ بالله ؟ هل أراد أن يتنازع المهاجرون والأنصار، وتنقسم كلمتهم، وتتشقق صفوفهم، وقد آخاهم، ليقول كل منهم للآخر (منا أمير ومنكم أمير) ؟
وهل أراد أن يختلف المهاجرون فيما بينهم وكذلك الأنصار، ويسب بعضهم بعضاً، ثم يستفحل الخلاف إلى القتال فتراق دماء آلاف المسلمين، وتتشعّب منهم الفرق لتمزّق الجسد الإسلامي الواحد، ويتسلّط الطواغيت والفراعنة على رقاب المسلمين ليسومونهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ؟
هل أراد رسول الله لشريعته الغراء أن تتلاقفها أيدي المتلاعبين والمشوّهين والمحرّفين والمدلّسين ؟
الله أكبر حاشا رسول الله وهو الذي أدى ماعليه وضحى بنفسه وجاهد وتحمّل ما لايطاق من أذى الكفار في سبيل نشر الدعوة.
لقد بيّن (صلى الله عليه وآله) وأوضح وعيّن وأوصى لمن يلي أمر الأمة بعده في الكثير من المواطن، وختمها يوم الغدير حينما أدّى وبلغ ما أوحي إليه من ربه، وأكمل دين ربه بالوصية لعلي، لكن التعصّب الأعمى أبى على تلك العقول الخاوية التي أنكرت ذلك أن تكشف عن الداء العضال الذي لحق بالجسد الإسلامي جرّاء السياسات التي اغتصبت الخلافة، وأن تبرز القروح العميقة التي لحقت بالإسلام من طواغيت الأمويين والعباسيين ومن تلاهم.
وهل خُفي على الصحابة من كان أولاهم بالخلافة، وأحفظهم للشريعة، وأأمنهم على الأمة، وأعدلهم في الرعية، وأتقاهم وأفضلهم وأعلمهم وأشجعهم، ومن زيّن الخلافة ولم تزيّنه ؟
وهل كان أولى من علي بالخلافة ؟ علي الذي اجتمعت فيه من الخصال والفضائل ما لم يجتمع عُشرها في كل الصحابة، علي ربيب النبي، وتلميذه، والقرآن الناطق، وأشجع المسلمين، وأعلمهم بالكتاب والسنة، وهو القائل: (والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمتُ فيمَ نُزلت، وأين نُزلت، وعلى مَ نُزلت).
السقيفة المشؤومة
أخفي ذلك على أبي بكر الذي يقول: (أقيلوني فلستُ بخيركم وعلي فيكم) ! الله أكبر هذا اعتراف مغتصب الخلافة بأفضلية علي عليه ! ولنستمع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته (الشقشقية) وهو يصف مكانته من الخلافة:
(أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ، وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ).
يقسم أمير المؤمنين أن ابن أبي قحافة كان يعلم أنه (عليه السلام) إولى منه بالخلافة، فما يعني أن يتقمّصها هو ؟
وهل لها معنى سوى أن الجاهلية الجديدة كانت تنسج أثوابها داخل سقيفة بني ساعدة لاستعادة أمجادها بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والقضاء على الإسلام، فتمخّضت عن بيعة (الفلتة) التي وقى الله المسلمين شرها - كما قال صاحبها ـ ؟
هل لها معنى سوى أن تستيقظ الخلايا النائمة من المنافقين الذين يتربّصون بالإسلام ليستعيدوا مكانتهم في الجاهلية بثوب الإسلام وينتقموا لأسلافهم وآلهتهم ؟
وإذا كان لها معنى آخر غير هذا فبماذا تُفسّر (الفلتة) التي كان لها مضاعفات خطيرة أثرت سلباً على واقع المسلمين، وجلبت للأمة الإسلامية الكوارث والمآسي والويلات والمجازر وعلى امتدادات بعيدة ؟
وهل أدل على هذا المعنى من إقدامهم على الهجوم على أقدس بيت في الوجود، البيت الذي فيه مهبط الوحي والملائكة، وإحراقه بالنار، والإعتداء الآثم على سيدة نساء العالمين (صلوات الله عليها) وإسقاطها جنينها، أليس هذا هو انقلاب على الإسلام بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ؟
وقد أحسّ أبو بكر نفسه بخطورة ما أقدم عليه هو وأصحابه فقال عند احتضاره:
(وددت أني سألت رسول الله عن هذا الأمر) !! عجباً والله أين كان أبو بكر من هذا الكم الهائل من الأحاديث الشريفة التي توصي لعلي بالخلافة ؟
لقد سمعها ووعاها هو ومن أعانه ولكن: (ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)، وهذا القول يمثل الإحساس بعدم أهلية وكفاءة من قام به دون أهله، كما يدل على المؤامرة التي دُبرت لعرقلة المنهج الصحيح الذي اختاره النبي (صلى الله عليه وآله) لمسار الإسلام والذي يتمثل بتولي أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده.
