المسيحيون الأبيونيون هم الطائفة التي مثلت اليهود الذين آمنوا بيسوع المسيح وصدقوا دعوته، وجاءت تسميتهم بهذا الاسم، والذي يعني الفقراء او المساكين، لان غالبيتهم من الطبقات اليهودية الفقيرة والمعدمة، ويبدو أنهم كانوا مرتاحين لهذا التسمية لانهم كانوا يعتقدون أنهم مشمولين بمباركة وتطويب يسوع المسيح في...
الديانة المسيحية – حالها حال جميع الأديان الاخرى– تضم ضمن اطارها العام العديد من الفرق والطوائف المتنوعة والتي تقترب مع بعضها البعض في مبتنيات عقدية معينة وتتباعد في اخرى، وفي زمننا الراهن، تبرز طوائف مسيحية كبيرة مثل الكاثوليك والبروتستانت والارثوذكس، الى جانب فرق مسيحية أصغر مثل شهود يهوا والمورمن والموحدين الإنجيليين وغيرهم من الفرق المسيحية المتعددة.
ان الانقسام المسيحي إلى فرق متعددة كان سمة واضحة ومبكرة صاحبت تطور هذه الديانة ومنذ زمن التأسيس، حيث برزت في ذلك الوقت عدة مجاميع تحت مسميات متنوعة وبتأصيلات عقدية متباينة، مثل الغنوصيين والأبيونيين وغيرهم وكانت كل فرقة تعتبر نفسها هي الطريق القويم في اتباع تعاليم المسيح ومنهجه، وتتهم الفرق الاخرى بالهرطقة!!
من بين الفرق المسيحية التي ظهرت بوقت مبكر جدا في تاريخ هذه الديانة، تبرز طائفة المسيحيين (الأبيونيين) حيث ان لهذه الطائفة حضور منذ نشأة الديانة المسيحية نفسها، ولهم امتداد وتواصل مع رسل وتلاميذ المسيح.
المسيحيون الأبيونيون هم الطائفة التي مثلت اليهود الذين آمنوا بيسوع المسيح وصدقوا دعوته، وجاءت تسميتهم بهذا الاسم، والذي يعني الفقراء او المساكين، لان غالبيتهم من الطبقات اليهودية الفقيرة والمعدمة، ويبدو أنهم كانوا مرتاحين لهذا التسمية لانهم كانوا يعتقدون أنهم مشمولين بمباركة وتطويب يسوع المسيح في قوله الشهير:
(طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السماوات)
ورغم ان المسيحية الابيونية تعتبر هي الاقرب للمسيحية الاصلية، من ناحية الزمان وكذلك الجغرافية، لأنها نشأت في فلسطين، الموطن الذي كان يتواجد فيه يسوع الناصري، وبين قومه اليهود، الذين كانت دعوته تهدف الى إصلاح وضعهم، رغم ذلك، يقر الباحثون في تاريخ المسيحية وتطورها، بعدم وصول أي من كتابات هذه الطائفة الينا، بحيث بقيت معظم المعلومات عنهم مستقاة من كتب خصومهم الذين كانوا يعتبرونهم من الهراطقة، ومنحرفين عن الطريق القويم!
تعتبر كتابات ايرينيوس (180 ميلادي) من اقدم واهم المصادر حول الأبيونيين، وتليها كتابات ابيفانيوس(340م) وهناك مصادر مسيحية اخرى ذكرتهم، وقد احتوت تلك المصادر على بعض المقتطفات من افكار وعقائد الابيونيين.
المعتقد:
يعتقد المسيحيون الأبيونيون بمسيحانية يسوع الناصري، ويعتبرونه المسيح المخلص الذي أرسله الرب لخلاص الشعب اليهودي، وفداء ذنوب اليهود من خلال تقديم نفسه ذبيحة فداء على الصليب، وبنفس الوقت، كانوا يعتقدون ان يسوع المسيح هو بشر عادي، مولود بولادة طبيعية لأبويه (مريم ويوسف النجار) ولكن الرب قرر ان يتبناه، فاختاره الرب ابنا بالتبني في وقت تعميد يسوع الناصري على يد يوحنا المعمدان، حيث انفتحت السماء في وقتها، وظهر الروح القدس، وتكلم الرب من السماء قائلا (انت ابني انا اليوم ولدتك) حسب ما تنبأت به المزامير كما يعتقد الأبيونيون.
وقد جاء اختيار الرب ليسوع ابنا له بالتبني، لأنه وجده قادرا على تحمل المسؤولية العظيمة، بافتداء خطايا شعبه، وتقديم نفسه للموت، وتحمل عذاباته، لذلك قرر الرب ان يجازي يسوع، من خلال اقامته من الموت بعد 3 ايام ورفعه للسماء.
وهنا لابد من الاشارة الى ان الاقوام القديمة، كانت تعتبر الابن بالتبني أفضل واقرب منزلة الى الاب من الابن البيولوجي!
