q

لا تزال كثير من حقائق التأريخ الإسلامي مخفية بسبب السياسات المعادية لأهل البيت (عليهم السلام) التي سعت وجهدت على إظهار ما يوافق مصالحها من أكاذيب وإخفاء ما يصطدم مع أهوائها وتوجهاتها من حقائق، كما لا تزال أقلام كثير من الكتاب واقعة تحت تأثير الأهواء الأموية والدسائس العباسية والأكاذيب الزبيرية، فتعبّدوا بما نقلت إليهم من الروايات الموضوعة في المصادر، واعتمدوها، واعتبروها من المسلمات، دون التأمّل فيها، ودون محاكمة العقل، ومراجعة السند والراوي.

فهذه المؤامرة الثلاثية (الأموية والعباسية والزبيرية) جعلت هدفها الأول والأخير النيل من آل علي وحاولت بشتى الوسائل تهميش وطمس الحقائق التاريخية وتشويه السِّيَر لشخصيات إسلامية عظيمة، وتزويق الماضي الوحشي والمخزي لـ (سلفهم) وخلق التبريرات غير المنطقية واعتماد الروايات الموضوعة لتنزيههم، ونحن نعلم دون شك أن أغلب المؤرخين هم من موالي السلطة، وخاصة في العصر الأموي بالذات، حيث راجت أسواق بيع الذمم، وكثر وضع الروايات المكذوبة، العارية من الصحة، والتي تناقض تماماً الحقائق التاريخية.

ومن يسبر غور تاريخ تلك الفترة وما بعدها يجد أن الحقائق قد طُمست، وأن الأكاذيب قد روّجت ودونت، وأصبحت لدى المؤرخين الذين جاءوا بعد تلك الفترة نصوصاً لا تقبل الشك. فدوّنوها دون تمحيص وتدقيق، أو حتى تأمّل. ولكن الحقيقة مهما طال إخفاؤها ومهما تلاعبت بها اليد الآثمة فإنها ستظهر وتسطع كالشمس.

ومن هذه الأكاذيب والموضوعات التي وضعت في تأريخنا الإسلامي وأريد منها النيل من قداسة بنات الرسول هي رواية زواج فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) من عبد الله بن عمرو بن عثمان وهي رواية موضوعة بلا شك كما أشارت إلى ذلك كل الدلائل التاريخية والعقلية فهي (عليها السلام) لم تتزوج بغير ابن عمها الحسن المثنى ابن الحسن السبط حتى توفيت كما سنوضح في هذا الموضوع.

زواج فاطمة

جاء الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط بن علي بن أبي طالب إلى عمه الإمام الحسين (عليه السلام) وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه، فقال له الإمام الحسين: اختر يا بني أحبهما إليك.. فاستحيى الحسن ولم يرد جواباً. فقال له الحسين: (فإني قد اخترت لك ابنتي فاطمة فهي أكثرهما شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله. أمّا في الدين.. فتقوم الليلَ كلَّه، وتصوم النهار, وأما في الجمال فتشبه الحور العين), فتزوجها الحسن المثنى وقد ولدت له ثلاثة أولاد هم: عبدالله المحض، وإبراهيم الغَمْر، والحسن المثلّث، وبنت اسمها زينب.

شهد الحسن المثنى يوم الطف مع عمه الحسين (عليه السلام) وقاتل معه وأثخن بالجراح ووقع على الأرض مغشياً عليه، ولما أراد جيش ابن سعد قطع الرؤوس وجدوا فيه رمقاً، فقال أسماء بن خارجة بن عيينة الفزاري: دعوه لي فإن وهبه الأمير عبيد الله بن زياد لي وإلا رأى رأيه فيه، فتركوه له وأخذ مع الأسرى محمولاً إلى الكوفة ووصل خبره إلى ابن زياد فقال: دعوا لأبي حسان ابن أخته وعالجه أسماء حتى برئ ثم لحق بأهل البيت في المدينة.

وكان السبب في ذلك أن أم الحسن المثنى كانت من بني فزارة وهي خولة بنت منظور الفزارية، ولكن بني أمية قد آلوا على أنفسهم أن لا يتركوا بيتاً من بيوت العلويين دون أن ينكبوه ولا علوية دون أن يثكلوها أو يرملوها أو ييتموها، فقد دسّ الوليد بن عبد الملك سمّاً للحسن المثنى فمات منه.

