بعد انتهاء معركة (فخ) ـ وهو وادٍ قريب من مكة ـ باستشهاد قائد ثورة العلويين الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) مع أكثر من مئة من أهل بيته العلويين وجماعة من أصحابه، توجه الجيش العباسي بقيادة موسى بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، والعباس وجعفر ابني سليمان بن المنصور الدوانيقي إلى مكة حاملين معهم رأس الحسين مع رؤوس الشهداء، ومن مكة توجهوا إلى المدينة فقبضوا على أغلب من فيها من أولاد الحسن والحسين فقيدوهم بالحبال والسلاسل وأخذوهم أسرى إلى بغداد فأمر الهادي العباسي بقتلهم وصلبهم، وقد قُتل في هذه المعركة كل من اشترك فيها من العلويين سوى رجل واحد..!
رجل واحد من أبطال (فخ) استطاع النجاة من أيدي العباسيين والخروج من البلاد التي تحت سلطتهم فكان له شأن كبير ودور عظيم في حركة التاريخ الإسلامي، فاستطاع إنشاء دولة سُميت باسمه حققت الكثير من الإنجازات على كافة الأصعدة العلمية والسياسية كما دخلت على يديه الكثير من البلاد إلى الإسلام بإرادتها وهذا الرجل هو إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) مؤسس دولة الأدارسة.
اختفى إدريس بعد ثورة (فخ) عن أعين السلطة العباسية، ثم خرج متخفياً من الحجاز مع خادمه راشد، ويذكر أبو الفرج الأصفهاني: (إنهما خرجا مع حجاج مصر وأفريقيا)، فوصلا مصر التي كانت لاتزال خاضعة للسلطة العباسية، فانكشف أمرهما لبعض رجال الدولة ووصل خبرهما لوالي مصر، ولكن هذا الوالي كان من محبي أهل البيت فحماهما، واتفق مع صاحب بريد المنصور في مصر واسمه واضح وهو مولى صالح بن المنصور الدوانيقي على تسهيل أمر سفرهما إلى أفريقيا.
وكان واضح موالياً أيضاً للبيت العلوي، وكان والي مصر يعرف منه هذا الولاء لهم فسهل المهمة له في تسفيرهما، فاتفقا على سفرهما منفردين على طريق لا يسلكه الناس، فرافق واضح إدريساً في خروجه من مصر حماية له وخوفاً من انكشاف أمره من قبل جواسيس السلطة ووقوعه في أيديهم، وكان راشد قد خرج قبلهما وحده، ولم يترك واضح إدريساً حتى التقى براشد على حدود أفريقيا.
وهناك على حدود أفريقيا حيث التقى السيد بخادمه الوفي فارقهما واضح وهو يشعر بالإطمئنان ويشكر الله على نجاتهما، ولكن رغم خروج إدريس من البلاد التي يحكمها العباسيون بالحديد والنار ووصولهما إلى بلاد لا يدر غمامها لخراجهم، إلا أن إدريس تبادل مع راشد زيّه زيادة في التعمية فلبس إدريس زي الخدم، فكان من ينظر إليه يظنه خادماً لراشد للتورية وعدم لفت الأنظار إليهما.
ويتضح مما تقدم ذكره أمران هما: أولا: إن السخط والنقمة على العباسيين جراء ظلمهم وجورهم وسفكهم الدماء البريئة وصلا حتى إلى بعض ولاتهم المنصفين وحاشيتهم المعتدلين أمثال والي مصر وواضح.
وثانيا: إن انكشاف أمر إدريس رغم التخفي وزيادة التعمية التي استعملها في رحلته وتبادل زيّه مع خادمه رغم خروجه من سلطان العباسيين يعطي صورة واضحة على كثرة الجواسيس التي كانت تبثها الدولة العباسية في البلاد وأنها كانت دولة استخباراتية بامتياز.
