إن إنساناً بمستوى الدكتور مصطفى جواد من النادر أن يجود الزمن بمثله، بل إن وجود مثل هذا النموذج الرائع في تاريخ شعب لهو مصدر فخر له وإشراقة مضيئة في محور التاريخ البشري، فقد وضع هذا العالم الفذ بصمات علمية لا تمحى ليس في تاريخ العراق فحسب، بل تعدّت آثاره إلى الأقطار العربية والإسلامية ودوائر الإستشراق، وقدم خدمات جليلة وكبيرة في ميادين التحقيق والتدقيق والبحث والتراث والخطط والأنساب واللغة والتاريخ والشعر والنحو والصرف وكان في كل هذه الميادين العلمية عالماً موسوعياً فذاً لا يدانيه أحد بها، ملماً بكل شواردها وتفرعاتها.
العلم إلى جانب الأخلاق
وإضافة إلى تركته العلمية الكبيرة في شتى مجالات العلم، فقد ترك أثراً كبيراً وطيباً في نفوس معاصريه لما تحلى به من صفات عظيمة وأخلاق كريمة، يقول تلميذه الأستاذ وحيد الدين بهاء الدين: (الدكتور مصطفى جواد في أخلاقيته نادرة بين الرجال ناهيك عن العلماء، وفي علمه فذ من أفذاذ الزمن، والزمن بأمثاله ضنين، إنه يمثل العالم الفاضل في ذروته، العالم الحقيقي الذي كلما زاد علماً زاد تواضعاً)
ويقول الأستاذ كوركيس عواد: (لم يُعرف عنه مدى حياته إلا طيبة النفس، ودماثة الخلق، والتواضع الجم)
ويقول عنه الدكتور يوسف عز الدين: (وجدته يمتاز بأدب جم، وخلق عال سام، وطالما أثر أدبه في كثير من تصرفاته وفي نقده)
أصله وتشيّعه
ولد الدكتور مصطفى بن جواد في بغداد في محلة (عقد القشلة) بالجانب الشرقي من بغداد وبجوار الجامع المعروف حتى اليوم بـ (جامع المصلوب) عام (1904) من عائلة تركمانية الأصل ترجع إلى عشيرة سرايلي تركمان الشيعية، كما يقول هو في مذكراته:
(فأنا أصلي من (قره تبه) وأجدادي تركمان متشيّعون، غلاة في التشيع، وانتقل جدي إلى بغداد فصار شيعياً إمامياً وكذلك والدي وأنا نشأت على ذلك).
وكان أبوه المعروف بـ (أسطة جواد) خياطاً شهيراً في سوق الخياطين ومصطفى هو الإبن الثاني للأسطة جواد بعد و لده البكر كاظم.
تأثير المجالس الحسينية
كان جد مصطفى شاعراً يكتب الشعر بالتركية، أما أبوه فقد كان رجلاً أميّاً ليس له في ميدان الأدب موطئ قدم، لكنه احتكر شهرة الجودة بين جميع خياطي بغداد وعلى الأخص خياطة الجبب حتى قال البعض متباهياً: بأنه لا يخيط ملابسه إلا عند أسطة جواد.
ورغم أن جذور هذه الأسرة تعود الى أصول تركية إلّا أن افرادها لا يتكلمون التركية إلا نادراً رغم أنهم يجيدونها إجادة تامة، وهكذا تفتحت طفولة مصطفى جواد على اللغة العربية، ولم تعجبه الأناشيد التي كان يتلقاها من قبل الأتراك في المدرسة باللغة التركية، وعندما احتل الانكليز العراق عام (1917)، كان مصطفى في الصف الثالث الابتدائي فانتقل مع أبيه الى (دلتاوة) وهي حالياً مدينة الخالص فدخل كتّاب (المُلة صفية) ليتعلم الأبجدية العربية فبدأ بالقرآن الكريم وبعد أن حذق في حفظ القرآن دخل المدرسة الابتدائية في (دلتاوة) لكنه لم يستفد من المدرسة الابتدائية فائدة كبيرة لأن أعلى صف فيها في ذلك الوقت هو (الرابع) فعوّل على اجتهاده الذاتي واستفاد من رعاية أخيه كاظم له والذي كان محباً لعلوم العربية ملماً بها.
