أول من أسسّ علوم العربية، ونَهَج سُبلها ووضع قياسها، وأول من عمل كتاباً في النحو، وأول من وضع نُقَط المصحف وأعربه، وحَفَظَه عن التحريف باتفاق جميع المصادر، وقد عمل كل ذلك بإرشاد وتوجيه من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
كان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وثقاته والمخلصين له شارك معه حروبه الثلاث صفين والجمل والنهروان، وكان له دور فاعل ومؤثر فيها فقد كان من المتحققين بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومحبته وصحبته ومحبة ولده.
عدّه ابن حجر العسقلاني في (الإصابة) (ج3ص304) من الصحابة وقال الجاحظ في (البيان والتبيين) (ج1ص324): (معدودٌ في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحاة والحاضرين الجواب والشيعة)، ونقل كلام الجاحظ هذا نفسه أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (ج12ص349)، والسيوطي في (بغية الوعاة) (ج2ص22)
وقال اليافعي في مرآة الجنان (ج1ص144): (كان من سادات التابعين وأعيانهم، وصاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) شهد معه حرب صفين، وكان من أكمل رجاله في الرأي والعقل، وهو أول من دوّن علم النحو بإرشاده).
وقد اختاره عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) على البصرة الصحابي عثمان بن حنيف وأرسله لمفاوضة عائشة وطلحة والزبير في الجمل لرجاحة عقله وسداد رأيه وقوة دينه ويقينه وعقيدته وحبه لأمير المؤمنين (عليه السلام). وإن اختياره لهذه المهمة إنما كان لأنه (رجل خاصة) على حد تعبير الطبري (ورجل أهل البصرة) على حد تعبير ابن سلام كما ذكر المؤرخون أنه كان على رأس الجيش الذي أرسله عبد الله بن عباس لقتال خوارج البصرة.
أبو الأسود الدؤلي
هو (ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حِلس بن نُفاثة بن عَدي بن الدُّئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار) أبو الأسود الدؤلي، وأمه (الطويلة) من بني عبد الدار بن قصي، أما ولادته فقد كانت قبل البعثة النبوية الشريفة بثلاث سنوات، وأدرك حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروى عنه، وكان ممن أسلم على عهد النبي كما نصّت على ذلك الكثير من الكتب المعتبرة، هاجر إلى البصرة على عهد الخليفة عمر وسكن فيها. وتذكر الروايات التاريخية أن أبا الأسود ولي قضاء البصرة، كما تذكر الروايات أن عبد الله بن عامر والي عثمان على البصرة كان قد استخلف أبا الأسود لما توجّه إلى خراسان.
وكان أبو الأسود من كتّاب علي (عليه السلام) وذكرت التواريخ أنه عندما اضطر (ع) إلى التحكيم همَّ أن يقدّم أبا الأسود فأبى الناس عليه، ويؤيد هذه الرواية ما رواه الشريف المرتضى في الأمالي: (من أن أبا الاسود دخل يوماً على معاوية النخيلة فقال له معاوية: أكنت ذُكرت للحكومة ؟ قال: نعم، قال: فماذا كنت صانعاً ؟ قال: كنتُ أجمع ألفاً من المهاجرين وأبنائهم وألفاً من الأنصار وأبنائهم ثم أقول: يا معشر من حضر، أرجل من المهاجرين أحق أم رجل من الطلقاء؟ فضحك معاوية ثم قال: إذن والله ما اختلف عليك اثنان.
الرجل الفذ
امتاز أبو الأسود بمؤهلات قلما امتاز بها غيره، فكان شخصية فذة اجتمعت فيها الخصال النادرة والمزايا الكريمة، وقد أثنت المراجع اللغوية والأدبية والتاريخية كلها على أبي الأسود، وروت من أخباره المأثورة عنه الشيء الكثير، قال عنه الجاحظ في عدد من مؤلفاته: (كان حكيماً، أديباً، وداهياً أريباً)، (جمع شدة العقل، وصواب الرأي، وجودة اللسان، وقول الشعر والظرف)، (كان من المقدمين في العلم)، (معدود في طبقات من الناس وهو في كلها مقدّم مأثور عنه الفضل في جميعها، كان معدوداً في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والامراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة)، وعدّه ابن الإعرابي (من فصحاء العرب الأربعة)، كما عدّه محمد بن حبيب (من فصحاء الإسلام)، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (كان ثقة في حديثه)، أما أبو الفرج فقد قال عنه في الأغاني: (شيخ العلم، وفقيه الناس، وصاحب علي (عليه السلام)، وخليفة عبد الله بن عباس على البصرة)، وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف: (كان حليماً وحازماً وشاعراً متقناً للمعاني)، وقال ابن خلكان: (من سادات التابعين وأعيانهم وكان من أكمل الرجال رأياً وأسدهم عقلاً).