سار إدريس وراشد فوصلا المغرب بعد رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر والمغامرات فعبرا (وادي تازة) حتى وصلا (طنجة)، فأقاما فيها فترة متخفيين ثم انتقلا إلى (وليلى) الواقعة تحت جبل (زهرون)، والتي تسكنها قبائل بربرية عرفت بشدة البأس والشجاعة والنجدة تتزعمها قبيلة (أوربة) وزعيمها عبد الحميد بن اسحاق الأوربي.
فحل إدريس ضيفاً عليه فرحب به ترحيباً حاراً ولما اطمأن إدريس منه عرفه بنفسه ونسبه ثم عرض عليه فكرته في دعوته إلى إقامة دولة تدين بدين الله وسنة نبيه ومنهج أهل البيت(ع) بعد أن عطّل العباسيون أحكام الدين وأماتوا سنة الرسول(ص) وقتلوا ذريته.
ولما وجد إدريس ترحيباً منه لدعوته، دعاه إلى مبايعته، فبايعه عبد الحميد وبايعته القبيلة كلها ثم بايعته القبائل المجاورة وهي: (زناتة وزواغة وزواوة ولماية وسدراته ومسراته ونفرة ومكناسة وغمارة)، وبمبايعة هذه القبائل القوية والكثيرة في العدد لإدريس قامت الدولة الإدريسية وذلك عام: (172هـ/788م).
استمرت رحلة إدريس منذ خروجه من الحجاز إلى مصر ومنها إلى أفريقيا ثلاث سنوات من عام (169هـ/785م) وهو تاريخ معركة فخ حتى تاريخ مبايعته، وكان لراشد فضل كبير في خروج إدريس من الحجاز فبذل جهوداً كبيرة في حمايته وتحمل المشاق والمخاطرة بنفسه من أجل نجاح رحلته، كما كان له فضل كبير أيضا في دعوته.
وبعد أن بايعت إدريس تلك القبائل كلها ألقى عليهم خطبة طويلة هي عبارة عن بيان بيّن لهم فيه السياسة التي سيتبعها في دولته، حيث دعاهم فيها إلى تطبيق أحكام القرآن وفرض العدل، ونظراً لطول الخطبة ننقل فقرات منها فمما جاء فيها:
(فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه(ص) وإلى العدل والقسم بالسوية ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم وإحياء السنة وإماتة البدعة وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد).
دعاهم إلى ذلك لأن هذه السياسة التي هي روح الإسلام قد أماتها بنوا العباس الذين جاروا في الحكم وظلموا الناس وسفكوا الدماء وسرقوا الحقوق كما جاء في بيانه: (واذكروا الله في ملوك غيّروا، وللأمان خفروا، وعهود الله وميثاقه نقضوا، وولد نبيه قتلوا، وأذكركم الله في أرامل احتقرت، وحدود عطلت، وفي دماء بغير حق سفكت، فقد نبذوا الكتاب والإسلام، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه).
ثم قال في إشارة منه بعد تمكينه في دولته إلى قتال الظالمين من بني العباس، وتخليص الناس من جورهم وظلمهم: (واعلموا عباد الله إن مما أوجب الله على أهل طاعته المجاهدة لأهل عداوته ومعصيته باليد واللسان).... (وأمر بالجهاد عليه والدعاء إليه فقال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) وفرض قتال المعاندين على الحق والمعتدين عليه على من آمن به وصدق بكتابه حتى يعود إليه، كما فرض قتال من كفر به وصد عنه حتى يؤمن به ويعترف بدينه وشرائعه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) فهذا عهد الله إليكم وميثاقه عليكم بالتعاون على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان فرضاً من الله واجباً وحكماً لازماً فأين عن الله تذهبون وأنى تؤفكون وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقاً وغرباً، وأظهروا الفساد، وامتلأت الأرض ظلماً وجوراً فليس للناس ملجأ ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء).
