رجل فذ آلى على نفسه إلا أن يخوض غمار الخلود متدرّعاً بالعلم والأدب فحاز قسب السبق فيهما، وقد ورث من أسرته العريقة في ميدان العلم ملكته العلمية فجارى في علمه أفذاذ العلماء، وشغف حباً بآل البيت (عليهم السلام) فآثر إلا أن يصوغ هذا الحب في قوافيه ليضاهي أعلام الأدب، فألّف وصنّف وكتب ونظم في فضائلهم (عليهم السلام) حتى أفنى عمره في مدحهم والحديث عن فضائلهم ونشرها.
هو العالم الكبير والأديب والشاعر السيد صالح القزويني النجفي الذي أثرى الساحتين العلمية والأدبية بالعطاء الثر وهو من أسرة القزويني التي أنجبت أفذاذ العلماء الأعلام الذين تركوا للأجيال تراثاً لا تمحيه الأيام ولا تثلمه الأعوام.
سلالة المجد
ينتهي نسبه الشريف إلى أقدس بيت وأشرف أصل فهو السيد صالح بن المهدي ابن الرضا بن مير محمد علي بن أبي القاسم محمد بن محمد علي بن مير قبا بن أبي القاسم محمد بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسن بن أبي الحسن علي بن أبي الحسين بن علي بن زيد بن أبي الحسن علي الغراب بن يحيى المدعو عنبر بن أبي القاسم علي بن أبي البركات محمد بن أبي جعفر أحمد بن محمد صاحب دار الصخرة في الكوفة بن زيد بن علي الحماني الشاعر بن محمد الخطيب بن جعفر الملقب بالشاعر ابن محمد بن زيد الشهيد بن الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ولد السيد صالح بن السيد مهدي بن السيد رضا الحسيني القزويني في النجف الأشرف في (17) رجب سنة (1208هـ)، ونشأ في بيئة تحفها العلوم والآداب فهو من أسرة لها في مضماري العلم والأدب باع طويل وجذور عميقة فجدّه السيد رضا القزويني من كبار العلماء ومن أقران العلامة الكبير الشيخ مهدي الفتوني أستاذ بحر العلوم وكاشف الغطاء فبرز في ذريته كبار العلماء والشعراء والخطباء وبقيت هذه الأسرة الكريمة تنجب أعلام العلم والتقى والأخلاق والأدب ومن أبرزهم السيد صالح الذي كان شعلة علمية وأدبية في أسرة القزويني وبقيت هذه الشعلة وقّادة بما أنجبته من الأعلام.
ولا تزال شعلة العلم متقدة
كان للجو العلمي والأدبي تأثيره المطلق على هذه الأسرة فضلاً عن الروح الاسلامية الولائية التي تغمره والتي توشحت بحب أهل البيت (عليهم السلام)، فقد سلك أنجال السيد صالح السيد راضي والسيد حسين والسيد مهدي مسلك ابيهم في هذا المنهاج وكذلك حفيده السيد رضا بن السيد راضي بن السيد صالح وهم من أعلام هذه الأسرة ومن أعلامها أيضاً السيد الخطيب ياسين القزويني عضو جمعية القرآن الكريم في النجف الأشرف والسيد خضر القزويني عضو جمعية الرابطة العلمية والأدبية في النجف أيضاً والسيد عبد الحسين القزويني من علماء النجف الكبار والخطيب السيد راضي بن السيد محمود بن السيد راضي بن السيد صالح القزويني وغيرهم من العلماء الأعلام.
مع صاحب الجواهر
ولنعد إلى السيد صالح ففي هذه المدينة التي حوت باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله) وأشرقت فيها شمس العلوم الإلهية نشأ السيد صالح وترعرع ودرس ونهل من العلوم الدينية على يد كبار العلماء فيها أبرزهم وأعمقهم أثرا في نفسه وأكثرهم فضلا عليه أستاذه الشيخ الحجة محمد حسن المعروف بـ (صاحب جواهر الكلام) مرجع الشيعة الذي زوجه ابنته بعد أن رآه كفؤاً لهذه المصاهرة وعلماً من أعلام الرجال.
