لم تمض خمس سنوات على استشهاد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى لاحت تباشير الصوت المدوي الذي أطلقه بوجه الأمويين بثورة أخرى كانت امتدادا لها وجذوة من أوارها، لقد قتل زيد وقطع رأسه وصلب ولكن ثورته بقي صداها يدوّي في النفوس والقلوب يلهمها معاني الحرية والكرامة والإباء ويؤلبها على الظالمين والمستكبرين.
لم يستطع الأمويون إسكات الصوت الهادر للخط الثوري العلوي بقتلهم زيداً، فقد انبجست منه عين لتروي نهجه وتحيي منهجه، واتّقدت من ثورته شعلة متوهِّجة بدمه, تلك هي ثورة ابنه الشهيد يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) سليل الإباء وحفيد سيد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين.
لقد سجل هذا الثائر العلوي أروع صفحات المجد وكتب اسمه من نور في سجل الخالدين، وسيبقى ذكره على امتداد رقعة التاريخ، يمدّ الأجيال والأحقاب بأسمى معاني الإباء والكرامة والحرية...،
شهيد الجوزجان المدينة التي تشرّفت به, وارتفع ذكرها بجسده الطاهر, ستبقى خالدة باسمه، مقترنة ببطولاته وشجاعته حتى صارت سيرته تأريخها المقدّس بأريج النبوة, وثورته يومها المطرّز بالمجد, واستشهاده رمزها المكلّل بدماء الشهادة, حتى اطلقت اسمه على كل مولود ولد فيها ...
يحيى .... فرع الدوحة المحمدية، المتسلسل من النبعة العلوية الصافية، شبل من أشبال الزهراء، وريث صفات العقيدة الخالصة والإباء والإقدام عن آبائه معدن البطولة والفداء، قارع الباطل والكفر بنفسٍ أبية, وأحيا الحق بدمه, وقدم نفسه فداءً لعقيدته.
نَفَس الثورة المعطاء
روى ابن عنبة في عمدة الطالب (ص257): (لما صرع زيد بن علي بشّره ابنه يحيى بالجنة ومرافقة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام), فقال له زيد: أجل يا بني ولكن ماذا تريد أن تصنع بعدي ؟ فقال يحيى: أقاتلهم والله ولو لم أجد إلا نفسي. فقال زيد: افعل يا بني إنك على الحق وإنهم على الباطل وإن قتلاك في الجنة وقتلاهم في النار.
ورثى يحيى أباه بقوله:
خليليَّ عنِّي بالمدينةِ بلِّغا *** بني هاشمٍ أهل النهى والتجاربِ
فحتى متى لا تطلبون بثأرِكم *** أمية إن الدهرَ جمُّ العجائبِ
لقد أرعب هذا الشبل العلوي الجبروت الأموي, وأرهق طغيان ولاته حيث وجدوا فيه الجبل الأشم الذي لا تزعزعه الرياح ولا تثنيه الأعاصير, هذا الشاب الذي لم يتخط العقد الثاني من عمره زعزع كيان الدولة الأموية, وأقلق بلاطهم وأقض مضاجعهم.
يحيى بن زيد
يحيى بن زيد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كنيته (أبو طالب), اشتهر بـ (شهيد الجوزجان), ولد عام (107هـ), واستشهد سنة (125هـ), وكان له من العمر (18) سنة, أما أمه فهي السيدة الطاهرة: ريطة بنت عبدالله بن محمد بن الحنفية التي كانت سيدة جليلة من سيدات بني هاشم ومن راويات الحديث روت عن أبيها وزوجها وقد وصفها النسابة ابن الصوفي في (المجدي في أنساب الطالبيين ص429): (إنها من ذوات الشأن من نساء بني هاشم).