وكان (للمجالس الحسينية) التي كان يحضرها الأثر الكبير في صقل مواهبه، فكان يواظب عليها وهو يقود والده بعد أن كُف بصره لحضورها، وأكثر ما كان أبوه يرتاد بيت الشيخ جعفر والشيخ باقر وهما من كبار علماء الكاظمية، فسمع وهو صبي في هذه المجالس والبيوت التي كان يقود أباه إليها أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) والروايات التاريخية عنهم وعن مظلوميتهم والكثير من الحوادث التي جرت عليهم، كما سمع مراثي كبار الشعراء القدماء أمثال الكُميت والشريف الرضي ومهيار ودعبل وغيرهم، وكذلك أشعار المعاصرين أمثال كاظم الأزري والسيد حيدر الحلي والعمري والكواز وغيرهم، فحفظ الكثير من هذه الاشعار والتي كان لها دور كبير في توجهه الى الأدب وساعدت على بروز مواهبه فضلاً عن رعاية أخيه الأكبر بعد وفاة أبيه وإرشاده وتعليمه فكانت بيئة خصبة تلك التي عاش فيها مصطفى غنية بالشعر والأدب فرسمت أثراً واضحاً في تحديد مساره الثقافي والفكري كما نشأ محافظاً ملتزماً بدينه متمسكاً به.
النبوغ من دار المعلمين
قاسى مصطفى من العسر والفقر وشظف العيش بعد موت أبيه ما يطول ذكره، وكانت الثورة العراقية قد شبّت في كل أنحاء العراق فعمل راعياً للغنم عند أحد أقربائه في (دلتاوة), ولما سمع أخوه كاظم بذلك استدعاه وأدخله المدرسة الجعفرية ببغداد، كانت ملامح النبوغ وبوادر النباهة تتلمس منه وهو صغير، فشجعه أحد أساتذته وهو أحمد زكي الخياط الذي كان معجباً بمصطفى كثيراً لذكائه على دخول دار المعلمين، وأقنعه بأنه يمتلك القدرة على النجاح في الامتحان لما يتمتع به من قدرات ذهنية، وصدق حدس الخياط فقد قُبل في الامتحان وأظهر تفوقاً فيه.
في إثناء وجود مصطفى في دار المعلمين والتي أمضى فيها ثلاث سنوات من عام (1921 – 1924) لفت نظر الأستاذ طه الراوي – وكان من أساتذة هذه الدار – القدرة العجيبة التي كان يتمتع بها مصطفى، والقابلية المدهشة بالنسبة لسنه في حفظ الشعر والتاريخ، فعني به وشجعه على الاستمرار، كما ساعده في الإطلاع على الكتب التي تزيد من قابلياته فقويت عنده الرغبة في دراسة العربية فكانت حصيلته من دار المعلمين أن تألفت لديه كنوز ثمينة من آداب اللغة العربية وعلومها.
كما أحب مصطفى التاريخ الإسلامي وتتبع أخباره والتعمق فيه، وأولع بتاريخ العراق في العصور الاسلامية بصورة خاصة، ولعل هذه الدار كانت نواة ثقافته الأولى وتحديد اتجاهاتها، كما أنها قد وسعت من أفقه واهتماماته بالعربية وعلومها، وبعد تخرجه من دار المعلمين عيّن معلماً في أكثر من مدرسة ابتدائية.
في السوربون
سافر مصطفى جواد إلى باريس لاكمال دراسته لمرحلة الماجستير والدكتوراه في التاريخ، لكن بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية عام (1939) أوعز فاضل الجمالي وزير الخارجية آنذاك باستعادته إلى العراق بعد أن أمضى ثلاث سنوات في باريس يدرس في جامعة (السوربون)، لكنه عاد دون أن يكمل رسالته الجامعية، وبعد عودته إلى بغداد عرض شكواه على الشاعر الكبير محمد رضا الشبيبي وهو آنذاك وزير المعارف الذي وافق على تجديد عقد بعثته لمدة سنتين أخريتين فسافر مرة أخرى وأكمل رسالته الجامعية وكانت بعنوان (سياسة الدولة العباسية في القرن السادس).