بدأ السيد صالح رحلته العلمية مع التأليف في أهل البيت (عليهم السلام) فكان أثر نشأته في هذه المدينة التي تعد مركزاً للإشعاع العلمي والفكري واضحاً عليه وعلى مؤلفاته، فقد ابتدأ مؤلفاته بمؤلف ضخم في ثلاثة مناهج وخاتمة اسمه (تاريخ أحوال سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام).
مع الشعر
ثم أقبل السيد صالح على الشعر إقبالاً شديداً غطّى على مؤلفاته حتى عُرف شاعراً كبيراً، وقد تميّز شعره بصدق العاطفة والاخلاص في الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) وخاصة في مراثيه الحسينية التي أكدت صدق عاطفته بقدر إجادته في تقديم الأنموذج الراقي لمراثي الإمام الحسين (عليه السلام) مضيفاً لمساته الابداعية التي أكدت تفوقه في هذا المجال، وكانت قصائده تتلقفها أيادي خطباء المنبر الحسيني لجودتها وعمقها.
والملاحظ في شعره أنه تميز بالصدق فلم يمدح أو يرثي لأجل الشهرة ولا غيرها بل دل شعره على إيمانه بمنهج أهل البيت (عليهم السلام) وإخلاصه وحبه لهم، ويؤكد السيد صالح ذلك في مقدمة ديوانه (الدرر الغروية) الذي اقتصرت قصائده على مدح ورثاء أهل البيت (عليهم السلام) حيث يقول:
(إني مذ علقت أناملي بأهداب عيون الآداب، واجتليت من أفنان تلك الفنون لُباب الألباب، ووصل إليَّ ما انتهى لموالينا الأئمة الأطياب، من شديد المصاب، الموجب لتخليد الحزن والاكتئاب، الى يوم النشر والحساب، وتصفحت ما ورد من فضائلهم عن طريق السنة والكتاب، وتلوت ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه وابنائه أفضل التحية والصلاة والسلام، إنه قال: (بنى الله بيتاً في الجنة لمن قال فينا بيتاً من الشعر ولو كان ملحوناً)، لم أزل اتشوق لرثاء سادات البشر، بقصائد أربعة عشر، عدد أولئك الميامين الغرر، وتشتمل كل واحدة على نشر فضائل من نسبت إليه، وذكر بعض مما و قع عليه).
مواصلة المسيرة رغم النكبات
ورغم ما لقيه السيد صالح من شدائد الدهر ونكبات الحياة وضنك العيش إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة مسيرته العلمية والأدبية ونشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، فقد حفلت حياته بالمصائب والآلام وكان أشدها فقد ابنه السيد راضي الذي كان يعده خلفاً له في مواصلة رحلته العلمية والأدبية ولكنه كان يواجه كل تلك الشدائد والمحن بقلب مفعم بالصبر والإيمان يقول السيد صالح في مقدمة ديوانه مواصلاً حديثه عن الأحداث التي مرت بحياته والتي اجتازها في سبيل إكمال ديوانه بحق أهل البيت (عليهم السلام):
(فيمنعني عن ذلك عوائق الزمان، ويدفعني عن ما هنالك بوائق الدهر الخوّان. ويصدني عن نيل تلك المطالب، تلاطم أمواج الهموم والمصائب. ويدرأ عني عن إدراك تلك المآرب، تزاحم أفواج الغموم والنوائب. حتى إذا نظرت بعين الاستبصار، رأيت أن الأحرى بالأحرار، طي الكشح عما أسدته الأقدار، وضرب الصفح عن الطموح لزهدة هذه الدار، وإن الصبر على لباس أطمار الإعسار، مع الوثوق بضامن الأرزاق والمعطي على قدر الإستحقاق من شيم الأبرار).
كان مؤمنا عميق الإيمان بهدفه وقضيته التي استخف بالدنيا ورغباتها من أجلها ولم تثنه متطلبات الحياة عن السير على المنهج الذي ابتغاه يقول:
(هنالك جال في فؤادي ما كنت أتمناه من العهد القديم، ونادى المنادي: أن يا صالح توكل على العزيز الرحيم، فبادرت لانتهاز الفرصة التي تمر مر السحاب، ولم يثن عزمي قلة الراغبين من ذوي الألباب في هذا الباب، بل وجدت ذلك بحمد الله وتوفيقه من أقوى الأسباب وأشد البواعث الكاشفة للنقاب، عن وجوه هذه الغانيات الأتراب، الملفقة بأبراد الحداد والإكتئاب، والمشتملة على رثاء أولئك السادة الأنجاب، وذكر بعض فضائلهم التي لا يقوم بها حصر ولا حساب).