زوجته وذريته
تزوج يحيى من ابنة عمه محبة بنت عمر بن علي بن الحسين (عليه السلام), أما ذريته فقد اختلف المؤرخون كثيراً في ذلك فقد قيل بأنه لم يعقب في حين أن حمد الله المستوفي يذكر في كتابه (نزهة القلوب): بأن له ولد اسمه عبد الله. وقال ابن جبير في رحلته (ص20): بأن له بنت اسمها زينب. وقيل إن زينب هذه هي بنت يحيى بن زيد بن الإمام الحسن المجتبى, فحصل الاشتباه بينه وبين يحيى بن زيد بن الإمام زين العابدين (عليه السلام), وكذلك حصل الاشتباه بينه وبين ابن أخيه يحيى بن الحسين بن زيد, وذكر السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه (زيد الشهيد): بأن ليحيى ولد اسمه الحسين. وأضاف آخرون إلى الحسين أحمد وبنت أخرى غير زينب ماتت وهي رضيعة. ويبدو أن كثرة الاشتباه بينه وبين الأسماء التي ذكرناها أدى إلى هذا الاشتباه لدى المؤرخين في القول, لكن القول الجزم في ذلك هو أنه لا يوجد له عقب أصلا.
أخوته
وكان له من الأخوة ثلاثة ــ أولاد زيد ــ أكبرهم يحيى الذي اشترك مع أبيه في ثورته وكان له من العمر عندما استشهد أبوه زيد سنة (120هـ) (13) سنة أما الثلاثة الآخرون فهم:
1ـ الحسين بن زيد الملقب بـ (ذي الدمعة) كان سيداً عابداً زاهداً ولقب بذي الدمعة لكثرة بكائه في آناء الليل وفي صلاة الليل، ولقب بالمكفوف أيضاً لأنّه عُمي في آخر عمره. كنيته أبو عبد اللّه وكان عمره عندما استشهد أبوه أربع سنين, وهذا يعني أنه ولد سنة (116هـ)، فرباه الإمام الصادق (عليه السلام) وأسكنه في بيته وعلّمه العلوم والآداب والسنن وزوّجه بنت محمد بن الأرقط بن عبد اللّه الباهر بن الامام علي زين العابدين (عليهما السلام). قال عنه تاج الدين بن زهرة في ذكر بيت زيد الشهيد :ومن أعاظمهم الحسين ذو الدمعة والعبرة، وهو سيد جليل القدر، شيخ أهله وكريم قومه ومن رجال بني هاشم من حيث البيان والعلم والزهد والفضل والاحاطة بالأنساب وأيام الناس، وهو يروي عن الصادق (عليه السلام), وقد شهد الحسين بن زيد حرب محمد وإبراهيم بني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن فلما قتلا توارى عن الأنظار ولكن بقي ألم وحرقة استشهاد أبيه وأخيه في نفسه حتى آخر حياته وكان دائم الذكر لهما فقالت له زوجته: ما أكثر بكاؤك؟ فقال: وهل ترك السهمان والنار سروراً يمنعني من البكاء، يعني السهمين اللذين قتل بهما أبوه زيد وأخوه يحيى. توفي الحسين في الكوفة سنة (134هـ).
2 ـ عيسى الملقب بـ (مؤتم الأشبال), وكُني أبا يحيى, ولد سنة (119هـ). وكان عمره يوم استشهد أبوه سنة واحدة، وهو من أصحاب الإمام الصادق (عليه السّلام) وتعلم على يديه السنن. وصف بأنه: (كان أفضل مَن بقي من أهله ديناً وورعاً وزهداً مع عِلم كثير ورواية للحديث). قال عنه الحسين (صاحب فخ): (لم يكن فينا خير من عيسى بن زيد), خروج ثائراً مع ذي محمد ذي النفس الزكية وشارك في ثورته مشاركة فعالة فكان على ميمنة جيشه وصاحب رايته, ثم خرج مع إبراهيم قتيل باخمرى وكان صاحب رايته أيضاً, ولما قُتل إبراهم توارى عيسى عن الأنظار في دار الحسن بن صالح بن حي وهو من علماء الشيعة في الكوفة والذي زوجه ابنته وبقي عيسى متخفياً طيلة أيام المنصور والمهدي والهادي حتى توفي سنة (196هـ).