وفي عام (1942) دُعي لتعليم الملك فيصل الثاني اللغة العربية لكنه فضّل العودة الى دار المعلمين، ومن كلية التربية نُدب لتأسيس معهد الدراسات الإسلامية العليا وأنيطت به عمادته، وقد حفلت حياته بعد عودته من فرنسا بجهود علمية جبارة في البحث والتحقيق العلمي وبدأت تحقيقاته العلمية تحل في نفوس الباحثين والعلماء في الأقطار العربية والإسلامية محل إعجاب، فأصبح علماً من أعلام القرن العشرين في اللغة والتاريخ الإسلامي والعربي.
(قل ولا تُقل) في الذاكرة
إلى جانب نتاجاته الثقافية الغزيرة، حُظي العلامة الدكتور مصطفى جواد بمكانة في قلوب الناس من خلال برنامجه الإذاعي الذي كانت تبثه إذاعة بغداد وهو تحت عنوان (قُل ولا تقُل)، وهو بالحقيقة كتاب من مجلدين طٌبع في حياته، وكان يبين للمستمعين آنذاك المفردة الصحيحة عن الدخيلة والخاطئة التي كانت دارجة وما تزال على اللسان العربي. هذا البرنامج، بل والمسعى لم يكن عملاً نخبوياً، إنما كان لعامة الناس، فهي بحق خدمة للغة ولمن يحملها في جميع أنحاء العالم، وقد نُقلت عنه قصص طريفة بين الناس وهو بما يمتلك من سعة صدر وطيبة قلب، يسعى بينهم ليبين لهم المفردات العربية الصحيحة من غيرها، وينبههم بعدم تكراراها.
ولم يكن نشاط الدكتور مصطفى جواد متوقفاً على البحث والتحصيل والنشر العلمي والادبي، فقد اسهم في النشاط الاجتماعي فانتخب رئيساً لدار المعلمين عام (1941) ثم رئيساً لجمعية المعلمين بالعراق، وكان لمصطفى جواد زيارة الى النجف الأشرف فاستقبلته (جمعية منتدى النشر) و (جمعية الرابطة الأدبية) التي كانت تضم كبار شعراء النجف والعراق.
المؤلفات
ترك الدكتور مصطفى جواد مجموعة قيمة من التآليف فضلاً عن الكم الهائل من التحقيقات والدراسات والبحوث التي نشرها في المجلات العراقية العربية ومن أبرز مؤلفاته: (أمالي مصطفى جواد في فن تحقيق النصوص)، و(دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم)، و(قل ولا تقل) بعدة أجزاء، وقد طُبع جزئين في حياته، و(تاريخ العراق)، و(أبو جعفر النقيب) و(بغداد قديما وحديثا) و(المباحث اللغوية في العراق).
المشاركات
كما شارك عدداً من الباحثين والمؤرخين في إعداد وتأليف الموسوعات العلمية والتاريخية فشارك في بحث (السلك الناظم في دفناء مشهد الكاظم)، وهو إسهام في موسوعة العتبات المقدسة، الجزء الثاني من موسوعة الكاظميين، كما أسهم في باقي أجزاء الموسوعة قسم النجف الأشرف، وكربلاء المقدسة، وسامراء المقدسة، وشارك أيضاً في كتاب (دليل الجمهورية العراقية)، وكتاب (بغداد)، وكتاب (المصطلحات العلمية التي أخرجها المجمع العلمي العراقي)، و(الأساس في تاريخ الأدب العربي)، و(خارطة بغداد قديماً وحديثاً)، و(شخصيات القدر)، فضلاً عن تحقيقاته الكثيرة لأمهات الكتب التاريخية واللغوية.