جريمة خالد
وقد لاقى المسلمون من حكومة أبي بكر الويلات، ومنها المجزرة الرهيبة التي قام بها المجرم خالد بن الوليد في اليمن بقتله الصحابي الجليل مالك بن نويرة بدعوى (الردة)!
ومالك شهد له رسول الله بالجنة ! فاسمع واضحك أو فابكِ على عقول هؤلاء التي محقها التعصّب والحقد ! وكان سبب قتله هو اعتراضه على خلافة أبي بكر، فمالك ممن شهد يوم الغدير، ورأى وسمع رسول الله وهو رافع بيد علي ويقول: (من أكن مولاه فهذا علي مولاه)، فلما جاء بصدقات قومه رأى أبا بكر ينزو على منبر رسول الله فأنكر ذلك وقال:
فقلتُ خذوا أموالكمْ غير خائفٍ *** ولا ناظرٍ ماذا يجيءُ مع الغدِ
فإن قـام بالديـنِ المخلّف قائمٌ *** أطعنا وقلنا الدين دين محمدِ
وهذا البيتان هما دليل ساطع على أنه لم يرتد، بل أنكر بيعة أبي بكر، وقصد بالمخلّف القائم بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإذا كان مرتداً فلِمَ جاء من اليمن إلى المدينة ومعه صدقات قومه ثم رجع بها لما رأى أبا بكر ؟ وهل أن إنكار بيعة أبي بكر تعدّ (ردة) بنظركم يكون جزاؤها أن يقتل مع أهله وعشيرته غدراً !! لا إله إلا الله
السقيفة تفتح الثغرات للمنافقين
(فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ، وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي اَلْعَيْنِ قَذًى، وَفِي اَلْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً).
لقد تركت هذه البيعة ندباً في الجسد الإسلامي وأحدثت شرخاً لا يمكن رتقه، فقد أثار (أبطالها) النعرات الجاهلية والأحقاد القبلية بين الأوس والخزرج، والتي تلاشت بعد أن صالح النبي بين القبيلتين، فأججّ هؤلاء ذلك العداء القديم واستمالوا بشير بن سعد زعيم الأوس إلى جانبهم، ووقف سعد بن عبادة زعيم الخزرج ضد هذه البيعة، فقتلته (الجن) غيلة عقاباً له على معارضته هذه البيعة ! وما عشت أراك التاريخ عجباً.
ولم يكن سعد بن عبادة المعترض الوحيد على هذه (الفلتة)، بل وقف كبار الصحابة معارضين لها، كما كانت هذه (الفلتة) فرصة سانحة للمنافقين لزرع الفتنة بين المسلمين ومن ثم التقاتل فيما بينهم ليضعف الإسلام، ثم يجهزون هم على من يتبقى من المسلمين، وأول ثغرة أراد المنافقون النفوذ منها لهذا الغرض، هو المحاولة الفاشلة التي أراد بها أبو سفيان تحريض أمير المؤمنين (عليه السلام) ضد أصحاب السقيفة والتي أضمر بها الكيد للإسلام والدعوة إلى القتال بقوله: (لأملأنها لكَ خيلاً ورجالاً).