3 ـ محمد بن زيد ولد في السنة التي استشهد فيها أبوه وكان له من العمر حينذاك أربعون يوماً وكان سيداً جليلاً بليغاً من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم والرضا (عليهم السلام) وهو أحد الرجال الخمسة عشر من كبار العلويين الذين أشهدهم الإمام الكاظم على إمامة الإمام الرضا، ولم يسلم محمد كآبائه وإخوانه من جور العباسيين وظلمهم فسجن أيام المنصور وأيام المهدي، وقتل مسموما أيام المأمون ودفن في البقيع.
يحيى السائر على نهج أهل البيت
كان يحيى معترفاً بإمامة الإمام الصادق والأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) كأبيه الشهيد زيد وكان يقول بقوله: أربعة مضوا وثمانية قادمون, ويدلنا قوله (رضوان الله عليه) لمن سأله عن موقفه وموقف أبيه منهم على إيمانه العميق بهم وولائه لهم وإقراره بإمامتهم (صلوات الله عليهم) حين سُئل: يا ابن رسول الله أهم أعلم أم أنتم ؟
فقال: كلّنا له علم غير أنّهم يعلمون كلّ ما نعلم ولا نعلم كلّ ما يعلمون.
كما قال بذلك علماء الإمامية ومنهم: الشيخ المامقاني الذي قال في تنقيح المقال (ج3، ص:316): (أنه ــ أي يحيى ــ كان إمامي المذهب). وقال العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه: (نظرة في كتاب السنة والشيعة) (ج1 ص21): (إنه كان يؤمن بإمامة الإمام الصادق (عليه السلام), وحين وصل نبأ شهادة يحيى إلى الإمام الصادق بكى وترحم عليه), كما وثقه الطوسي وعدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).
ويذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار (ج46ص200) رواية عن المتوكل بن هارون تؤكد بشكل قاطع التزام يحيى واعترافه وطاعته لأئمته المعصومين (عليهم السلام) وإنه خرج على الأمويين للدعوة إلى الرضا من آل محمد وكان ــ كأبيه ــ يقصد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) تقول الرواية عن المتوكل: (لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه وهو متوجّه إلى خراسان، فما رأيت مثله رجلاً في عقله وفضله فسألته عن أبيه، فقال: إنه قتل وصلب بالكناسة، ثم بكى وبكيت حتى غشي عليه، فلما سكن قلت له: يا ابن رسول الله وما الذي أخرجه إلى قتال هذا الطاغي وقد علم من أهل الكوفة ما علم ؟ فقال: نعم لقد سألته عن ذلك، فقال: سمعت أبي (عليه السلام) يحدث عن أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يقتل شهيداً، فإذا كان يوم القيامة يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس، ويدخل الجنة، فأحببت أن أكون كما وصفني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال ــ أي يحيى ــ: رحم الله أبي زيداً، كان والله أحد المتعبدين، قائم ليله صائم نهاره، يجاهد في سبيل الله عز وجل حق جهاده. فقلت: يا ابن رسول الله هكذا يكون الإمام بهذه الصفة ؟ فقال: يا عبد الله إن أبي لم يكن بإمام، ولكن من سادات الكرام وزهادهم، وكان من المجاهدين في سبيل الله، قلت: يا ابن رسول الله أما إن أباك قد ادعى الإمامة، وخرج مجاهداً في سبيل الله، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن ادعى الإمامة كاذباً فقال: مه يا عبد الله إن أبي عليه السلام كان أعقل من أن يدعي ما ليس له بحق وإنما قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، عنى بذلك عمي جعفرا قلت: فهو اليوم صاحب الامر ؟ قال: نعم هو أفقه بني هاشم.....)
كربلاء
بعد استشهاد زيد بن علي في الكوفة خرج يحيى مع عشرة أشخاص من أصحاب أبيه من الكوفة خفية. وذكر أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (ص99): (إن زيد بن علي لما قتل ودفنه ابنه يحيى...), ومن المعروف أن زيداً صُلب وأحرق ولعل دفنه هذا قبل أن يُعثر على قبره وينبش, فقد دفنه يحيى تحت نهر وأجرى عليه الماء بعد أن أوقفوا الماء لكن أحد عيون بني أمية رآهم وفشا أمرهم فأوقفوا النهر واستخرجوا جثته.