ويقول في نهاية مقدمة ديوانه المسمى (الدرر الغروية في رثاء العترة المصطفوية) وهو لا يرجو ثوابا ولا ثناء سوى من الله وشفاعة سادته أهل البيت (عليهم السلام):
(فاسأل الله العظيم وأتوسل إليه بنبيه الكريم أن يعوضني عليها بفضله العميم أكمل الأجر الجسيم وأن ينفعني في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين).
الآثار الخالدة
وديوان ( الدرر الغروية في مدح ورثاء العترة المصطفوية ) يحتوي على أربعة عشر قصيدة مطوّلة في المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، أما ديوان السيد صالح القزويني الكبير فقد جمعه العالم الشاعر الشيخ إبراهيم صادق العاملي وكتبه بخطه وترجم للشاعر ترجمة مُفصلة ، وهذه النسخة اشتراها الأب أنستاس الكرملي ثم انتقلت بعد موته إلى مكتبة دار الآثار العامة ببغداد مع ألف وخمسمائة ونيف من مخطوطات كتب أنستاس.
يقول السيد جواد شبر عن هذا الديوان: (رأيته في مكتبة دار الآثار برقم (١٢٢٠) وهو يحتوي على عشرة آلاف بيت). كما جمع ديوانه البحاثة الشيخ محمد السماوي أيضاً، وجمع كذلك ديوان ابنه السيد راضي ابن السيد صالح المتوفى في حياة أبيه في جملة ما جمع من عشرات الدواوين. وطبعت أخيراً خمس قصائد من شعره وهي التي تخص الخمسة أهل الكساء (صلوات الله عليهم).
قراءة في شعره
تميّزت قصائد شاعرنا بالثراء وكثرة التفاصيل وغزارة الموضوع وتنوع المفاصل وهذا يدل على إلمام الشاعر بحياة أهل البيت (عليهم السلام) وسيرتهم فضلاً عن امتلاكه نفساً طويلاً وقدرة على الانسجام في القصيدة فقد احتوى ديوانه على قصائد مطوّلة لم تفقد جزالتها وبلاغتها حتى آخر بيت، يقول في قصيدته اللامية التي بلغت مائتان وخمس وسبعون بيتاً في مدح النبي (ص) ورثائه:
أين من يثرب الأثير جلالا *** وهو نور من نورها يتلالا
قد تجلَّت ملائك الله فيه *** وتجلّى لها المليكُ تعالى
وإليها الأملاك تهبط منه *** تبتغي من مليكها الإجلالا
أو ما حلّ سيد الرسل فيها *** من به الرسل حازت الارسالا
كيف لم تفتخر على العرشٍ أرضٌ *** حوت الطهرَ أحمداً والآلا
قد تجلّت من نوره نار موسى *** وله خرّ يوم دكّ الجبالا
فالسيد صالح هنا ينهل من موارد ثقافته العلمية ليعطيها طابعاً أدبياً فلألفاظ (نور، الأملاك، المليك، العرش) لها دلالات عميقة تشير إلى منزلة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فالأرض هنا تفخر على العرش لأنها حوت سيد المخلوقات قاطبة وهو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، والعرش من ضمن المخلوقات كما إن النار التي تجلت لموسى (عليه السلام) هي قبس من نور محمد (صلى الله عليه وآله) الذي هو نور الله تعالى، ثم يقول الشاعر:
بشرت قومها به رسل الله *** وأوصت بودِّه الأجيالا
ما عليهم أعلاه إلا لعلم *** إنه خيرهم له أعمالا
ثم لما أراد أن يرحم الله *** الورى وهو راحم لن يزالا
أرسل المصطفى على فترة *** من رسله هادياً به الضُّلّالا
يؤكد هنا السيد صالح من خلال ذكره لبعض معاجز وفضائل الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) على مكانته العظيمة عند الله وأنه وصل الى مرتبة لم يصل إليها نبي من الأنبياء وإن الله تعالى عندما أراد أن يرحم الناس أرسل إليهم من كان بهم (رؤوفاً رحيماً) وعلى هذا النسق يسترسل الشاعر في تعداد مزايا وصفات الرسول وفضائله. وعندما ينتقل الى رثاء النبي (ص) يقول:
كان غيثاً على النواحي ولمّا *** أن تجلّى منها النواح، أطالا
كان للدين عصمة، للمنوبين *** غياثاً، للمرملين ثمالا
كان لله في بريته ظلاً *** به الله يصرف الأنكالا
أما في مدح أمير المؤمنين (ع) فتبرز لنا عينيته الطويلة والتي تبلغ مائتان وثلاثة وثمانين بيتاً، والتي يقول فيها:
سِل أهل بدرٍ من أطلَّ دماءَها ** ولوى لواها والأسنةُ تشرعُ
وسل ابن ودٍ من سقاه بسيفه *** كأسَ الردى والشوسُ عنه تتعتعوا
سل من وقى نفسَ النبي بنفسه *** بمبيته والمشركون تجمعوا
من سار جهراً بالفواطم مرغِماً *** آنافهم يقفو النبيَّ ويتبعُ
من كان يوم الفتح يحمل راية *** الإيمان يحطم بالسنان ويقرعُ
وسل الجحافل في حنين من رسى *** قدماً يذب عن النبي ويدفعُ
سل خيبراً من قدَّ مرحبها ومن *** لحماتها كأس الحمام مجرّعُ
والملاحظ في هذه الأبيات أن السيد صالح أتى بالاستفهام المتكرر (من) للتعظيم فهو يذكر تلك الوقائع مشيراً الى بطلها وهو يؤكد جملة من الحقائق تتعلق بشجاعة الإمام علي (عليه السلام) الذي تحققت على يديه كل هذه الانجازات العظيمة للإسلام فيما عجز غيره عن إتيانها، ثم ينتقل السيد صالح إلى ما جاء في حق الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة فيقول:
سل هل أتى والعاديات وعمّ *** والسورات فهي بمدحه لك تصدعُ
سل من بخاتمه تصدّق راكعاً *** وبه الحصى للوالبية تطبعُ
سل يوم خمٍّ من بفرضِ ولائه *** لو تسمع الصمَّ الدعاء إذا دعوا
يا قوم إني ظاعن عنكم إلى *** الرحمن والثقلين فيكم مُودِعُ
فاستمسكوا بهما فطوبى لإمرئِ *** مستمسكٌ يوم الخلائق تجمعُ
وعماد هذه الأبيات ومحورها هو أفضلية الإمام علي (عليه السلام) وأحقيته بالأمر بعد الرسول ويؤكد السيد صالح هذه الأحقية بكتاب الله وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وخاصة حديث الغدير وحديث الثقلين فهي نصوص صريحة على خلافته بعد رسول الله (ص).
أما في حق سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) فللسيد صالح قصيدة لامية عصماء تبلغ مائة وخمس وسبعين بيتاً يقول فيها:
فاطم بضعتي ومن ساءها *** منكم فقد ساءني وساء الجليلا
أنا من فاطم وفاطم مني *** قالها أحمد لها تبجيلا
مكثت بعده قليلاً فقاست *** من عداه شجىً وحزناً طويلا
تضمّنت هذه الأبيات إشارة إلى أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) بحق ابنته الزهراء (عليها السلام) وبيان منزلتها عنده وقد جعل السيد صالح منها مقدمة للتطرق إلى الفجيعة التي جرت عليها (عليها السلام) بعد وفاة أبيها فيقول في رثائها:
إن يوم البتول أجرى عيون الآل *** شجواً دماً ودمعاً همولا
إن يوم البتول أورث قلب *** الدين والمسلمين داءً دخيلا
إن يوم البتول أبكى علياً *** وبنيه والرسل والتنزيلا
طالما في الظلام لله صلَّت *** وإليه تبتّلت تبتيلا
كم لها في الزمان آيات فضل *** ضاق فيها الزمان عرضاً وطولا
في الأبيات الثلاثة الأولى يتكلم الشاعر بلسان أهل البيت (عليهم السلام) وخاصة على لسان الإمام علي وبنيه، أما البيتان الأخيران فإشارة إلى عبادة الزهراء (عليها السلام) وفضلها، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة.