التحقيقات
ففي مجال تحقيقه للكتب فقد حقق الكثير منها مثل: (الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة) لابن الفوطي، و(الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير) لابن الساعي البغدادي، و(المختصر المحتاج إليه من تاريخ بغداد) لابن الدبيثي، و(تكملة إكمال الإكمال في الأنساب والأسماء والألقاب) لجمال الدين بن الصابوني، و(الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور) لضياء الدين بن الأثير، وكتاب (الفتوة) لابن عمار البغدادي، و(تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب و(العبر في في خبر من عبر) للذهبي، و(تاج العروس من جواهر القاموس) للسيد مرتضى الزبيدي، و(مختصر التاريخ) لظهير الدين الكازوربي، وغيرها، كما استنسخ بيده على طريقة القدماء أكثر من أربعين مخطوطا من الكتب القديمة.
الترجمة
وكان مصطفى جواد يتقن أربع لغات هي إضافة إلى العربية: الفرنسية والإنكليزية والتركية والفارسية، وقد ترجم الكثير من الكتب من هذه اللغات إلى العربية، فقد ترجم من اللغة الفرنسية رواية (الأمير خلف وأميرة الصين) وهي رواية تاريخية تدور أحداثها في الصين، كما ترجم عن الأنكليزية كتاباً في جزأين هو (بغداد مدينة السلام) لريجارد كوك، وترجم عن الأنكليزية أيضاً كتاب (رحلة أبي طالب خان إلى العراق وأوربا)، و(بغداد في رحلة نيبور)، كما ترجم عن الفارسية (رباعيات الخيام).
الاستشهاد بالقرآن الكريم
اهتم الدكتور مصطفى جواد بالقرآن الكريم كثيراً وقد عده المصدر الأول لكل بحوثه اللغوية فبه حُفظت هذه اللغة من الضياع كما يقول: (والعربية لغة جسيمة عظيمة قويمة لأمة كريمة عظيمة وقد حافظت على قواها ونظامها وكلامها بقرآنها العزيز وتراثها الأدبي البارع طوال العصور التي انصرمت بين زمن الجاهلية وهذا العصر)، لذلك كان كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية في بحوثه النحوية واللغوية ودافع عن آرائه بآيات بينات من كتاب الله العزيز، ولم يكتف بالقول بضرورة الاستشهاد بالقرآن الكريم والقياس عليه في باب النحو فقط، بل اعتمد في ذلك في نقد المعجمات اللغوية وعاب عليها قلة الشواهد القرآنية، فكان يدعو إلى: (دراسة القرآن دراسة لغوية ودراسة نحوية عوداً على بدء، ففي ذلك نعش للعربية من كبوتها وتقوية وتوسيع لها)،كما تابع مسألة الاحتجاج بالحديث الشريف فذهب الى تقييد الحديث بالصحيح فقال: (المروي باللفظ).
منهجه في اللغة
وكان منهجه في اللغة هو المحافظة على أصالتها وفصاحتها ونقاوتها من المفردات الدخيلة لأنها لغة القرآن المعجزة التي لا تجاري وقد وصفها مصطفى بقوله: (وهي لا تزال قوية الكيان علية المكان مستمرة الإزدهار مستدامة الإيثار عند أهلها وحماتها) حتى لُقب بفيلسوف اللغة العربية فمن دقائقه في اللغة واستشهاده بالقرآن الكريم على سبيل المثال، أنه اطلع على كتاب (خلف اللثام) وهو مجموعة قصص لرائد القصة العربية محمود تيمور، فجعل يقلب صفحاته قليلاً فاستقرت عيناه على شيء ما، فأثار ذلك فضول الحاضرين، ثم رفع رأسه ليقول: هذا غلط لغوي وأشار إلى عبارة في الكتاب تقول: (فرفع الشيخان رأسيهما)، ولما سُئل عن وجه الغلط فيها قال: ينبغي أن يقول: (فطأطأ الشيخان رؤوسهما)، وعقب على كلامه: (والسبب أن العرب تكره إضافة اثنين إلى اثنين ولا تخشى من إضافة الجمع إلى اثنين إذا كان كل من المضافين لا يملك إلا فردا في الوجوه).