وتفيد هذه الرواية أن يحيى بقي مع أبيه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة فلما دفنه رحل عنه وأقام بمكان يسمى (جبانة السبيع) وهو قريب من الكوفة, وقد بقي معه عشرة أشخاص فقط من أصحاب أبيه المخلصين منهم: سلمة بن ثابت, وأبو الصبار العبدي وتفرق عنه الباقون, ثم تهيّأ للرحيل فقال له سلمة: إلى أين؟ فقال أريد النهرين. فقيل له: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتى تقتل. لكن يحيى لم يكن يريد النهر, بل أراد شيئاً آخر. كان يريد أن يمارس طقوس الثورة قبل إعلانها, كان يريد أن يضفي على ثورته هالة الإباء والكبرياء وهي تبدد ظلام الطواغيت والجبابرة والمتسلطين, كان يريد أن يشرق من ثورته فجر مصطبغ بالدم ليشع على الحرية الحمراء بمعنى الكرامة, كان يريد أن يستلهم من جده سيد الشهداء معنى الشهادة. فقال: أريد نهري كربلاء والتي عناهما دعبل الخزاعي بقوله:
نفوس لدى النهرين من أرض كربلا *** معرسهم فيها بشط فرات
فقال له سلمة: فالنجاء قبل الصبح. فخرجوا فلما جاوزا البيوت سمعوا أذان الصبح فغذوا السير حتى وصلوا كربلاء فتنشقوا رائحة الشهادة من ثرى الطف وبعد أن زاروا قبر الإمام الحسين (عليه السلام), ساروا متخفّين حتى وصلوا نينوى, وكانوا يستطعمون أهل المزارع فيطعمونهم يقول سلمة: فكلما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعمونني الأرغفة فأطعمه إياها وأصحابي حتى أتينا نينوى. ومن نينوى ساروا إلى المدائن وهي في ذلك الوقت طريق خراسان.
سرخس
سمع يوسف بن عمر الوالي الأموي بخبر يحيى في المدائن فأرسل جيشاً لقتاله بقيادة حريث بن أبي جهم الكلبي, لكن يحيى خرج مسرعاً من المدائن وبقي يسير مع أصحابه حتى وصلوا خراسان ــ بعد مشاورات مع أصحابه ــ لأنه سيجد فيها شيعته وشيعة أبيه ومن ينصره, وعبروا إلى الري فسرخس وفيها نزلوا ضيوفاً عند يزيد بن عمرو التيمي, وظلوا عنده لمدة ستة أشهر, وفيها جاءه جماعة من الخوارج وطلبوا منه أن يخرج بهم لقتال بني أمية ووجد من إصرارهم على القتال ما يشجعه على موافقتهم, لكن يزيد بن عمرو نهاه وقال له: كيف تقاتل بقوم تريد أن تستظهر بهم على بني أمية وهم يبرأون من جدك علي وأهل بيته؟ فوافق يحيى على كلامه ورفض طلبهم وردهم رداً جميلاً.
بلخ
لم يطمئن يحيى للإقامة بسرخس فانتقل منها إلى بلخ والتي نزل فيها ضيفاً على الحريش بن عبد الرحمن الشيباني وبقي عنده حتى هلك هشام بن عبد الملك وتولى الخلافة بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك, ولكن يوسف بن عمر لم ينقطع عن ملاحقة يحيى وتتبع أخباره وترصد حركاته, حتى علم بمكانه فكتب إلى نصر بن سيار عامله على خراسان يأمره باعتقال الحريش ويحيى, فكتب نصر بدوره إلى عامله في بلخ عقيل بن معقل الليثي أن يقبض على الحريش فلا يفارقه حتى يموت أو يأتيه بيحيى بن زيد.