ثم يوجه خطابه إلى القبائل بأن يكونوا من أنصار الله والمجاهدين بين يديه: (فعسى أن تكونوا معاشر أخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور وأنصار الكتاب والسنة القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيين فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين ونصر الله مع النبيين) ثم يذكر في خطبته الظلم والجور الذي لحقه من بني العباس في مطاردته وقتل أهل بيته: (واعلموا معاشر البربر إني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور الذي كثر واتره وقل ناصره وقتل أخوته وأبوه وجده وأهلوه فأجيبوا داعي الله).
ثم يذكرهم بنسبه الشريف وإنه أحق الناس بالدعوة إلى الله كونه فرع الشجرة النبوية الشريفة ويختم خطبته بقوله: (هذه دعوتي العادلة فمن أجابني فله ما لي وعليه ما علي، ومن أبى فحظه أخطأ، وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة إني لم أسفك دماً ولا استحللت محرماً ولا مالاً واستشهدك يا أكبر الشاهدين واستشهد جبريل وميكائيل إني أول من أجاب وأناب فلبيك اللهم لبيك مزجي الجبال سراباً بعد أن كانت صمّاً صلاباً أسألك النصر لولد نبيك إنك على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله وسلم).
وتجدر الإشارة إلى أن دعوة إدريس إلى قتال بني العباس لم تكن دعوة آنية فهو في طور التكوين لدولة فتية بل كانت دعوته على المستقبل ربما البعيد لتكون من أهداف تلك الدولة كما لم تكن دعوته تلك لتحقيق مصالح سياسية وتوسعية لدولته بل إنه أوضح الهدف منها وهو: تخليص الناس من جور بني العباس وإيقاف سفك الدماء البريئة والإنتصاف للمظلومين من الظالمين كما نوّه إلى ذلك في خطبته: (وأذكركم الله في أرامل احتقرت، وحدود عطلت، وفي دماء بغير حق سفكت، فقد نبذوا الكتاب والإسلام، فلم يبق من الإسلام إلّا اسمه، ولا من القرآن إلّا رسمه) وقد قدّم مظالم المسلمين على مظلمته في قتل أبيه وجده وأخوته وأهل بيته.
يقول الأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي ـ المفكر المغربي ـ في كتابه: (الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية): (وبالرغم مما لحق الأدارسة من ظلم سياسي في مساقط رؤوسهم فإنهم عندما التحقوا بالمغرب في أعقاب وقعة فخ انصرفوا لأداء رسالتهم في هذه الجهات وما كان أحد ليثق في أن مخطط إدريس الأول كان يقصد إلى الإطاحة بدولة بني العباس في بغداد فإن إمكانياته من جهة، وتنائي المسافات من جهة ثانية كل ذلك مما كان يبعد ـ في نظر الملاحظين ـ احتمال التفكير في أخذ وشيك للثأر).
وحّد إدريس (الأول) ـ الذي صار لقبه ـ القبائل في جيش قوي وكبير وموحّد للدولة واستقر حكمه على المغرب وأرسى قواعد الدولة ودخلت في عهده بلاد لم يكن الإسلام قد دخل إليها مثل بلاد (تادلا وفازار وحصون فندلاندة ومديوقه وبهلولة وقلاع غياثة) في المغرب الأقصى و(تلمسان) في المغرب الأوسط.