ثم استشهد على ذلك بالقرآن الكريم بقوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) مع أن لكل منهما قلباً واحداً وقوله تعالى أيضاً: (ليبدي لهما ما ووري من سوآتهما) مع أن لكل منهما سوأة واحدة، وهناك شواهد كثيرة دلّت على علميته الواسعة باللغة والإلمام بها.
منهجه في التاريخ
أما في التاريخ فقد كان منهجه في البحث هو الحيادية في الرأي، والموضوعية في إطلاق الأحكام على الحوادث التاريخية، والأمانة في نقل هذه الحوادث بعيداً عن التعصب والتمذهب والتحزب، بل يبني بحثه على المنطق التحليلي، والتحري الدقيق، وكانت غايته الأولى والأخيرة هي كشف الحقائق التاريخية التي بها تتآلف الأمة وتنتهي صراعاتها وتقضي على عصبياتها حيث يبين مصطفى جواد أهمية التاريخ وتأثيره الكبير في الإصلاح والتوجيه بقوله:
(إن التاريخ مرآة الزمان، ودليل الأيام القابلة، والنصيح المشفق، والرفيق الذي هو بالإتباع حقيق، والموعظة البالغة، والدرع السابغة الواقية من طعنات الأحداث وفتكات الكوارث)، وقد مثل مصطفى جواد مدرسة المؤرخين المعتدلين خير تمثيل.
الإحاطة بالخطط
أما في مجال الخطط، فقد كان موسوعياً، ويمتلك في هذا المجال ذاكرة خارقة استوعبت الكثير من الأرقام والتواريخ والحكايات، يقول عنه الأستاذ وحيد الدين: (إنه ـ أي مصطفى جواد ـ يحفظ خمسة وعشرين ألف اسم)، فقد تعمّق مصطفى جواد في دراسة خطط بغداد قديماً وحديثاً فاستطاع أن يحدد الآثار والمدارس والمساجد والقصور تحديداً أدهش المؤرخين والخططيين أنفسهم، وتجلى هذا في بحوثه وكتبه، وكان الخلاف الذي يقع بين الخططيين والمؤرخين حول تاريخ بغداد يحل بكلمة من عند مصطفى جواد، وهذه الكلمة هي كلمة الفصل التي لا ترد ولا تدحض لأنه السبّاق والدقيق في هذا المضمار ولا يستطيع أحد مزاحمته فيه.
وننقل لكم مثالاً واحداً على ذلك حيث يقول في مذكراته: (أما محل ولادتي ومسقط رأسي فهو محلة (عقد القشل) بالجانب الشرقي من بغداد وهي المحلة المأمونية أيام بني العباس وشارعها هو الشارع الأعظم لبغداد الشرقية يومئذ)!!.
وهكذا في كل بحوثه يعطي معلومات تاريخية وافية وعجيبة عن كل مكان أو اسم أو تاريخ يتعرض له حتى جاء كتابه (دليل خارطة بغداد قديماً وحديثاً) آية من آيات عبقريته الخططية حيث استطاع أن يصحح الكثير من الأماكن والتواريخ الخاطئة والشائعة في بغداد, وتعديل نسبتها، وقد بلغ في علم التاريخ شأواً كبيراً حتى قال عنه الأستاذ صفاء خلوصي: (إنه كان مؤرخا أكثر منه لغوياً، وحتى في دراسته للغة كان مؤرخاً للغة، وقد اتقنها لدراسة التاريخ ليس غير).
ومع أننا نختلف مع الأستاذ خلوصي في هذا القول إذ أن الدكتور مصطفى جواد قد ألم باللغة والتاريخ لشغفه بهما معاً وليس بواحد من أجل الآخر، إلا أننا نتفق معه من حيث مزاوجته في بحوثه بينهما فمثلما كان موسوعياً في التاريخ فقد كان ملماً غاية الإلمام باللغة.