سبب وضع علم النحو
اتفقت جميع المصادر على أن أبا الأسود هو أول من وضع النحو بإشارة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد تباينت روايات السبب الذي دعا أمير المؤمنين إلى وضع علم النحو وتلقينه أبا الأسود إياه. فقد ذكر الأصبهاني في (رياض العلماء) (ج3ص43) نقلاً عن (تحفة الأبرار) للطبرسي: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سمع يوماً قارئاً يقرأ قوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) بجر لام الرسول، فغضب (صلى الله عليه وآله) وأشار إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (أن انح النحو واجعل له قاعدة وامنع من مثل هذا اللحن). فطلب أمير المؤمنين أبا الأسود الدؤلي وعلمه العوامل والروابط، وحصر كلام العرب وحصر الحركات الإعرابية والبنائية، وكان أبو الأسود كيّساً فطناً فألّف ذلك، وإذا أشكل عليه شيء راجع أمير المؤمنين ورتّب وركب بعض التراكيب وأتى به إلى أمير المؤمنين فاستحسنه وقال: نعم ما نحوت ـ أي قصدت ـ فللتفأل بلفظ علي سمي هذا العلم نحوا). وقد نقل الطبرسي هذه القصة من ابن الأنباري في خطبة شرح كتاب سيبويه.
وقد علق السيد حسن الصدر في كتابه: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) على هذه القصة بقوله: (وأهل العلم لا يرون وقوع هذه القصة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما تفرد بها ابن الأنباري فيما أعلم لأني لم أعثر على من قصها قبله).
وذكر السبب في وضع النحو إلى نفس قراءة هذه الآية شمس الدين الجرجاني في (الرشاد في شرح الإرشاد)، ولكنه ذكر أن أبا الأسود هو من سمع رجلاً يقرأها وليس رسول الله، فذهب إلى أمير المؤمنين فعلمه (عليه السلام) النحو. وقال بمثله الشيخ ميثم بن علي البحراني في (شرح مائة كلمة) (ص219).
وذكر ابن شهرآشوب المازندراني في مناقب آل أبي طالب (ج1ص325): (أن السبب في وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك (أن قريشاً كانوا يزوّجون بالأنباط فوقع فيما بينهم أولاد ففسد لسانهم .... فلما رأى علي (عليه السلام) فساد لسانهم أسس النحو).
وقال الشيخ إبراهيم الكفعمي في (الفصول المهمة في أصول الأئمة) (ج1ص682): (إن سبب وضع النحو من علي (عليه السلام) إنه سمع رجلا يقرأ (لا يأكله إلا الخاطئين).
ونقل السيد الأجل الشريف المرتضى في (الفصول المختارة) (ص91) عن الشيخ المفيد (قُدِّس سره) في كتابه (العيون والمحاسن) قوله: (إن أبا الأسود الدؤلي دخل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فرمى إليه رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالإسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره. فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين هذا كلام حسن فما تأمرني أن أصنع به فإنني زدت بإيقافي عليه ؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت في بلدكم هذا لحنا كثيراً فاحشاً فأحببت أن أرسم كتاباً من نظر فيه ميّز بين كلام العرب وكلام هؤلاء فابنِ عليه ذلك فقال أبو الأسود: وفقنا الله بك يا أمير المؤمنين للصواب). وذكر نفس هذا السبب الزجاج في أماليه.