ولم يكن دخول هذه البلاد إلى الإسلام كراهية بحكم السيف والقتل والسبي وخوف الجزية وفرض الإختتان كما دخلته بلاد كثيرة وخرجت منه في زمن الأمويين الغزاة، وصارت تلك البلاد تتحين الفرص للثورات ضدهم حتى كلفت المسلمين وتلك البلاد عشرات الألاف من الأرواح، وكل ذلك لم يكن يهم بنوا أمية وبنوا العباس فلا يأبه هؤلاء لكثرة القتلى المسلمين وغيرهم الذين يساقون تحت قيادة هوجاء لدخول تلك البلاد، كما لم يهمهم ما خلفوه من يتامى وأرامل وثكالى، وما يهمهم فقط هو الكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والسبايا الجميلات والغلمان المرد. والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة جدا لا تحصى ولا تعد نكتفي بنقل ثلاث أمثلة منها عن الطبري لكي لا نبتعد عن الموضوع كثيراً:
يقول الطبري في تاريخه وهو يتحدث عن إحدى غزوات الأمويين وكان يقودها أحد المجرمين من قواد بني أمية وهو يزيد بن المهلب: (دخل يزيد بن المهلب دهستان فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي شيئا لا يحصى ثم قبض على أربعة عشر ألف رجل تركي وقتلهم).
ويقول: (قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفا)
ويقول عن مجرم آخر من أتباع بني أمية هو الجراح الحكمي بأنه: (غزا أرض الترك وغرقهم وعامة ذراريهم في الماء وسبوا ما شاؤوا).
ولم يختلف تاريخ العباسيين الدموي في غزواتهم الوحشية عن تاريخ الأمويين بل فاقه وحشية وهمجية وحفل هذا التاريخ الإرهابي بأسماء مجرمين أبشع من مجرمي بني أمية.
كما لم تكن أرض المغرب بمنأى عن هذه التجربة، يقول الطبري: (إن يزيد بن عبيد الملك ولى يزيد بن أبي مسلم دينار (كاتب الحجاج وصاحب شرطته) على بلاد المغرب فسار هناك بسيرة الحجاج فتآمروا على قتله فقتلوه).
ويقول المؤرخ المغربي أبو العباس أحمد بن خالد الناصري في كتابه (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى): وفي عهد هشام بن عبد الملك، كان عمر بن عبد الله المرادي واليا على طنجة والمغرب الأقصى فأساء السيرة في البربر).... ويعدد أعمالهم السيئة ثم يقول: (فكثر عبثهم بذلك في أموال البربر فأجمعوا على الإنتقاض) ثم يقول:
(فلما وصل إدريس الأكبر وقامت دولة الأدارسة عرف البربر إن الإسلام الصحيح ليس هو الذي كان يمثله أولئك الحكام الطغاة، وإنه ليس إلا عدلا وتسامحا ورحمة فأقبلوا يدخلون فيه أفواجا على أيدي الأدارسة أحفاد محمد وعلي).
وينقل الشبيبي عن كتاب (مجمع الآداب في معجم الأسماء على معجم الألقاب) لابن الفوطي عبد الرزاق بن أحمد بن محمد الصابوني مؤرخ العراق قوله عن القبائل التي البربرية في دولة الأدارسة: (وقد توارثت هذه القبائل إلى اليوم ولاء أهل البيت والإخلاص لهم وما أكثر بيوت العلويين على اختلاف بطونهم في المغرب وما زالوا يتمتعون بحرمة وافرة).
فشتان ما بين الإسلام الذي دخل إلى هذه البلاد عن طريق العلويين والذي دخل في نفوس أهلها وبين الإرهاب الأموي والعباسي، وقد استعصى الكثير من هذه البلاد أو عادت إلى دينها الأول عندما رأوا بأن هؤلاء الغزاة من الأمويين والعباسيين لم يكن هدفهم من الغزو الإسلام بل تحقيق مآرب دنيئة قذرة، ثم دخلته عن طريق الدعاة المسالمين من الشيعة الذين حملوا معهم روح الإسلام الحق ومبادئه السامية المتمثلة في الحق والعدل كبلاد القارة الهندية وأندونيسيا وتركستان وغيرها وهذا ما حمله إدريس معه في دعوته لتلك البلاد إلى الإسلام.