باغت عقيل دار الحريش وقبضوا عليه وكان الحريش لما سمع بقدوم عقيل أخفى يحيى وأصحابه فلما أحضره الوالي ضربه ستمائة سوط وقال له: والله لأزهقن نفسك أو تأتيني به فقال الحريش: والله لو كان اسم مكان اختفائه تحت قدمي ما رفعتها عنه فاصنع ما أنت صانع فوجم الوالي أمام هذه الصلابة والبسالة! فلما رأى قريش بن الحريش ــ وقد أحضروه مع أبيه ــ ما صُنع بأبيه وإنه يكاد أن يموت والوالي مصمم على قتله أو إخباره بمكان يحيى, وأن أباه لن يخبر الوالي بمكان يحيى حتى يموت تحت السياط, قال للوالي: لا تقتل أبي وأنا آتيك بيحيى فأرسل معه قوة فدلهم عليه فاعتقلوه ومن معه وكانوا متخفّين في بيت داخل بيت واعتقلوا معهم يزيد بن عمرو ومولى لعبد القيس اسمه الفضل كان قد رافقهم من الكوفة.
أرسل عقيل يحيى وأصحابه إلى نصر بن سيار فوضعهم نصر في السجن وهم مقيدون بالأغلال من أيديهم وأرجلهم وشدد من قيودهم وكتب بخبرهم إلى يوسف بن عمر وكان الوالي عقيل بن معقل الليثي من أقسى الولاة وأكثرهم وحشية حيث سير يحيى وأصحابه إلى نصر بن سيار وهم في حالة يرثى لها فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يهجو الوالي ويصف حال يحيى وأصحابه:
أليسَ بعينِ الله ما تصنعونه *** عشيَّةَ يحيى موثقٌ في السلاسلِ
ألمْ ترَ ليثاً ما الذي حتَّمتْ به *** لها الويلُ في سلطانِها المتزايلِ
لقد كشفتْ للناسِ ليثٌ عن استِها *** أخيراً وصارتْ ضحكةً في القبائلِ
كلابٌ عوتْ لا قدّسَ اللهُ أمرَها *** فجـاءتْ بـصيدٍ لا يُحلُّ لآكـلِ
الشرارة
بقي يحيى ومن معه في سجن ابن سيار حتى يأتي جواب كتاب يوسف بن عمر بأمرهم من الوليد, فجاء الجواب بإطلاق سراحهم, فاستدعى نصر يحيى فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة فقال له يحيى: وهل في أمة محمد فتنة أعظم مما أنتم فيه من سفك الدماء وأخذ ما لستم له بأهل؟ فلم يجبه نصر وطلب منه أن يذهب إلى الشام للقاء الوليد بن يزيد, وكانت شعبية يحيى تزداد يوماً بعد يوم والناس تنتظر خروجه للتبرك بابن رسول الله ومناصرته, حتى قيل إن جماعة من الشيعة طلبوا من الحداد الذي فك القيود التي كانت في يدي يحيى ورجليه أن يبيعها لهم وتنافسوا على شرائها حتى بلغت قيمتها عشرون ألف درهم ففصلها الحداد على شكل قطع صغيرة ووزعها عليهم فصنعوا منها خواتيم يتبركون بها ورمز للدلالة على ولائهم وحبهم له.
لم يذهب يحيى إلى الشام كما أراد نصر بل اتجه إلى سرخس مرة أخرى, ولكن نصر كتب إلى عاملها عبد الله بن قيس بن عباد البكري أن لا يدع يحيى يقيم فيها, كما كتب إلى الحسن بن زيد التميمي عامله على طوس أن لا يترك يحيى يقيم في طوس ساعة واحدة, وأن يرسله إلى عمرو بن زرارة بأبر شهر, فامتثلا لأوامر نصر فلما وصل يحيى إلى أبر شهر أخرجه عمرو بن زرارة إلى بيهق وهي أقصى مدن خراسان, ولكن يحيى رجع إلى أبر شهر ومعه سبعون رجلاً ليعلن ثورته بهم.