وقال المبرد في الكامل: (السبب الذي وضعت له أبواب النحو أن بنت أبي الأسود قالت له: ما أجْمَلُ السمَاءِ ؟ فقال: نجُومُهَا، قالت: أنا لا أستفهِمُ يا أبتاه بل أتعجب. فقال: إذا أردتِ أن تتعجبي فافتحي فاكِ وقولي ما أجمَلَ السَمَاءَ ! فأخبر بذلك عليّا (عليه السلام) فأعطاه أصولاً بنى منها، وعمل بعده عليها، وهو أول من نقّط المصاحف، وأخذ عنه النحو عنبسة الفيل، وأخذ عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وأخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عنه الخليل بن أحمد، وأخذه عنه سيبويه، وأخذه عنه سعيد الأخفش).
وهناك روايات أخرى تختلف في الألفاظ والأسباب ولكنها لا تختلف في المضمون وكلها أجمعت على أن أول من وضع علوم العربية هو أبو الأسود الدؤلي بإرشاد من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال ابن جني في الخصائص (ج3ص309): (إن أمير المؤمنين هو البادي به، والمنبه عليه، والمشير إليه واكتفاء علي أبا الأسود إياه)، وقال أبو حاتم السجستاني: (أخذ أبو الأسود النحو عن علي بن أبي طالب)، وقال الراغب في محاضرات الأدباء (ج1ص608) عن أبي الأسود: (وهو أول من نقّطَ المصحف، وأسسّ أساس النحو بإرشاد علي (عليه السلام)، وكان من أكمل الرجال رأياً وعقلاً، وكان شيعياً، شاعراً، سريع الجواب، ثقة في الحديث).
إجماع المصادر
فالروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي (عليه السلام)، فقد روي عنه أنه قيل له: من أين لك هذا العلم ؟ فقال: (لقّنت حدوده من علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وفي رواية أخرى قال: (ألقى إليّ عليٌ أصولاً احتذيتُ بها).
وقد نقلت الكثير من المصادر المهمة تفاصيل تلك الأصول التي أملاها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على أبي الاسود، منها: معجم الأدباء، وطبقات فحول الشعراء، وطبقات النحويين، وإنباه الرواة، وأمالي الزّجّاج، ونزهة الألبّاء، والمحاسن والمساؤئ، والمعارف، والفهرست، ولسان العرب، وتاج العروس، وفقه اللغة، وتهذيب اللغة، وغيرها من المصادر المعتبرة.
والروايات التي نسبت النحو إلى أبي الاسود هي بالإجماع إلّا من شذّ ممن لايُعتدَّ به من المتأخّرين من الذين أعمتهم العصبية والتعنت وهو لا يشكّل شيئاً، بل هو لا شيء ولا يستحق أن يُذكر أمام إجماع المؤرخين المتقدمين في رواياتهم المتفقة على ذلك، فبعض هذه الروايات لمؤرخين كانوا قريبي العهد بعصر وضع النحو فنقلت طبقة عن أخرى.
أما الناقلون فكانوا من أوثق الثقات كالخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء الذين درسا على رجال الطبقة النحوية الثانية، وعلى رأسهم عيسى بن عمرو بن أبي إسحق والذين أخذوا من تلامذة أبي الأسود يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم والأخفش الأكبر وعنبسة وميمون الأقرن وغيرهم الذين نقلوا بدورهم رواياتهم عن أبي الأسود مشافهة ودوّنوا ذلك في رسائلهم وكتبهم وأكبر دليل على ذلك هو كتاب سيبويه الذي لا يزال يُتداول فإنه عندما يروي عن بعضهم فإنه يصل بالسند إلى أبي الأسود وينتهي عنده، وهذا يدل على أنه كان الواضع الأول لعلم النحو وقد تعلّمه من علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما يصرح هو بذلك.