ويتحدث الأستاذ عبد الهادي التازي عن سياسة إدريس في الحكم ومبدئه في حسن الجوار مع البلدان المجاورة والدعوة السلمية التي اتخذها منهجاً في الدعوة إلى الإسلام: (امتدت دولة إدريس الأول من المحيط إلى قلب القطر الجزائري ولم يستثن من كل هذه المساحات سوى إمارات بني عاصم بـ (سبتة) وبني صالح بـ (نكور) وبني مدرار بـ (سجلماسة).
ثم يتحدث عن العلاقات الدبلوماسية بين الأدارسة وبين هذه الإمارات والقائمة على الإحترام والتعاون المتبادل بين الطرفين: (وقد تميزت الصلات بين الأدارسة من جهة وبين هذه الإمارات من جهة أخرى بأنها كانت على ما تقتضيه تقاليد الجوار نظراً لما عرفت به تلك الإمارات من تمسك متين بأهداب الشريعة وتحاشيها عن الرغبة في تسلط بعضها على البعض الآخر).
وعن دعوة إدريس والتخطيط لهدفه في تخليص البلاد الإسلامية من براثن الظلم والجور العباسي يقول: (وعندما اطمأن الإمام إدريس على الأحوال في المغرب الأقصى أخذ يخطط ليجعل منفذاً لدولته على المشرق ومن هنا اتجه نحو تلمسان حيث بايعه في رجب (172هـ/788م) عن طواعية واختيار أمير تلمسان أبو عبد الله محمد بن خزر بن صولات المغراوي، الأمر الذي كان له أثر قوي في فصل الشمال الأفريقي كله عن الخلافة العباسية منذ هذا التاريخ).
وقد حافظ إدريس في سياسته على مبدأ التعايش السلمي مع دول الجوار حتى مع مخالفيه وحتى عند تهيئة الفرص لتوسع دولته ووجود العوامل المساعدة على ذلك، فبعد أن ازدهرت دولة الأدارسة وعظم سلطانها كانت قبيلة (زناتة) خاضعة للدولة الرستمية وهي دولة للخوارج الأباضية استقلت عن الدولة العباسية، ويحكمها عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم الفارسي فلم تجد هذه القبيلة القوية ما يبرر بقاء هذه الدولة مع وجود الدولة الإدريسية، فتمردت على الرستميين وطلبت مساعدة الأدارسة في الحرب على الرستميين والإنضمام إلى الدولة الإدريسية ولكن رغم توفر هذا العامل القوي لصالح إدريس، إلا أنه بقي متمسكاً بعهده الذي قطعه للرستميين في بناء علاقات متينة من حسن الجوار رغم إصرار (الزناتيين) ومحاولاتهم المتكررة للدعوة إلى الإنفصال عن الرستميين ودمجهم مع الأدارسة.
بل إن إدريس أبدى محاولات عديدة لإقناع (زناتة) بأن تغير موقفها والبقاء في ظل الدولة الرستمية وليس هناك مصلحة في الحرب، كل هذه الأمور حببت إدريس عند المغاربة، وزادت من قلق العباسيين حيث كانت تصل أخبار إدريس ونجاحه إلى هارون الرشيد فهاله ما تحقق على يد إدريس من نجاح باهر في إقامة دولة تزداد سعة بانضمام الدول إليها في حين بدأت الحركة الإنفصالية تقلص من دولته شيئاً فشيئاً، فأرسل إلى والي القيروان روح بن حاتم بمحاربة إدريس فأرعبه أكثر من رعبه الأول إن الجيش في القيروان تمرّد على الوالي وتهيّب من قتال أبناء الرسول..!
لقد اسودّت الدنيا في عينيه وأقضّ مضجعه الحقد الأسود على إدريس وهو يرى دولته تزداد تمكّناً وقوة يوماً بعد يوم ويقف هو عاجزاً على محاربتها والقضاء عليها، فأشار عليه أحد أعوانه ممن عُرف بخسته ونذالته وهو جعفر البرمكي بدسّ السمّ لإدريس عن طريق جاسوس.