لان ابن التبني هو من اختيار الأب، لما قد يجده في الذي يتبناه من مواصفات وطبائع نبيلة او عظيمة، على العكس من ابن النسب، الذي ليس بالضرورة ان تكون شمائله كما يحب الاب!!…لذلك نرى في التراث الروماني مثلا، ان الابن المقرب الى يوليوس قيصر والذي جعله وريثه على العرش هو أغسطس، حيث كان مقدما على تيودرس ابن يوليوس بالنسب ومن هنا نستطيع ان نفهم فكرة الابيونيين القائمة على اعتقادهم ببنوة يسوع المسيح للرب بالتبني!
والتي اعطت يسوع المسيح منزلة عالية جدا عند الرب فاقت درجات كل البشر وحتى الملائكة، مع إصرار الأبيونيين على الاعتقاد ببشرية يسوع، ونفي كل صفات الالوهية او الازلية عنه، فهم لا يعتبرونه الكلمة ولا الروح، وانما انسان طبيعي.
واعتقد الأبيونيون بضرورة الالتزام التام بتعاليم الشريعة اليهودية (الناموس) حيث ان يسوع المسيح لم يأت لينقض الناموس، وإنما جاء ليكمله، لذلك كان الأبيونيون ملتزمون بحرمة يوم السبت وبالختان، والتقييد من ناحية الطعام والذبائح.
ولذلك، كان الابيونيون يعتقدون، ان كل شخص غير يهودي، اذا أراد ان يعتنق المسيحية، فعليه ان يختتن اولا، وان يلتزم بشريعة اليهود ومن ثم يؤمن بمسيحانية يسوع الناصري لكي ينال الخلاص!
اختلاف الأبيونيين عن اليهود:
بالرغم من ان الأبيونيين هم في الأصل من اليهود، الا أنهم اختلفوا عن بقية بني قومهم في عدة امور، واهمها انهم كانوا يعتقدون ان يسوع الناصري هو المسيح المخلص لليهود والفادي لخطاياهم، في حين اعتبره بقية اليهود مسيحا كاذبا!
وكذلك اختلف الأبيونيون عن اليهود الآخرين، في موضوع التضحية بالقرابين، حيث توقف الابيونيون عن تقديم الاضاحي، لانهم اعتقدوا ان الاضحية الكبرى قد تم تقديمها من خلال صلب المسيح، وتم بذلك الفداء، ولا داعي لتقديم أضاحي للمعبد.
اختلاف الأبيونيين عن بقية المسيحيين:
اختلف المسيحيون الأبيونيون عن بقية الفرق المسيحية، في إصرارهم على الحفاظ على هويتهم اليهودية والالتزام بتعاليم الشريعة، وكذلك اختلفوا عنهم لأنهم لم يؤمنوا بموضوع ولادة المسيح العذرية، ولا بأزليته او لاهوته. فقد كانوا مسيحيون موحدون، ولم يؤمنوا بعقيدة التثليث.
إنجيل الأبيونيين:
يقول المؤرخون ان الابيونيين كان لديهم انجيل معتمد يسمى بإنجيل (الناصريين) او إنجيل الأبيونيين، ويشير الباحثون المتخصصون في تاريخ المسيحية الى ان هذا الانجيل هو عبارة عن النسخة الارامية لإنجيل (متى) محذوفا منه اول اصحاحين، وهما الاصحاحين اللذين تطرقا الى ذكر ولادة يسوع الناصري.
كان المسيحيون الأبيونيون يتبعون تعاليم (يعقوب البار) والملقب بيعقوب أخو الرب، والذي يعتقد انه اخ يسوع الناصري وهو الذي تولى منصب أول أسقف لكنيسة أورشليم بعد رحيل أخيه يسوع.
في نفس الوقت، كان الابيونيون ينظرون الى شاؤول الطرسوسي (بولس) على أنه منحرف، ويرون دعوته ضالة ومخادعة، وقد كان هناك سجالات وتحرشات بينهم وبين شاؤول، مع اتهامات متبادلة بالانحراف والهرطقة!
عوامل اندثار الأبيونيين:
رغم ان المسيحيين الأبيونيين، كانوا هم الفرقة المسيحية الاقرب الى الاصل، وأنهم جاؤوا من نفس البيئة الاجتماعية الحاضنة ليسوع الناصري، الذي كان راباي يهودي، مؤمن بشريعة اليهود، وداعيا للإصلاح في المجتمع اليهودي، وإقامة فهم جديد لتعاليم التوراة وأسفار التاناخ، ورغم ان الأبيونيين كانوا متواصلين مع تلاميذ المسيح وبقية الرسل، ويمثلون البيئة التي انطلقت منها دعوة المسيح، الا انه لم يكتب لهذه الفرقة المسيحية البقاء طويلا في مسيرة الصراع مع باقي الفرق الاخرى، وقد تقلص تأثير الابيونية تدريجيا مع نهاية القرن الأول، حتى كاد اثرهم ان يختفي تماما بحلول القرن الرابع.
عوامل اندثار الأبيونيين
والعوامل التي أدت الى اندثار هذه الطائفة المسيحية عديدة، من أهمها:
تمسك هذه الطائفة، بتعاليم الشريعة اليهودية الصارمة، وتمسكهم بضرورة ان يلتزم كل مسيحي من غير اليهود بها فإذا اراد شخص من الوثنيين مثلا، اعتناق المسيحية، عليه اولا ان يختتن مثل اليهود، وان يلتزم بقوانين شريعتهم!