الثورة
كتب عمرو بن زرارة إلى نصر بخبر يحيى فأمر نصر أن ينضم عبد الله بن قيس بن عباد البكري عامله على سرخس والحسن بن زيد عامله على طوس تحت قيادته ــ أي عمرو بن زرارة ــ ويسيروا لقتال يحيى.
نظم يحيى أصحابه السبعين رجلاً وهم في أعلى درجات الإيمان واليقين والثبات للقاء العدو واصطدموا بالجيش الأموي في معركة قوية وشرسة قتل فيها عمرو بن زرارة رغم أن الجيش الأموي كان يفوقهم في العدة والعدد بنسبة كبيرة جداً لا تصدق, وخرج يحيى من هذه المعركة بالنصر المظفر وسار مع أصحابه, وقد وصلت أخبار انتصاره إلى البلاد وتناقلها الناس وتهيّب ولاة الأمويين قتاله والدخول معه بمواجهة حيث مرّ بهراة وقطعها ولم يتعرض له الوالي عليها المغلس بن زياد خوفاً منه, وخشي أن يكون مصيره كمصير عمرو بن زرارة, فتركه يمضي إلى أرض الجوزجان, كما لم يتعرض يحيى له, وفي الجوزجان التحق معه بعض أصحابه منهم: أبو العجارم الحنفي والخشخاش الأزدي فقويت شوكته وعظم أمره وأصبح وجوده مصدر قلق يهدد الدولة الأموية برمتها.
الجوزجان وعطر الشهادة
أرسل نصر إلى يحيى جيشاً يضم ثمانية آلاف فارس بقيادة سلم بن أحوز وانضم إليه حماد بن عمر السعدي عامل الجوزجان الذي كان على ميمنة جيش سلم وسورة بن محمد الكندي على ميسرته, أما يحيى فقد عبأ أصحابه كما قاتل بهم عمرو بن زرارة وكان عدد أصحاب يحيى هذه المرة سبعمائة رجل, واندلعت معركة شرسة في قرية اسمها (أرغوي) استمرت ثلاثة أيام بلياليها, وكان القتال يشتد يوماً بعد يوم واستشهد كثيراً من أصحاب يحيى ولم يبق معه سوى خمسين رجلاً, فقال لهم:
أيها الناس أنتم في حل من بيعتي, فمن شاء أن يثبت معي فليثبت, ومن شاء أن يرجع إلى هؤلاء القوم فليفعل, وأما أنا فلست بارحاً من هذا الوقت حتى يقضي الله من أمره ما يشاء.
فقالوا له بأجمعهم: لا والله يا ابن رسول الله لا فارقناك أبداً أو لا يبقى منا أحد.
فقال لهم جزاكم الله خيراً من قوم فلقد قاتلتم ووفيتم.
ثم قال لهم: (إن الأجل يحضره الموت, والموت طالب حثيث, لا يفوته الهارب, ولا يعجزه المقيم, فاقدموا ــ رحمكم الله ــ إلى عدوكم, والحقوا بسلفكم, أقدموا إلى الجنة, فإنه لا شرف أشرف من الشهادة, فإن شرف الموت, قتلٌ في سبيل الله).
كانت هذه الكلمات تقوي من معنويات أصحابه فأحدوا سنان الغضب لله لنيل الشهادة فصالوا على الجيش الأموي صولة رجل واحد فأوقعوا كثيراً من القتلى واشتد القتال حتى استشهد أصحاب يحيى جميعهم (رضوان الله عليهم) وبقي وحده يقاتل وحده والسهام تأتيه من كل جانب, فرماه رجل من موالي عنزة اسمه عيسى بسهم أصاب جبهته فسقط شهيداً (رضوان الله عليه) وجاء سورة بن محمد فوجده قتيلا بين أصحابه فقطع رأسه كعادة الأمويين وولاتهم وصُلب الجسد الشريف على الباب الرئيسية لمدينة الجوزجان وقد ذكر دعبل بن علي الخزاعي في تائيته الشهيرة قبر يحيى وقبور أصحابه الشهداء في الجَوزَجان بقوله:
قـبورٌ بكوفانٍ، وأخرى بطَيبة *** وأخرى بفَخٍّ نالَها صَلَواتي
وأخرى بأرضِ (الجَوزَجانِ) محلّها *** وقبرٌ بباخَمرى لدى القُرُباتِ
كما كان لقتله أثر حزين عند أهل البيت (عليهم السلام) فلما سمع الإمام الصادق (عليه السلام) بمقتل يحيى وصلبه حزن حزناً عظيماً وقال بعد هلاك الوليد: (إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن علي صلوات الله عليه فنزع الله ملكهم، وقتل هشام زيد بن علي فنزع الله ملكه، وقتل الوليد يحيى بن زيد رحمه الله فنزع الله ملكه).