لم تكن مثل هذه الأساليب الدنيئة القذرة بالجديدة على هذه العائلة الخسيسة، فقد عرفهم التاريخ في الكثير منها، إن حقائق التاريخ أكبر وأقوى وأدحض لأباطيل كل المؤرخين المرتزقة والكتاب الأبواق الذين يحاولون تبرئة التاريخ الأسود والجبان للحكام الأمويين والعباسيين.
ونفذت المؤامرة الجبانة على يد عميل عباسي قذر اسمه (الشماخ) استطاع أن يختلط بحاشية إدريس ويصل إليه فدس إليه السم فمات آخر من بقي من أبطال فخ وذلك عام (177هـ/793م) فدفن بالقرب من (وليلى) عاصمته في سفح جبل (زهرون) المشرف عليها ولا يزال قبره يعرف حتى اليوم باسم (مولاي إدريس) وفيه تجري الإحتفالات بعيد المولد النبوي الشريف والتي يحضرها عادة ملك المغرب.
استطاع إدريس الأول خلال خمس سنوات وهي مدة حكمه على المغرب أن يقيم دولة وعائمها العدل والخير والإنصاف وأن يوصل الإسلام إلى الكثير من البلاد التي لم يصلها.
وكان قد تزوج من بربرية اسمها (كنزة) كانت حاملا عندما توفي فاقترح راشد خادمه الوفي على رجال الدولة أن ينتظروا المولود فإن كان ذكراً قلدوه الحكم وإن كان أنثى آل الأمر إليهم فيما يفعلون فوافقوا على ذلك وأشرف راشد على حكم البلاد.
وبعد شهرين من وفاة إدريس ولدت كنزة ذكرا سمي باسم أبيه وتولى الوصاية عليه راشد ولكن راشد ذلك الخادم المخلص توفي عام (186هـ/802م) فانتقلت الوصاية إلى رجل اسمه أبي خالد العبدي.
ولما بلغ إدريس (الثاني) الثالثة عشرة من عمره بايعه الناس ثم بايعوه بعد سنتين مرة أخرى في عاصمته الجديدة (فاس) عام (192هـ/808م) عندما توسعت مملكته بقدوم العرب من أفريقيا والأندلس من قبائل قيس والأزد ومذحج ويحصب وصدف إضافة إلى البربر أصحاب الأرض فضاقت بهم (وليلى) فبنى عاصمته (فاس) وانتقل إليها ثم ضم إليها مدينتي (نفيس وأغمات) حتى أصبحت فاس في عهده من أهم العواصم في العالم الإسلامي والعربي.
ولكن الحقد العباسي لم يقف عند حد فبعث هارون الرشيد وفدا للإستعانة بشارلمان ملك الأفرنج (فرنسا) على محاربة الأدارسة إمعاناً في عدائه السافر والمقيت لكن تلك المحاولات باءت بالفشل لتماسك الدولة الإدريسية وقوتها.
أنجب إدريس الثاني اثني عشر ولداً ومات وله من العمر ست وثلاثون سنة فتولى بعده ابنه الأكبر محمد بن إدريس الحكم فقسم محمد حكم بلاد المغرب بين أخوته وجعلهم ولاة على أقطارها حرصا منه على المساواة بينهم ومشاركتهم في الحكم وعدم التنافس.
يقول المؤرخ المغربي الناصري في كتابه (الاستقصا في لأخبار دول المغرب الأقصى): عن ولايات أبناء إدريس: (فضبطوا أعمالها وسدوا ثغورها وأمنوا سبلها وحسنت سيرتهم).