وللسيد صالح في مدح الإمام الحسن (عليه السلام) وذكر نبذة من فضائله بقصيدة بائية تبلغ مائة وواحد وخمسين بيتاً، يقول فيها:
إمامٌ على الدنيا أطلَّ نواله *** وأخصب فيه كل أقفر أجدبِ
تجلّى على الإسلام كوكب سعده *** فأشرق من أنواره كل كوكبِ
وقام مقام المرتضى في دفاعه *** عن الدين بالحرب العوان المعطبِ
بعزمٍ كعزم المصطفى يصدع الصفا *** وحزمٍ كحزم المرتضى متلهِّبِ
تتجلى في هذه الأبيات المكانة الطبيعية للإمام الحسن (عليه السلام) بعد أبيه بنص حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) في تنصيب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من بعده كما تتجلّى الإشارة أيضاً إلى وراثته الصفات النبوية والعلوية ولكن هذه المكانة لسبط النبي (ص) لم يراعِ لها بنو أمية حق ولا حرمة، يقول السيد صالح القزويني:
وما هوّمت حتى قضى السبط نحبه *** ونالت به أقصى مرامٍ ومأربِ
وقد أثبتت سبعين سهماً بنعشه *** بتجديده عهد الحبيبِ المقرّبِ
فهل علمت أكتاف مكةَ ما جرى *** على الحسن الزاكي بأكتاف يثربِ
في هذه الأبيات يدير الشاعر دفة الحزن والأسى إلى عملية دفن الإمام الحسن (عليه السلام) وذلك عندما أراد بنو هاشم أن يدفنوه قرب جده النبي (صلى الله عليه وآله) فهو أقرب الناس إليه لكن بني أمية عارضوهم ورموا النعش بالسهام وكادت أن تنشب الحرب لولا وصية الإمام الحسن (ع) لأخيه الحسين (ع) بعدم سفك قطرة دم واحدة في دفنه وهذا دأب أهل البيت في حقن دماء المسلمين ويصور السيد صالح القزويني هنا النعش وقد ثُبِّت به سبعون سهماً وهذا التصوير يعطي عمقاً مأساوياً للأسى و الفجيعة.
أما رثاء السيد صالح القزويني للإمام الحسين (عليه السلام) فقد تعددت موضوعاته وألمّت بجزء كبير من أحداث كربلاء فقد ذكر أحداث الطف وتفاصيلها فرثى الحسين وبكى لمأساته وقلة انصاره وظمأه وصبره، كما صوّر مأساة أخته زينب بطلة كربلاء ودورها في رعاية السبايا كما وصوّر الموقف الخالد لأبي الفضل العباس (عليه السلام) مع أخيه الإمام الحسين (ع)، يقول السيد صالح القزويني في ميميته التي بلغت مائة وستة وعشرين بيتاً:
فكأنه والصحب محدقة به *** قمر السماء به تحفُّ نجومُها
وفوارس السمر اللدان سميرها *** في الروع والبيض الرقاق نديمُها
لم يثنها وقع الصوارم والقنا *** فكأنما زبر الحديد جسومُها
تنقضُّ بالبيض الصفاح كأنها *** شهب بها للماردين وجومُها
واسودَّ من ليل العجاج نهارها *** واحمرَّ من فيض الدماء أديمُها
بأبي الذي وَاسا أخاه بنفسه *** لما عراه من الخطوب عظيمُها
يلقى الكماة الدارعين بصارم *** مهج الكماة به تفيضُ كلومُها
حتى هوى قمر الهدى من هاشم *** فوق الثرى فهوت عليه نجومُها
يستمد السيد صالح في هذه الأبيات مقومات الإشادة بأصحاب الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وخاصة بطل العلقمي أبي الفضل العباس (عليه السلام) من قول الإمام الحسين (عليه السلام) حين خاطبهم قائلاً: (إني لا أعلم اصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً خيراً) فهؤلاء الرجال الأبطال موفوروا الإيمان وعلى أتم الاستعداد لبلوغ أعلى ما يشهده المؤمن الكامل اليقين.