قال الإمام الفخر الرازي في كتاب مناقب الشافعي (ص240): (وقد قرأ الخليل بن أحمد الفراهيدي على عيسى بن عمر عن أبي عمرو بن العلاء عن عبد الله بن إسحاق الحضرمي عن عبد الله بن ميمون الأقرن عن عنبسة الفيل عن أبي الأسود الدؤلي عن علي)
أن البحث المفصّل في هذا الموضوع في المصادر والمراجع اللغوية والأدبية والتاريخية وسبر غورها كلها يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي تشير إلى أن علي بن ابي طالب (عليه السلام) هو أول من وضع النحو وسنّ العربية وعلّم ذلك تلميذه أبا الاسود الدؤلي ومن قال بغير هذا فهو أعمى (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا)
وضعه نقط المصحف
كما أجمعت المصادر على أنه هو أول من وضع نقط المصحف وبإرشاد من أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً قال السيوطي في (الوسائل في مسامرة الأوائل) (ص99): (أول من وضع نقط المصحف وأعربه، وحَفَظَه عن التحريف في أكثر الكتب هو أبو الأسود الدؤلي)، وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج6ص173)، وياقوت الحموي في معجم الأدباء (ج20ص43): (أنه تلميذه يحيى بن يعمر العدواني). ومع أن الرواية الأولى هي الأصح فإن ذلك لا ينفي أن أيهما كان واضع ذلك فإن الفضل يعود لأمير المؤمنين (عليه السلام) لأنهما من الشيعة بالإتفاق، وقد تلقى أبو الأسود علمه من علي، وتلقى يحيى علمه من أبي الأسود فكلاهما تلقى عن علي.
وروي عن عملية وضعه النقاط على المصحف: (أنه أُحضر إليه ثلاثون رجلاً لمعاونته على هذه المهمة فاختار منهم عشرة ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلاً من عبد القيس فقال له: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، واذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن اتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك).
أبو الأسود الدؤلي .. الشاعر
قال الحافظ ابن البطريق في كتابه: (عمدة عيون الصحاح) (ص10) عن أبي الأسود: (هو من بعض الفضلاء الفصحاء من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام وشيعة علي بن أبي طالب)
أما في الشعر فلأبي الأسود منزلة الفحول منهم، فهو شاعر عربي أصيل، ولغوي كبير مثّل فصاحة اللغة ونصاعتها أبلغ تمثيل، وعبّر شعره عن عمق الإيمان بالإسلام وقوة معتقده بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وهو شعر واضح الرؤيا، صريح التعبير، ويُعدُّ أبو الأسود في هذا المجال رائداً من رواد الأدب والفكر العظماء، وقد حُظي شعره باهتمام كبير من الدارسين للأدب ونقاده كونه يمثل العصر الاسلامي الأول خير تمثيل، وهو في الطبقة الأولى من الشعر العربي، لغة سليمة لم تشبها شائبة، وتراكيب فصيحة لم تشوهّها ترجمات دخيلة، وأفكار أصيلة لم تسيرها الأغراض والدوافع الدنيوية، فكان شعره أميناً على سلامة اللغة، صالحاً للإستشهاد والإستدلال به في كتب اللغة والنحو والقراءات، أما شاعريته فقد كانت بمكانة بارزة في عالم الشعر العربي وحُظي ديوانه باهتمام علماء الأدب ودراستهم ومراجعتهم وتداولهم إيّاه على مر العصور، وقد جمعه الأصمعي وأبي عمرو والسكري، كما أولاه ابو الفتح ابن جنيّ عناية خاصة فجمعه ونسخ منه نسخة لنفسه وعلق عليها تعليقات نافعة وعنها نسخ عفيف بن اسعد نسخته التي أصبحت الأصل لعدد من النسخ الباقية اليوم.