ان هذا الامر، تسبب في عزوف الراغبين في اعتناق المسيحية عن الانضمام لهذه الطائفة، خصوصا ان الفرقة المنافسة الاخرى، والتي كانت تتبع تعاليم شاؤول الطرسوسي (بولس) كانت لاتشترط مثل هذه الامور، ويكفي الشخص الراغب باعتناق المسيحية، ان يقبل المسيح مخلصا، وبذلك يكون قد نال الخلاص، بالإيمان فقط، دون الحاجة لأعمال الناموس.
ومن العوامل الأخرى، التي تسببت باندثارهم، هو تقوقعهم الجغرافي في منطقة فلسطين وما جاورها، مع محدودية دعوتهم وانحصارها على الناطقين بالعبرية (اليهود)، بينما كانت الدعوة المنافسة لهم، تمتاز بالعمل الدعوي النشط، والممتد الى ارجاء عديدة من الامبراطورية الرومانية، وكانت متوجهة لكل شرائح المجتمع في الامبراطورية، وخصوصا الوثنيين او متعددي الالهة، وتخاطبهم باللغة اليونانية التي يفهمونها، لذلك كان الإقبال أكبر وأوسع على دعوة (بولس) النشطة، وخصوصا من قبل المجتمعات الوثنية التي وجدت في عقيدة التثليث امتداد طبيعي لعقائدهم القائمة على تعدد الالهة!
واعتقد كذلك، ان احد اسباب اندثار المسيحيين الأبيونيين، هو الكارثة التي حلت بيهود فلسطين في عام 70 ميلادية حين قامت ثورة اليهود ضد الرومان، وما تبعها من مجازر بشعة طالت اليهود، وتسببت بقتل حوالي مليون انسان، واسر مئات الالاف واستعبادهم، وهروب الذين تبقوا من اليهود وتشتتهم في البلدان بعد فشل ثورتهم وخراب هيكلهم هذه الظروف الكارثية التي حلت باليهود، تسببت في فناء اغلب الابيونيين، و اما من هرب منهم خارج فلسطين، فقد بقي يعيش في ظروف اقتصادية بائسة جدا بسبب الهجرة والتشتت، مما أدى الى اضمحلال هذه الدعوة تدريجيا، حتى اختفت بشكل شبه تام لاحقا.
الأبيونية والاسلام:
ختاما، أود الإشارة الى جزئية تتعلق بالبحث حول المسيحيين الأبيونيين، وهي محاولة بعض الكتاب المعاصرين الربط بين الأبيونيين وبين الدين الإسلامي، والإيحاء بأن الإسلام اقتبس نظرته عن النبي (عيسى) من عقيدة الأبيونيين بيسوع المسيح!
وهذه المحاولة، وان كانت ساذجة وكاشفة لهزالة هكذا طروحات، الا أنها تدل أيضا على انتقائية متعمدة ومعيبة!
فقد اعتمد أصحاب هذا الطرح على وجود تقاطع في بعض جزئيات الاعتقاد بين الأبيونيين والاسلام وخصوصا في النظرة الى يسوع المسيح كانسان، وعدم تأليهه، وكذلك اشتراكهم في التأكيد على عقيدة التوحيد وبسبب وجود هذا الاشتراك بين العقيدتين، خرج علينا هؤلاء المتفذلكين، بالقول، ان الإسلام أخذ من الأبيونيين!
وهذا الرأي، رغم انه مضحك، لكنه يكشف اما عن خيانة علمية لا تليق بالباحثين، او عن جهل وسطحية مخلة فالابيونيين، لا يعتقدون بولادة المسيح العذرية، كما يعتقد الإسلام، وكذلك يختلف الأبيونيين عن الاسلام، في اعتقادهم بصلب المسيح، وقيامته، في حين ينفي الاسلام ذلك، والذي يختلف كذلك عنهم بعدم اعترافه بموضوع الخلاص والكفارة، ورفضه القاطع لفكرة البنوة لله بجميع اشكالها، في حين يختلف الابيونيين معه باعتقادهم تبني الرب ليسوع!!
كل هذه الاختلافات بين عقيدة الإسلام ومعتقد الأبيونيين، تعمد هؤلاء الانتقائيين اهمالها، لغرض خلط الأوراق وتضليل القارئ وخداعه، ليجعلوه يتقبل فكرتهم البائسة والمضحكة والتي تريد الربط بين الإسلام وبين عقيدة اختفت قبل ثلاث قرون من ظهوره، ولم يكن لها، اصلا، وجود في منطقة الجزيرة العربية حيث نشأ الإسلام، وإنما كان وجودها في القرن الميلادي الاول، وكذلك الثاني، منحصرا على منطقة فلسطين والمناطق المجاورة لها!!
ان هكذا باحثين انتقائيين يصدق عليهم المثل العراقي الطريف، بأنهم يحسبون (كل مدعبل.. جوز!!)
اضف تعليق