الموسوعة الشاملة
يقول عنه الأستاذ وحيد الدين بهاء الدين: (إن الدكتور مصطفى جواد كان إنسانياً بكل ما تحمل كلمة الإنسانية من امتياز، لأنه أفاد الناس كلهم كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم، قريبهم وبعيدهم بغزارة علمه وأصالة أبحاثه، إنه بلا شك نموذج رائع لأولئك الأعلام الأفذاذ الذين كانوا عالميين في ثقافاتهم واتجاهاتهم، والذين أضافوا إلى التراث العربي والإسلامي والبشري ثروة جديدة خليقة بالتقييم والتمجيد)
بقي أن نشير إلى أمر مهم في حياة الدكتور مصطفى جواد، وهو الغبن الذي لحقه في حياته وخاصة في عدم ترشيحه لعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة خلفاً للشاعر محمد رضا الشبيبي رغم منزلته العلمية الكبيرة، وقد تألم كثيراً لذلك فقد كان يستحق رئاسته بجدارة كما لم ينل ما يستحقه من مناصب رئاسة المجمع العلمي العراقي ورئاسة جامعة بغداد فكان ضحية التعصب والتحيز القومي تارة، والحسد تارة أخرى، ولذلك حديث مؤلم طويل نستشف بعضه من فقرات من كلام الأستاذ خلوصي عن مصطفى جواد حيث يقول:
(لم يكن إنساناً اعتيادياً وإن بدا اعتيادياً أكثر مما يلزم وقد كان بوسعه أن يكون أعظم مما هو عليه لو أنه ولد في بلد كالقاهرة ..... لقد ظلمته العهود الماضية فقد كنت أرجو من صميم قلبي أن يصبح مصطفى جواد يوماً ما رئيسا للمجمع العلمي العراقي أو رئيساً لجامعة بغداد .... والله يعلم كم تألم مصطفى جواد يوم لم يفز بالمقعد الشاغر في مجمع اللغة العربية في القاهرة).
ثم يقول خلوصي: (وكل الذي أرجوه فيما يتعلق بالمناصب العلمية في البلاد العربية ألا تتكرر مأساة مصطفى جواد)
مصطفى جواد شاعرا
ونود أن نختم فصول هذا العالم الفذ العلمية بالشعر، وتدلنا شواهد على أنه كتب شعراً كثيراً منها قوله: (وقد نشرت كثيراً من شعري في عدة مجلات وصحف، وجمعت ما استطعت منه في دفتر وسميته: (الشعور المنسجم في الكلام المنتظم).
يقول الأستاذ يوسف عز الدين عن شعر الدكتور مصطفى جواد: (ونظم من الشعر الجيد الذي غلبت عليه روح العقل والنظرة الفاحصة ...... إنه مثل حي للشعر ورمز سليم له).
وقد عالج مصطفى جواد في شعره الكثير من القضايا الدينية والإجتماعية والسياسية، كما غلب على شعره حبه لأهل البيت (عليهم السلام) وركّز على مدحهم ورثائهم وخاصة في رثاء الإمام الحسين(عليه السلام) وقد كتب عدة قصائد في ذلك منها قصيدته التي ألقاها في صحن الامامين الكاظميين (عليهماالسلام) يوم العاشر من المحرم سنة (١٣٦٥هـ/١٩٤٥) والتي مطلعها
ألمت بي الذكرى فاوسعتها شكرا *** وأرعيتها قلبي فقلبي بها أدرى
وقد نشرتها مجلة البيان النجفية في السنة الاولى
كما ألقى قصيدة أخرى في صحن الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) في يوم العاشر من المحرم سنة (١٩٦٤) في رثاء الامام الحسين (ع) وأولها:
أبى الله أن ينسى مصاب ابن فاطمِ *** فجاءت تعزي الدين شتى العوالمِ
قد اختلفت أجيالها غير أنها *** تساوت لدى تأبين فخرِ الهواشمِ