وبعد وفاة محمد تولى الحكم ابنه علي بن محمد المعروف بـ (حيدرة) الذي (كانت أيامه خير أيام) كما وصفه الناصري في (الإستقصا)، كما وصفه علي بن أبي زرع الفاسي في كتابه: (الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس): (سار بسيرة أبيه وجده في العدل، فكان الناس في أيامه في أمن ودعة) ثم تولى بعده أخوه يحيى بن محمد الذي يقول عنه ابن خلدون: (امتد سلطانه وعظمت دولته وحسنت آثار أيامه واستبحر عمران فاس وبنيت بها الحمامات والفنادق للتجار وبنيت خارجها الأرباض ورحل إليها الناس من الثغور القاصية) وفي عهد يحيى بني مسجد القرويين بفاس واستمرت دولة الأدارسة لمدة (275) سنة.
يقول المستشرق الفرنسي (سيديو) في كتابه: (خلاصة تاريخ العرب) عن إنجازات هذه الدولة: (ظل الأدارسة قابضين على ما ملكوه مقيمين في البلاد التي هي مدينة لهم بجليل الأعمال، فأسسوا مدينة فاس التي أضحى مسجدها مقدسا لدى جميع الأهالي المجاورين ونال شهرة عظيمة في زمن قليل واشتملت مدينة فاس على مدارس ومكتبات.... وغدت مستودعاً واسعاً بين عرب أسبانيا وعرب أفريقيا).
ويقول السيد حسن الأمين: (وبفضلهم قامت الحركة العلمية فأنشئت المدارس والمكتبات كما توسع العمران وأسست المدن مما أدى إلى التوسيع في تحضير البلاد وازدهار المدينة، والعمل الأكبر الذي يتوج كفاح الأدارسة هو تعميمهم الإسلام بين القبائل البربرية وترسيخ قدمه فيها).
ويتحدث الدكتور حسين مؤنس المصري عن فضل الأدارسة في نشر الإسلام في كتابه: (تاريخ المغرب وحضارته من قبل الفتح العربي إلى بداية الإحتلال الفرنسي):
(مكانها أي الدولة الإدريسية ـ كحجر الزاوية في بناء إسلام المغرب وعروبته، وما قامت به من دور عظيم في مد رقعة الإسلام في شمال المغرب الأقصى وغربي المغرب الأوسط.... وما بذله أمراؤها من جهد في إرساء الإسلام الصحيح وتثبيت دعائم العروبة ولغتها وثقافتها في بلد أصبح بفضل الأدارسة الدرع الواقي للجناح الغربي من مملكة الإسلام).
وكانت خاتمة هذه الدولة في المغرب بمقتل آخر أمرائها الحسن بن كنون بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس سنة (363هـ/974م) على يد المنصور بن أبي عامر وصي الدولة الأموية في قرطبة غدرا.
ولكن الأدارسة استطاعوا أن يقيموا دولتين الأولى في جنوب الأندلس وسبته وطنجة بعد اندثار الدولة الأموية فيها عرفت بدولة بني حمود نسبة إلى مؤسسها حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس وكان لها شأن كبير في تاريخ الأندلس، والثانية في صقلية من بني حمود أيضاً ومؤسسها القاسم بن علي بن حمود وقد أشار إليها الدكتور حسين مؤنس بقوله: (إذا درسنا تاريخ الإسلام في صقلية خلال حقبته الأخيرة يضع يدنا على حقيقة هامة جديرة بعناية المهتمين بتاريخ الأدارسة، وهي وجود بيت إدريسي علوي فيها كان له سلطان كبير ودور واسع في تاريخها حتى النصف الثاني للقرن الخامس الهجري إلى أواخر القرن السادس) وإلى هذا البيت يرجع نسب العالم والجغرافي الكبير الشريف الإدريسي.
يقول ابن خلدون في كتابه (العبر): (إن التشيع الموروث لأولاد إدريس خلد هذه الدولة إلى الأبد في نفوس المغاربة والبربر عامة فلم تجب دولتهم ولا زال أمرها بل سرعان ما انتقلت إلى الأندلس لتزيل دولة بني أمية وتخلفها).
اضف تعليق