ولكن هذه الغاية لم تُخفَ على أمير المؤمنين فقال له: (لازلت تكيد للإسلام). فردم (عليه السلام) هذه الثغرة برده كما أوضح (عليه السلام) ذلك في رسالته إلى معاوية بقوله: (وقد كان أبوك أبو سفيان أتاني حين قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ابسط يدك أبايعك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين المسلمين لقرب عهد الناس بالكفر).
اثنا عشر رجلا
وبغض النظر عن هذه المحاولة (المكيدة) الفاشلة من قبل أبي سفيان، فقد كانت هناك محاولات صادقة وجادة من قبل كبار الصحابة اعترضوا على بيعة أبي بكر وهم: أبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود الكندي، وبريدة الأسلمي، وأبو الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري (رضوان الله عليهم)، ولكن حينما يأتي هؤلاء الصحابة الأجلاء المعترضون على بيعة أبي بكر إلى أمير المؤمنين ويقولون له:
(لقد هممنا أن نصير إلى أبي بكر فننزله عن منبر رسول الله، فجئناك نستشيرك ونستطلع رأيك فيما تأمرنا) ؟.
يقول (عليه السلام) لهم: (وإيم الله، لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين أسيافكم مستعدين للحرب والقتال، وإذن لآتوني فقالوا لي: بايع وإلا قتلناك فلا بد من دفع القوم عن نفسي).
وقد شهر عمر سيفه الذي لم يشهره بوجه الكفار لا في بدر، ولا في أحد، ولا في الأحزاب، ولا في غيرها، بل شهره بوجه اثني عشر رجلاً من أجلاء الصحابة اعترضوا على بيعة أبي بكر وهو يقول لهم: لئن اعترض أحد منكم على هذه البيعة لنأخذن الذي فيه عيناه !!
أليس الذين ذكرناهم من الرجال المعترضين على بيعة أبي بكر من الصحابة، أم أن الصحبة اقتصرت على (الخلفاء الثلاثة) ومعاوية ؟ لا إله إلا الله.
عمر لا يعمل بالمجان
وهكذا تمت (الفلتة) التي وقى الله شرها آنياً، ولا تزال آثار شرورها تتقد إلى الآن. وقد وفّى ابن أبي قحافة لصاحبه ما أسداه له من فعله هذا، (وكان أبو بكر أحرص على هذه الأمة من أن يتركها بدون خليفة) فوصّى لعمر من بعده وهو يحتضر، (لكنه لم يكن يهجر) رغم اعتراض الكثير من المسلمين على هذه الوصية التي جعلها في رجل سيئ الخلق.
حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
يتمثل أمير المؤمنين في وصف الخلافة واغتصابها منه بقول الأعشى (ميمون بن قيس من بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل)، وهو تشبيه واضح وبيّن، فبينما كان هو المقدّم في زمن النبي ولم يكن بمقامه أحد من الصحابة أصبح اليوم رابع خليفة وهو تضمين دقيق لحال الخلافة.
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ
وهكذا ضمن عمر، شطر حلبه الذي احتلبه لأبي بكر بقوله للصحابة الأجلاء الذين ذكرناهم والذين اعترضوا على بيعة أبي بكر: لئن اعترض أحد منكم على هذه البيعة لنأخذن الذي فيه عيناه..! ﴿لشدّ ما تشطّرا ضرعيها﴾.
العودة إلى الروح الجاهلية
لقد أرادت قريش محو الإسلام بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وآله، باستبعاد علي (عليه السلام) عن الخلافة ومحاربته، وهذا ما يتضح في الكثير من أقوال الخلفاء أنفسهم.