ومن شعره في رثاء الحسين (عليه السلام) أيضاً هذه القصيدة التي ألقاها في يوم عاشوراء في الحفل المقام في ساحة الامام الكاظم (عليه السلام) ومنها:
جلّ المصابُ مصابُ آل محمدٍ *** فاذرِ الدموعَ بيومهِ المتجددِ
وابكِ الكرامَ الذائدينَ عن العلى *** والدينُ بالقولِ الكريمِ وباليدِ
ذكرَ الزمانُ مصابهم فأعاده *** تاريخُ عزٍ للسموِ مؤيّدِ
فالحقُ لا ينسيه سالفُ عهده *** والذلّ لا يبقيه سوطُ المعتدي
والعدلُ لا تبليه قلةُ أهلهِ *** والدينُ لا يوهيه طعنُ الملحدِ
آلُ الرسولِ أجل فهاتِ حديثم *** واذكر مصابهمُ ولا تخشى الردي
جمعوا الفضائلَ والمكارمَ والعُلى *** والعلمَ والتقوى لأذكى محتدِ
ما حررّ الإسلامَ إلّا سادة *** بذلوا دماءهم له عن مقصدِ
سنّوا لأهل الحق سنة ثورةٍ *** أضحى بها الإسلام مرهوبَ اليدِ
ملّ الحديدُ من الحديدِ وعزمهم *** ما ملّ من نصرٍ لدينِ محمدِ
فليقلع الجبناءُ عن أقوالهم *** إن الجبانَ كأنه لم يولدِ
في كل قطرٍ روضةٌ لكرامهم *** بندى المعالي روض ذكراها ندي
رام العدو عفاءها لكنها *** حفظت على رغم العدوِ بمشهدِ
في المغرب الاقصى وفي مصرٍ وفي *** هذا العراقِ وفي بقيعِ الغرقدِ
وشهيدهم في كربلاء شهيدهم *** في أنهم أهل المقامِ الاوحدِ
عطفُ الصفوفِ على الصفوفِ يذيقُها *** حتف الحتوفِ وينثني كالجلمدِ
هجمات حيدرة العظيم وقلبه *** اذ صال في صفينَ أو في المربدِ
لله يوم الطف يوماً فارقاً *** بيض الوجوه عن الفريقِ الأسودِ
كتب العراق وثيقة استقلاله *** بدم الحسينِ السيد بن السيدِ
بيني وبينك يا يزيد قضية *** لا تنتهي وعداوةٍ لم تنفدِ
أورثت ملكاً لم تكن أهلاً له *** ووليت ديناً ريع منكَ بمفسدِ
توفي الدكتور مصطفى جواد بتاريخ (17-1-1969) وكان لموته أثر كبير وحزن عمّ الأوساط العلمية والأدبية، وكانت هناك مجالس تأبينية كثيرة وبرقيات تعازي ومراثي شعرية عديدة، منها ما رثاه الشاعر مصطفى جمال الدين، ومما جاء في القصيدة وهي بعنوان (حارس اللغة):
ضاحٍ على وهج الحروف توقدا *** هيهات يُطفئ لمحَ عينيه الردى
ومحطمٌ سُدَفَ الخلود بروحه *** هل كيف يلقاهُ رتاجاً موصدا
يا حارس اللغة التي كادت على *** صدأ اللهى أن لا يرنّ لها صدى
هبّت عليها الحادثات فلم تدع *** غصناً بعاصف حقدها متأوّدا
فأقام محنتها على حيث إلتقى *** بيديه صحو الأمس يبلغها الغدا
كما رثاه الدكتور الشاعر زكي المحاسني بقصيدة طويلة مطلعها:
تلبس الروح فيك ثوب الحداد *** مصطفى يا بن خيرٍ وجوادِ
ويقول منها:
غير أنا نبكي إذا ما فقدنا *** علما كالجواد بعد الجهادِ
كان يسمو بطرفه نحو دار *** هي للعلم والحجى والسدادِ
عبقريا قضى السنين عليماً *** باعثاً للتراث دأب اجتهادِ
حقق النص واستوى في هداه *** سله من تقادم الأغمادِ
ناسك الفكر عاش في غير حقد *** علم الناس طرحة الأحقادِ
وصبوراً في البحث حتى تراه *** يتقرى النصوص بالإسنادِ
معجمي الآدابِ ألّف فيها *** كل سفر مخلد الأبرادِ
اضف تعليق