شعر الولاء والعقيدة
أما السمة البارزة في شعر أبي الاسود فهي مواقفه المبدئية في التزامه الحق وتمسّكه بالإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأبرار (عليهم السلام)، وقد احتلت هذه المواضيع أغلب ديوانه، أما المواضيع الأخرى التي طرقها في شعره فهي الفخر والحماسة والشجاعة والإعتزاز بدينه وفي تكريم العلم وتحمل الأذى والصبر عليه والصداقة والمؤاخاة وغيرها من المواضيع الإنسانية والإجتماعية الأخرى، كما تطرّق أبو الاسود إلى حادثة الطف وبكاها بكاء المفجوع فقال من قصيدة يرثي بها الإمام الحسين (عليه السلام) ومن قتل معه من أهل بيته وصحبه:
يا ناعيَ الدينِ الذي ينعى التقى *** قم فانعهِ والبيتَ ذا الاستارِ
أبني عليٍّ آل بيت محمدٍ *** بالطف تقتلهم جُفاة نزارِ
وقال من قصيدة أخرى في رثاء الحسين (عليه السلام) أيضاً:
ألستِ ترين بني هاشم ** قد افْنَتهُمُ الفئة الظالمه
وانتِ ترينَنْهم بالهدى *** وبالطفِ هامُ بني فاطمه
ساجعلُ نفسي لهم جنَّةً *** فلا تكثري بي من اللائمة
وقد روى ابن الاثير في الكامل (ج3 ص205): (إن نقش خاتم أبي الأسود كان هذا البيت:
ياغالبي حسبكَ من غالبِ إرحم علي بن أبي طالبِ)
وكان أبو الأسود مجاوراً لبني قُشير الذين كانوا يناصبون العداوة لآل محمد وكانوا أصهاره فكانوا يؤذونه لحبه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:
يقولُ الأرذلونَ بنو قُشير: *** طوالَ الدهرِ لا تنسى عَليا
فقلت لهم: وكيف يكون تركي *** من الأعمالِ ما يُقضى عَلَيا
أحبُّ محمّداً حبّاً شديداً *** وعبّاساً وحمزة والوصيا
بنو عمِّ النبيّ وأقربوه *** أحب الناسِ كلّهم إليا
فما وصل إلى قوله:
فان يكُ حبهم رشداً أصبه *** وفيهم أُسوةٌ إن كان غيّا
قالوا له: شككت يا أبا الأسود بقولك هذا. فقال: أما سمعتم قول الله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
وعندما شخص عبد الله بن عباس عامل علي (عليه السلام) على البصرة استخلف أبا الأسود عليها فأقر أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الإستخلاف وبقي أبو الأسود والياً على البصرة حتى استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ولما بلغه خبر استشهاده (ع) قال:
ألا أبلغْ معاويةَ بن حربٍ *** فلا قرّت عيونُ الشامتينا
أفي شهرِ الصيامِ فجعتمونا *** بخيرِ الخلقِ طرّاً أجمعينا
قتلتمْ خيرَ من ركبِ المطايا *** وخيّسها ومن ركبَ السفينا
ومن لبسَ النعالَ ومن حَذاها *** ومن قرأ المثانيَ والمئينا
اذا استقبلتَ وجهَ أبي حسينٍ *** رأيتَ البدر راق الناظرينا
لقد علمتْ قريشٌ حيثُ كانت *** بأنك خيرهم حسباً ودينا
وله من قصيدة بليغة في رثاء أمير المؤمنين (ع):
ماضرَّ قبراً انت ساكنه *** أن لا يمرَّ بأرضه القطرُ
فليعدلن سماحُ كفكَ قطره *** وليورقنَّ بقربك الصخرُ
واذا رقدتَ فانتَ منتبهٌ *** واذا انتبهتَ فوجهكَ البدرُ
واذا غضبتَ تصّدعتْ فَرقَاً *** منكَ الجبالُ وخافكَ الذعرُ
ياساكنَ القبرَ السلامُ على *** من حالَ دون لقائهِ القبرُ
القصيدة الكنز
أما باقي شعره فأبرزه القصيدة (الميمية) التي تعدّ كنزاً من كنوز العربية، ودرّاً من بحرها الواسع لما تضمّنته من الشعر الجزل المسبوك، وقد احتلت مكانة متميزة في عالم الشعر العربي، فدارت على الألسن، وتناقلتها الرواة على مدى قرون، وحوت هذه القصيدة كثيراً من المواعظ والتعاليم، وجمعت بعضاً من مكارم الاخلاق، وحثّت على طلب العلم ومصاحبة الكرام ومجانبة السفهاء وصلة الارحام وعمل الخير وغيرها، ولاستيفاء الموضوع حقه رأينا أن ننقلها كاملة لما احتوت على مواعظ وحكم سديدة:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم إعداءٌ له وخصومُ