وتجددت أحزان كربلاء التي لم تنسَ بعد في قلب فاطمة وتفتقت الجراح التي لم تندمل، فقد آلى القدر عليها فراق أهل بيتها وتوديعهم واحداً واحدا، نظرت فاطمة إلى جنازة زوجها الحسن بْن الحسن ، ثم غطت وجهها ، وقالت:

وكانوا رجاءً ثم أمسوا رزيةً *** لقد عظمت تلك الرزايا وجلت . .

وسلمت أمرها لله...

يد تتوارث الحقد

مات زوجها وابن عمها الحسن المثنى عام (97هـ) ولها من العمر (57) عاماً، وهنا يأتي دور آل الزبير ليزوّروا هذه السيرة الشريفة للسيدة فاطمة ويضعوا لها زواجاً ثانياً يتماهى مع أغراضهم السياسية حيث تناسل الحقد في أصلابهم فروى (الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام): أن فاطمة تزوجت من عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص، وأنها ولدت منه أولاداً منهم محمد, والقاسم، ورقية، بنو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. ومات عنها عبد الله بن عمرو، فأبت أن تتزوج من بعده إلى أن توفيت عام (110هـ) أو عام (117هـ) بالمدينة المنورة وقيل في الشام وقيل في مصر!!.

وإن وجود الزبير في الرواية وحده يؤكد بطلانها إضافة إلى كل الحقائق التاريخية والمنطقية بصدد هذا الموضوع التي تشير إلى أن السيدة فاطمة بنت الحسين تزوجت من ابن عمها الحسن المثنى بن الحسن السبط فقط ولم تتزوج غيره لا قبله ولا بعده, أما رواية زواجها الثاني فهي موضوعة بلا شك، فالراوي كان من الوضّاعين كما أكدت ذلك المصادر، كما كان متهماً في عقيدته، ولكن شاء له الحظ أن يجد من يروج أكاذيبه وأباطيله من هو على شاكلته وهذا الأفاق الآخر هو أبو الفرج الأصفهاني الذي امتلأ كتابه الأغاني بالأباطيل وتلقف روايات آل الزبير ودونها دون تنقيب وتنقيح.

الرواية نفسها تفند الزواج

لعل من أكبر الأدلة التي تنفي هذه الرواية هي الطريقة التي تم بها هذا الزواج الوهمي، فقد وضع هذا الكذّاب في سرد هذه الرواية طريقة تتماهى مع نفسه الدنيئة وأخلاقه الوضيعة، ولاطلاع القارئ على النفسية الخبيثة التي حملها ابن بكار، واستلزاماً للموضوع بإعطاء الصورة الواضحة على زيف هذا الزواج، سنوردها كما ذكرها أبو الفرج في الأغاني ومقاتل الطالبيين (ص202) وهي كما جاء نصها: (لما حضرت الحسن بن الحسن الوفاة جزع وجعل يقول: إني لأجد كرباً ليس من كرب الموت فقال له بعضهم: ما هذا الجزع تقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين وهم آباؤك؟

فقال: ما لذلك أجزع ولكني كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان حين أموت قد جاء في مضرجتين أو ممصرتين وقد رجل رأسه يقول: أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي وما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين فإذا مت فلا يدخلن علي.

قال: فصاحت به فاطمة: أتسمع, قال: نعم

قالت: أعتقت كل مملوك لي، وتصدقت بكل مملوك لي، إن أنا تزوجت بعدك أحدا

فسكن الحسن، وما تنفس وما تحرك حتى قضى (رضوان الله عليه)

فلما ارتفع الصياح، أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها الحسن فقال بعض القوم: ندخله وقال بعضهم لا ندخله، وقال قوم: وما يضر من دخوله؟

فدخل وفاطمة رضوان الله عليها تصك وجهها، وتلطم فأرسل إليها وصيفاً كان معه فجاء فتخطى الناس حتى دنا منها، فقال لها: يقول لك مولاي اتقي على وجهك، فإن لنا فيه إربا ــ أي حاجة ــ فارفقي به فعرف فيها الاسترخاء وخمرت وجهها.

ويواصل ابو الفرج نشر أكاذيب الزبير في تشويه سيرة السيدة الطاهرة فاطمة بنت الحسين غير متأثم ولا حتى منتقد لها فيقول:

فأرسلت يدها من كمها وعرف ذلك فيها فما لطمت حتى دفن.