روى ابن الأثير في الجزء الثاني من تاريخه حديث عمر مع ابن عباس وقول عمر: (يا ابن عباس إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت) !
وهناك الكثير من هذه الروايات التي تدل على أن خلافة الثلاثة، كانت ذات عصبية قبلية، ونزعة جاهلية، ولم تكن مبنية على مبادئ إسلامية، وعدالة اجتماعية، ولا على شعار (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
أما سياسة عمر فقد تحوّل الإسلام فيها إلى غزو الجاهلية باسم الفتوح والجهاد، فكم حرة سُبيت ؟ وكم دم بريء سُفك ؟ وكم من حرمة انتُهكت ؟ وكم من شريعة عُطِّلت ؟ وكم من بدعة عُمل بها ؟ وكم من الأموال نُهبت ؟ هذا ما لا يحصيه إلا الله ! ونكتفي بالرسالة التي بعثها المجرم عمرو بن العاص إلى عمر بعد (فتحه) مصر والتي يقول فيها: (والله لأرسلن له قافلة من التحف والهدايا والأرزاق أولها في المدينة وآخرها عندي في مصر) !! وقد ارتد في زمن عمر بعض الصحابة منهم ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي، وكان سبب ارتدادهم عن الإسلام فظاظة عمر وسوء خلقه وقسوته، كما عرفت سياسة عمر بالعنصرية، فقد اضطهد الموالي وهم غير العرب.
ثالث القوم
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ.
ولا نريد هنا ذكر الأحداث المؤلمة في الشورى والتي تمخّضت عن بيعة عثمان في اجتماع الستة الذين (مات رسول الله وهو عنهم راضٍ)، كما يزعم عمر، ولا أدري هل مات رسول الله وهو راضٍ فقط عن هؤلاء الستة من بين آلاف الصحابة ؟ ألم يرض عن عمار وسلمان والمقداد وأبي ذر وغيرهم ووو .. وكما قلنا حديث الشورى طويل وذو شجون فمن أراد التوسع فيه فليراجعه من المصادر ولنأتِ إلى خلافة عثمان
لعل أدق وصف لخلافة عثمان هو قول المتنبي:
نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبِها *** وقد بَشُمنَ وما تفنى العناقيدُ
نعم لقد آلت ثمرة جهاد الصحابة السابقين إلى الإسلام ونضالهم من أجل إرساء قواعده إلى أعداء الإسلام الذي انضووا تحت مظلّة النفاق وهم الآن ولاة من قبل عثمان على رقاب الناس يفعلون ما يشاؤون، فقد وهب الأمير ما لايملك لمن لا يستحق، فالجرائم المنكرة والفظائع البشعة والمهازل الكثيرة في هذه الخلافة أكثر من أن تُحصى، والمبالغ الطائلة التي منحها عثمان من بيت مال المسلمين إلى مروان بن الحكم، وعبد الله بن أبي سرح، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأبي سفيان، بلغت أرقاماً ضخمة لا يمكن أحصاؤها، فيما يموت أبو ذر جائعاً غريباً في صحراء الربذة ويعيش بقية المسلمين حالة الضنك والجوع.
إنما أنت خازن لنا !!
لقد استثقل أعمال عثمان وولاته الفظيعة الكثير من الصحابة الذين أدركوا حجم المأساة التي حلّت بالإسلام وهم يرون ما يحل به من هذه الويلات، فكثرت الاحتجاجات والتنديدات بهذه السياسة الخرقاء، ولكن كل هذه الاحتجاجات كانت تُجابه بالبطش والترهيب تارة، وبالتجاهل أخرى، فحينما يعترض عبد الله بن مسعود على إسراف عثمان يقول له عثمان:
إنما أنت خازن لنا ..!