كضرائرِ الحسناء قلن لوجهها *** حسداً وبغياً: إنه لذميمُ
والوجهُ يشرق في الظلام كأنه *** بدرٌ منيرٌ والنساءُ نجومُ
وترى اللبيبَ محسّداً لم يجترمْ *** شتم الرجال وعرضُه مشتومُ
وكذاك من عظمت عليه نعمةٌ *** حسّادُه سيفٌ عليه صَرومُ
فاترك محاورة السفيه فإنها *** ندمٌ وغبٌ بعد ذلك وخيمُ
وإذا جريتَ مع السفيه كما جرى *** فكلاكما في جريه مذمومُ
وإذا عتبتَ على السفيه ولمته *** في كل ما تأتي فأنت ظلومُ
(لا تنه عن خُلُقٍ وتأتي مثله *** عارٌ عليكَ اذا فعلتَ عظيمُ)
ابدأ بنفسك وانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يقبل ما وعظت ويُقتدى *** بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
ويل الخلي من الشجي فإنه *** نصب الفؤاد بشجوه مغمومُ
وترى الخليّ قرير عينٍ لاهياً *** وعلى الشجي كآبة وهمومُ
وتقول مالك لا تقول مقالتي *** ولسانُ ذا طَلْق وذا مكظومُ
لا تكلمَنْ عرض ابن عمك ظالماً *** فإذا فعلتَ فعرضكَ المكلومُ
وحريمه أيضاً حريمك فاحمه *** كي لا يُباع لديكَ منه حَريمُ
وإذا اقتصصتَ من ابن عمك كلمةً *** فكلومه لكَ ان عقلتَ كلومُ
واذا طلبتَ الى كريم حاجةً *** فلقاؤه يكفيكَ والتسليمُ
فإذا رآك مسلّماً ذكر الذي *** كلّمته فكأنه ملزومُ
ورأى عواقبَ حمد ذاكَ وذمّه *** للمرءِ تبقى والعظامُ رميمُ
فارجُ الكريم وإن رأيتَ جفاءه *** فالعتبُ منه والكرامِ كريمُ
إن كنتَ مُضطراً وإلّا فاتخذ *** نفقاً كأنك خائفٌ مهزومُ
واتركه واحذر أن تمرَّ ببابه *** دهراً وعرضُك إن فعلتَ سليمُ
وإذا طلبتَ الى لئيمٍ حاجةً *** فألحّ في رفقٍ وأنت مديمُ
واسكن قبالة بيته وفنائه *** بأشد مالزمَ الغريمَ غريمُ
وعجبتُ للدنيا ورغبةِ أهلها *** والرزقُ فيما بينهم مقسومُ
والأحمق المرزوق أعجب من أرى *** من أهلها والعاقلُ المحرومُ
ثم انقضى عجبي لعلمي أنه *** رزقٌ موافٍ وقته معلومُ
رجل المبدأ
وكان لأبي الأسود الكثير من المحاججات مع أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان في كل محاججة يزداد إيماناً بحبه ويقيناً بولائه، وكان أشد هؤلاء الناصبين هو زياد بن أبيه الذي قال له مرة: كيف حبك لعلي ؟ فقال له: (حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة وتزداد لمعاوية حباً وإيم الله إني لأُريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفتها وذلك بزائل بعد قليل) وكان يصرخ في وجه زياد وأمثاله:
أمفنّدي في حبِّ آلِ محمدٍ *** حجرٌ بفيكَ فدعْ ملامكَ أو زدِ
من لم يكن بحبالهم متمسكاً *** فليعترف بولاءِ من لم يرشدِ
توفي أبو الأسود (رضوان الله عليه) بالطاعون الجارف سنة (69 هـ/688م) بالبصرة وله من العمر خمس وثمانون سنة وكان آخر حادث أشار اليه في شعره هو مقتل الحسين (عليه السلام) لتأثره العظيم بهذا الحادث وكان له من الأولاد اثنان: عطاء وأبو حرب وابنتاه، وقد ألّف عنه عدد كبير من علماء اللغة والسير كالأصمعي وأبي عمرو والسكري وجمع أخباره المدائني في كتاب سماه (كتاب أبي الأسود الدؤلي) كما ألف عنه أيضاً عبد العزيز بن يحيى الجلودي وأبو عبيدة والهيثم بن عدي ومحمد بن سلام وجمع ديوانه وأولاه عناية خاصة أبو الفتح ابن جنيّ.
اضف تعليق