فلما انقضت عدتها، خطبها فقالت: كيف بنذري ويميني

فقال: نخلف عليك بكل عبد عبدين، وبكل شيء شيئين ففعل فتزوجته!!!

ونترك التعليق هنا للقارئ والمقارنة بين شخصية فاطمة العظيمة وما قاله عنها أبوها وبين هذا التصرف وحاشاها منه.

وهناك رواية أخرى من أكاذيب الزبير أيضاً رواها أبو الفرج وهي: (أن فاطمة بنت الحسين لما خطبها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أبت أن تتزوجه فحلفت أمها عليها أن تتزوجه، وقامت في الشمس وآلت ألا تبرح حتى تتزوجه فكرهت فاطمة أن تخرج فتزوجته)

وبعد أن يذكر أبو الفرج هاتين الروايتين المكذوبتين بدون أن تمرا على عقله يقول: (وقد قيل في تزويجه إياها غير هذا....!!!)

وماذا بعد ؟ هلا أتحفتنا بمهازل أخرى تضاف إلى المهازل والطامات الكبرى التي ابتلي بها تأريخنا ؟

سيناريو الكذب

نحن لا تعتب على الزبير الذي كان متهماً في دينه ومتسلسلاً من شجرة خبيثة كل أفرادها كانوا من مبغضي آل النبي ولا على أبي الفرج الأصفهاني الأموي الهوى والنسب والنزعة ولكن عتبنا على من روّج لهذه الروايات الشاذة التي تتعارض مع المنطق والعقل والحقيقة التاريخية ودونها تدوين المسلمات التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها.

فهم يعلمون أن الزبير من الذين لا يختلف اثنان من المؤرخين وغيرهم على كذبه وتدليسه، ووضعه للحديث والرواية، كما لا يختلف اثنان على أنه كان من أشد الناس عداوة لأهل البيت.

والروايات التي ذكرها المؤرخون حول كذبه ووضعه للحديث كثيرة جداً حتى عدّه (أحمد بن علي السليماني) من زمرة من يضعون الحديث في كتابه (الضعفاء)، وليس أدل على هذا الكتاب من اسمه حيث ذكر في ترجمة الزبير بن بكار مجموعة كبيرة من أقوال المؤرخين في كذبه وتدليسه، كما وصفه السليماني بأنه ــــ أي الزبير بن بكار ــــــ (منكر الحديث).

ولم تقتصر حياة هذا الكذّاب على الكذب فقط، بل كان من الذين يبيعون دينهم بدنياهم ـــــ إن كان لهم دين أصلاً ــــ، وممن يتسترون بالدين للحصول على مآربهم فقد كان مرتزقاً بالحديث، ومن وعّاظ السلاطين كما جاء في ترجمته في كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي ما نصه: (كان ـــ أي الزبير بن بكار ــــ قد صنّف كتاباً سمّاه بـ (الموفّقيات) نسبة إلى الموفق طلحة بن المتوكل ولي العهد وفيه ما يناقض مذهبه ويخالف عقيدته الزبيرية). هذا كلام الحموي في ابن بكار، فلا نستبعد من هذا الذي يبيع عقيدته ودينه من أجل المال أن يضع ما شاء من الأحاديث.

الحقيقة تفند الزواج

إن الحقائق التاريخية تفند هذا الزواج وتكشف كذب صاحب روايته فهذا ابن حزم الأندلسي ينفي هذا الزواج والأولاد في (جمهرة أنساب العرب) (ج1ص37) حيث يقول في ترجمة عبد الله بن عمرو إنه لم يكن له أولاد واقتصر نسله على البنات فقال ما نصه: (وكان لعبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان من البنات: حفصة، تزوجها عبد العزيز بن مروان ابن الحكم، فماتت عنده؛ وأم عبد الله، تزوجها الوليد بن عبد الملك، فولدت له عبد الرحمن، ثم مات الوليد عنها؛ فخلف عليها ابن أخيه أيوب بن سليمان بن عبد الملك؛ وعائشة. تزوجها سليمان بن عبد الملك، فولدت له يحيى وعبد الله، وتوفيت عنده؛ وأم سعيد، تزوجها يزيد بن عبد الملك، فولدت له عبد الله، ثم مات يزيد، فخلف عليها أخوه هشام بن عبد الملك، ثم طلقها ولم تلد له، ورقية، تزوجها هشام بن عبد الملك، فولدت له ابنة، وماتت في نفاسها. ولا يعلم رجل تزوج بناته أربعة خلفاء إلا عبد الله بن عمرو بن عثمان هذا).