ثم يصور السيد صالح القزويني شجاعة الإمام الحسين (ع) التي أذهلت الأعداء وهو يواجه جيشاً بمفرده واهباً الأجيال أروع دروس الإباء والتضحية، فيقول:
ورأى الحياة على الهوان ذميمة *** وكذا به محمودها مذمومُها
يلقى الجموع بمثلها من نفسه *** عند الهجوم فلم يرعه هجومُها
وإذا الجنود تكاثرت لم يكترث *** أو صممت لم يثنه تصميمُها
يثني الخيول على الخيول بعزمة *** علوية فأخيرها قيدومُها
فغدت جموعهم وقد ملأوا الفضا *** بدداً تطاير كالرؤوس جسومُها
فالسيد صالح هنا يستذكر هذا الموقف الخالد موظّفاً المبادئ الحسينية وموضحاً إن الإمام الحسين (عليه السلام) رمز البطولة والتضحية والفداء وخلاصة الشجاعة والبأس ومعلم الثوار الأحرار جميعاً.
وفي عينيته يقرن الشاعر بين منزلة الإمام الحسين (عليه السلام) العظيمة وما جرى عليه من مآس وفجائع فيقول:
لله أقمار أفلن بكربلا *** ولها بيثرب والمحصّب مطلعُ
أنست بهم أرض الطفوف وأوحشت *** هضبات يثرب والمقام الأرفعُ
طُفْ بيَّ على فلك الطفوف وقل له *** مستعبراً أعلمت من بك مودعُ
فيك الإمام أبو الأئمة والذي *** هو للنبوة والإمامة مجمعُ
مولىً بتربته الشفاء وتحت قبته *** الدعا من كل داع يسمعُ
فيك الذي فيه النبي موكّل *** والطهر فاطم والبطين الأنزعُ
فيك الذي اشجى البتول ونجلها *** وله النبي وصنوه متفجّعُ
فحياة اصحاب الكساء حياته *** وبيوم مصرعه جميعاً صرِّعوا
إن أهم ما يتجسد في هذه الأبيات هو الإرتباط الوثيق بين الإمام الحسين وأصحاب الكساء (عليهم السلام) فهو امتداد طبيعي لدعوة جده المصطفى ويؤكد ذلك الحديث الشريف: (حسين مني وأنا من حسين) وهو لذلك أبو الأئمة من ولده.
كما ونجد في قصائد السيد صالح جانباً آخر هو جانب الأخذ بالثأر من أعداء أهل البيت على يد الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) وغالباً ما يضمِّن هذا الجانب في أبيات تأتي في آخر القصيدة ويعبر من خلالها عن ولائه لأهل البيت (عليه السلام) انطلاقاً من التبرئة من أعدائهم فيقول:
يوم بالثأر ينهض المرتجى *** للثأر بالسيف للعدى قتالا
أصيد من بني النبي يرى *** في وجهه نور جده يتلالا
غامداً في النحور بيضاً صقالاً *** راكزاً في الصدور سمراً طوالا
عاقداً راية الهدى ناشراً *** للأمن من بعد طيّه سربالا
ثم يطلق صرخة مستغيث:
يا إمام الهدى الى م نقاسي *** والهدى بانتظارك والأهوالا
غللونا وقيدونا فأدركنا *** وفك القيود والأغلالا
كم على بعدك احتملنا الرزايا *** من أعاديك لا تطاق احتمالا
وهذه الأبيات لا تحتاج إلى توضيح، ولنستمع إليه وهو يئن في استنهاضه الإمام المهدي ليغيث أمة جده:
فإلى متى يا ابن النبي محمد *** تغضي عن الشكوى وإنك تسمعُ
إن لم تغث بالسيف امته ولم *** تفزع عداه فمن يغيث ويفزعُ
دمكم أطلّوه ومنبر جدكم *** ظلماً علوه وفيئكم قد وزّعوا
أخذوا بأقطار البلاد ولم نجد *** إلاك معتصماً يجير ويمنعُ
وله مقاطع كثيرة على هذا النحو من الاستغاثة بالإمام المهدي كما هناك جوانب أخرى لا يسع المجال لذكرها تركناها خشية الإطالة فربما يظهر من يخرج ديوان السيد صالح القزويني من زوايا النسيان ويحققه ويشرح هذه الجوانب.
كان السيد صالح القزويني قد انتقل إلى بغداد سنة (١٢٥٩هـ) وبقي فيها حتى توفي بها سنة (1306هـ) ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف فدفن في المقبرة المعدة لهم في وادي السلام.
اضف تعليق