ثم يستبدله عثمان بزيد بن أرقم، الذي لم يطل مكوثه في هذا المنصب حتى يدخل على عثمان ويضع بين يديه مفاتيح بيت المال وهو يبكي خوفاً من أن تحرقه صاعقة من السماء عقاباً له على عمله مع عثمان!
ولكن عثمان لم يكن يأبه بكل التنديدات والاستنكارات بل بالعكس، كان يجابهها بالعنف كما فعل مع أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود.
هذا حال المسلمين على مدى ربع قرن بعد وفاة الرسول، ولما ضاق المسلمون ذرعاً بتلك السياسة الهوجاء، أعلنوا ثورتهم على عثمان والتي انتهت بقتله.
دولة العدل .. واليد البيضاء
فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ .
لقد كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) المُضحي الأكبر في سبيل بقاء الإسلام، نراه ضحى بحقه كي يئد الفتنة، ويدرأ الخطر الذي كان سيفني الإسلام فيما لو رفع سيفه، وهو فارس المسلمين الأول، وأشجع العرب وكانت قريش تعد الفرار في الحرب عاراً إلا منه، وقد قتل صناديدها وشجعانها.
فكان فدائي الإسلام، وحصنه، وسوره المنيع، وقد آثر أن يُسلب حقه على أن لا تُثلم من الإسلام ثلمة، ورد كيد المتربصين بالإسلام إلى نحورهم.
كان علي (عليه السلام) أنصع وجه، وأنقى يد، وأطهر روح في تاريخ المسلمين، ولأول مرة يشهد المسلمون منذ وفاة الرسول، عهداً جديداً على منهج المساواة في العطاء ويسمع المسلمون من يتخلل صفوفهم منادياً هل من كاره ؟
لأول مرة يطرق المسلمون باب خليفة ليبايعوه وهو يصلي و يزدحمون على بابه.
لأول مرة تتم بيعة مستوثقة من جميع المسلمين، وموافقة جميع المهاجرين والأنصار.
عبد الله بن عمر
نعم جميع المسلمين سوى فئة قليلة كفرت بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) كما كفر بها آباؤهم فانطبقت عليهم الآية القرآنية الشريفة (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ كما سنرى ؟
نأخذ نموذجاً واحداً منهم وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب، جاؤوا به ليبايع، ومن الطبيعي أن علياً (عليه السلام) لم يأمرهم بالإتيان به، بل هو حال رجال الثورات في كل وقت، والدليل على ذلك انه لم يبايع !
فماذا فعل له علي (عليه السلام) هل أرسل له (جناً) كما أرسل أبوه عمر إلى سعد بن عبادة ليقتلوه ؟ كلا.. لم تكن سياسة علي (عليه السلام) تشبه تلك السياسات في شيء بل إنه قال:
(دعوه.. وعندما قال له الأشتر، يا أمير المؤمنين.. فليأتك بكفيل، قال له علي: أنا كفيله.
هذا أحد المتخلفين القلائل عن بيعة علي (عليه السلام)، هذا المتخلف الذي رفض بيعة الخليفة الشرعي والذي ورث حقده عن أبيه، تمر به الأيام فيبايع مسلم بن عقبة قائد جيش يزيد في موقعة الحرة على انه عبدٌ ليزيد !
ولا يقف عنده الأمر على هذا الذل بل له بيعة أخرى أذل منها فيدخل على الحجاج، وهو يتغدّى، فيمد الحجاج له نعله ويقول:
إني مشغول بيدي فبايع هذه !
وذكر الطبري إنه ـ أي ابن عمر ـ بعد أن رأى ما صار إليه المسلمون، أظهر ندمه على أن لا يكون قاتل (الفئة الباغية) مع علي، ثم قتله الحجاج ومنع أن يدفن حيث أوصى، وكما قتل عبد الله بن عمر، فقد قتل عبيد الله وسليمان ابنا عاصم بن عمر يوم الحرة و(على أهلها جنت براقش).
اضف تعليق