هذا نص كلام ابن حزم ولو كان عبد الله تزوج فاطمة لما توانى ابن حزم عن ذكر هذا الزواج والأولاد فهواه كما هو معروف يتلاءم تماماً مع هوى الزبير، كما إن فاطمة لم تكن شخصية عادية فهي من بيت النبوة الذين يتمنى كل الناس أن يحصلوا على شرف الانتماء لهم، فلو كان هذا الزواج صحيحاً لذكرها ابن حزم قبل ذكر بنات عبد الله وحتى وإن لم تلد له.

الزواج المستحيل

ولنا أن نسأل من نقل هذه الرواية نقل الواثق المطمئن: ما الذي جعل حفيد عثمان يتزوج من حفيدة علي ولا تزال أحقاد آل أبي العاص على علي منذ يوم بدر وازداد أوار هذا الحقد وبلغ ذروته على أمير المؤمنين وعلى أولاده (عليهم السلام) في يوم الدار وامتد في نسلهم؟ فكيف يتزوج عبد الله حفيدة من قال في جده: (إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ)؟

وقال عن الهبات والعطايا التي وهبها عثمان عندما تسلم الخلافة بعده: (وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ).

وروى ابن عباس قوله (عليه السلام): (إن علياً (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته وقد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق).

قال الكلبي: (ثم أمر (عليه السلام) بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت وأمر بقبض سيفه ودرعه وأمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها . فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها فكتب إلى معاوية ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. فقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان من أمه يذكر قبض علي نجائب عثمان وسيفه وسلاحه:

بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ ابن أختكم *** ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبُه

بني هاشم كيف الهوادةُ بيننا *** وعند عليٍّ درعُه ونجائبُه

بني هاشمٍ كيف التودُّدُ منكم *** وبزّ ابن أروى فيكمُ وحرائبُه

بني هاشمٍ إلا تردّوا فإننا *** سواءٌ علينا قاتلاه وسالبُه

بني هاشمٍ إنا وما كان منكمُ *** كصدعِ الصفا لا يشعبُ الصدعَ شاعبُه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة منها:

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم *** أضيعَ و ألقاه لدى الروعِ صاحبُه

و شبهته كسرى و قد كان مثله *** شبيهاً بكسرى هدبُه وضرائبُه

أي كان كافراً كما كان كسرى كافرا. فكيف يشعب هذا الصدع الكبير الذي جرت عليه دماء الآلاف وأثيرت فيه الفتن منذ أن حمل النعمان بن بشير قميص عثمان وأصابع نائلة ليثير النعرات الجاهلية والفرقة بين المسلمين وليتخذها معاوية ذريعة لدى أهل الشام لحرب أمير المؤمنين (عليه السلام)؟

فاطمة المقدسة

الحديث عن شخصية فاطمة وعظمتها وقداستها وطهرها وعبادتها يحتاج إلى موضوع مطوّل ولكن حسبنا قول أبيها سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة (صلوات الله عليه) فيها (إنها أشبه الناس بأمي فاطمة بنت محمد)، فهل ينطبق هذا القول من الإمام المعصوم في حقها مع الرواية ؟ وكيف وفق من تبنّى هذا الزواج بين القولين ؟ لا أدري كيف تخلف فاطمة بوعدها لزوجها وهي ابنة الوحي والنبوة وتقبل بالزواج ثانية ولا زال زوجها الأول مسجى أمامها ولا يفصلها عن الزواج بعمرو سوى انقضاء العدة !! حاشا فاطمة من ذلك فهل يعقل من فاطمة بنت الحسين التي ضربت المثل الأعلى في العقل والكمال والشرف والدين والعبادة والأخلاق ان تقبل الزواج في الأيام الأولى لوفاة زوجها وهي في العدة وتتزوج بعد العدة وتخالف النذر واليمين ولا تعرف كيف تخرج منها!!