ريطة والرأس الشريف
هذه واحدة من نماذج الأساليب البشعة التي تعود عليها الأمويون في سياستهم الدموية سياسة الرعب والوحشية سياسة الإرهاب والتلذذ بالدماء وقطع الرؤوس وتقديمها إلى ذويها, وقد استعملها معاوية حينما أمر بوضع رأس الشهيد عمرو بن الحمق الخزاعي في حضن زوجته البطلة آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه, واستعملها ابنه اللعين يزيد مع رؤوس الشهداء من أهل بيت النبي في كربلاء وعرضها في مجلسه أمام بنات الوحي والرسالة, وها هي العملية تتكرر مع يحيى فقد أرسل الرأس الشريف إلى نصر بن سيار فأرسله إلى الوليد بن يزيد في الشام فأمر به أن يرسل إلى أمه ريطة في المدينة, وحينما نظرت إليه شهقت وكادت تموت من لوعتها وحرقتها عليه ثم قالت: شردتموه عني طويلاً, وأهديتموه إليَّ قتيلاً, صلوات الله عليه وعلى آبائه بكرة وأصيلاً, وكانت هذه السيدة الجليلة تتلهف لسماع أخبار ولدها ورؤيته حتى قال فيها أبو ثميلة الآبار:
فلعلَّ راحمَ أُمّ موسى والذي *** نجّاهُ من لججٍ خضمٍّ مُزبدِ
سَيُسِرُّ (ريطة) بعدَ حزنِ فؤادِها *** يحيى، ويحيى في الكتائبِ يرتدي
ولم يروِ قتل يحيى وقطع رأسه غليل الأمويين المتعطّش للدماء, فما إن جاء الخبر للوليد بقتل يحيى حتى أمر بإنزال زيد ــ والد يحيى ــ من الجذع المصلوب عليه وإحراقه بالنار ونسفه باليم نسفاً!!
صدى الثورة وعقاب الجناة
كان صدى الثورة واستشهاد يحيى كبيراً وواسعاً في الأوساط الشعبية زاد من سخط الناس على الأمويين وولاتهم وفي تلك السنة لم يولد مولود في الجوزجان وخراسان إلّا وسمي بـ (يحيى) وأصبح اسمه وسيرته واستشهاده حديث الناس, وبقي يحيى مصلوباً حتى دخل خراسان أبو مسلم الخراساني عند اضمحلال نفوذ الأمويين فيها فأقام نسوتها النياحة والبكاء عليه لمدة سبعة أيام, وأمر أبو مسلم الخراساني بإنزال يحيى وتغسيله وتكفينه ودفنه وتولى ذلك ثلاثة من الرجال هم: أبو داود خالد بن إبراهيم البكري, وحازم بن خزيمة, وعيسى بن ماهان وطلب أبو مسلم قتلة يحيى. فقالوا له: عليك بالديوان. فوضعه بين يديه فقتل كل من وجد اسمه من ضمن المتعاونين على قتل يحيى, وجيء بسعد العنزي الذي رمى يحيى بسهم فقتله وسلبه, وسورة بن محمد الذي قطع رأسه فقطع أيديهما وأرجلهما وقتلهما وصلبهما.
اضف تعليق