وكيف يدخل عليها غريب وهي في تلك الحالة ؟ أين الإمام زين العابدين أين بنو هاشم !! ثم لنفرض أنها تزوجت من عبد الله بن عمرو كيف تنجب له ثلاثة أولاد وقد بلغت من العمر (57) سنة فإن ولادتها كانت عام (40هـ) وزوجها الحسن مات عام (97هـ)، وقد ذكرت جميع المصادر التاريخية أنها أقامت على قبر زوجها الحسن سنة كاملة تقوم الليل وتصوم النهار وهذا نص البخاري في صحيحه (ج1ص230): حيث قال: (ولما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته فاطمة بنت الحسين القبة على قبره سنة كاملة ثم رفعت....الخ) وروى مثله الشيخ المفيد في الإرشاد (ج2 ص26)، وابن أبي الدنيا في كتاب (الهواتف) (ص92)، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (ج10 ص287)، وعلى فرض زواجها بعد السنة فقد شارفت على الستين وللقارئ أن يتخيل كيف تنجب المرأة في هذا العمر ثلاثة أولاد!!

أما بالنسبة للرواية الثانية التي تقول أن أمها حلفت أن تتزوج عبد الله فهذا بعيد أيضاً ولا يقبله العقل إذ أن فاطمة لم تكن صغيرة ثم أين ذهب عمها محمد بن الحنفية وأخوها زين العابدين؟ كما أن هذا مستبعد أيضا من أمها ــ لو فرضنا جدلاً أن أمها أم إسحاق ــ السيدة أم إسحاق المرأة المؤمنة التي رافقت نساء النبوة في رحلة السبي، ثم هناك ما يقطع هذا الزواج من دابره أصلا وهو العداء الذي استفحل بين الأسرتين بعد معركة الطف وشماتة عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق بمقتل الحسين بعد أن ضجت المدينة كلها بالبكاء على مقتله (عليه السلام) وعمرو هذا هو عم عبد الله فكيف تتزوج فاطمة رجلاً من هذه الشجرة الملعونة في القرآن؟ إذن فهذا الزواج هو وهمي أسطوري صنعته الماكنة الزبيرية للسلطة لأسباب سياسية.

وتستمر الأكاذيب

ولم تكن السيدة فاطمة هي الوحيدة التي حاول الزبيريون تشويه سيرتها بروايات زواج كاذبة عارية عن الصحة فقد نالت أكاذيبهم وأباطيلهم أختها السيدة سكينة (عليها السلام) فوضعوا لها زيجات متعددة رغم أنها لم تتزوّج غير ابن عمّها عبد الله بن الامام الحسن (عليه السلام) فقط، وزواجها بغير ابن عمّها من أكاذيب الزبير بن بكار

كما وضعوا فيها ما وصم به بيتهم من العار باجتماع سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير مع الشاعر عمر بن أبي سلمى وجاريتيها البغوم وأسماء وهما تغنيان لهما، فنسبوا ذلك إلى السيدة الطاهرة المطهرة سكينة بنت الحسين!!!

أجل لقد بلغت الخسة والوضاعة بالزبير أن يدلس ويفتري على أقدس وأطهر بيت في الوجود والذي قال فيه القران الكريم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) ويتعرض له بما يشينه وهو ما جعل بني علي يثورون عليه للإنتقام منه وقطع هذا اللسان القذر كما ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان بقوله: (كان ــــ أي الزبير بن بكار ــــ يضع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ففر من مكة الى بغداد أيام المتوكل).

وقد روى هذا المنافق الكذاب أن سكينة تزوجت ست مرات أحداها كانت من مصعب بن الزبير وأن أم كلثوم تزوجت من عمر بن الخطاب وأن فاطمة تزوجت من عبد الله بن عمرو بن عثمان لكي يلفت الأنظار عن فضيحة سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير كما رواها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني في (ج1 ص165).

وقد فند السيد العلامة المحقق عبد الرزاق المقرم في كتابه (سكينة بنت الحسين) (ص92) هذا الزواج ونسبه إلى أكاذيب الزبيريين فقال ما نصه: (إن رواية زواج مصعب بن عمير بها ــ أي سكينة ــ لا تعدو الزبيريين أنفسهم، فإن رواتها هم: الزبير بن بكار، وابن أخيه مصعب، وعروة بن الزبير.. )

ويقول الكاتب حسين الشاكري في كتابه (العقيلة والفواطم) (ص160) عن هذا الزواج: (وأمّا زواجها بمصعب بن الزبير فلم يثبت من مصادر موثوقة, وهو يعد كغيره من الأمور المدسوسة على السيّدة سكينة التي حاول أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وآل الزبير بالذات نسبتها إلى البيت النبوي لدفع الشبهة عن ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير التي كانت تجتمع مع الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة والمغنيات يغنين لهم).

مهزلة الضحاك

ولا تنتهي مهازل آل الزبير عند هذا الحد فقد وضعوا أكذوبة أخرى في سيرة السيدة فاطمة بنت الحسين وكالعادة رواها المؤرخون والكتاب رواية المسلمات فروى السيوطي في (الدر المنثور) وعمر رضا كحالة في كتابه (أعلام النساء) في ترجمة السيدة فاطمة بنت الحسين هذه الرواية:

(لما مات عنها عبد الله بن عمرو بن عثمان ــ زوج فاطمة المزعوم ــ خطبها عبد الرحمن بن الضحاك الفهري وهو عامل على المدينة فقالت والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه فألح ابن الضحاك في طلبه وقال: والله لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر، يعني عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي في شراب ثُمَّ لأضربنه عَلَى رؤوس الناس، وكان على ديوان المدينة ابن هرمز من أهل الشام فكتب إليه يزيد بن عبد الملك أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان فدخل ابن هرمز على فاطمة بنت الحسين يودعها فقال هل من حاجة ؟ فقالت تخبر يزيد بن عبد الملك بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض مني وبعثت رسولاً ومعه كتاب إلى يزيد معه تخبره وتذكره قرابتها ورحمها وتذكر ما ينال ابن الضحاك منها، وما يتوعدها به فقدم ابن هرمز والرسول معا، فدخل ابن هرمز على يزيد فاستخبره عن المدينة وقال هل كان من مغربة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين فقال الحاجب: أصلح الله الأمير بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فقال ابن هرمز: إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حملتني رسالة إليك وأخبره الخبر فنزل يزيد من على فراشه وقال: لا أم لك ألم أسألك هل من مغربة خبر وهذا عندك لا تخبرنيه فاعتذر بالنسيان ثم أذن للرسول فأدخله، فأخذ الكتاب فقرأه وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي ؟

فقال ابن هرمز: عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري وهو بالطائف فوله المدينة ومره بأمرك ، فدعا يزيد بقرطاس فكتب بيده إلى عبد الواحد النضري:

سلام عليك... أما بعد فإني قد وليتك المدينة فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك واغرمه أربعين ألف دينار وعذبه حتى أسمع صوته وأنا في فراشي) فأخذ البريد الكتاب وقدم به المدينة ولم يدخل على ابن الضحاك وقد أوجست نفس ابن الضحاك خيفة فأرسل إلى البريد فكشف له عن طرف المفرش فإذا ألف دينار فقال: هذه ألف دينار لك ولك العهد والميثاق لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثاً حتى يسير ففعل، ثم خرج ابن الضحاك حتى نزل على مسلمة بن عبد الملك فقال: أنا في جوارك فغدا مسلمة على يزيد فرفعه وذكر حاجة جاءها فقال يزيد: كل حاجة تكلمت فيها هي في يدك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو والله ابن الضحاك فقال: والله لا أعفيه أبداً وقد فعل ما فعل فأغرم النضري ابن الضحاك أربعين ألف دينار وعذبه وطاف به في جبة من صوف)

إلى هنا تنتهي الحكاية التي ينقصها شيء واحد لكي يتم وضعها مع قصص ألف ليلة وليلة وهو أن تختم بما تختم به قصص تلك الليالي (وأدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح) فعلا أن شر البلية ما يضحك!!! وأية بلية أعظم من هذه البلية؟ هل يدرك هؤلاء عمن يتحدثون وبماذا يتقولون؟ وإذا أنكروا هم عقولهم فهل علينا نحن أيضا أن نسير على خطاهم ونحن معصوبي الأعين؟

أن ابن الضحاك الفهري هذا قد تولى المدينة من عام (101هـ) إلى (104هـ) ولو فرضنا جدلاً إنه خطب فاطمة في بداية ولايته فإن عمر فاطمة الشريف قد جاوز الستين عاما، ثم إن ابن حزم ذكر أن يزيد بن عبد الملك تزوج أم سعيد بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان فولدت له عبد الله، ثم مات يزيد، فتزوجها أخوه هشام بن عبد الملك فلو كان عبد الله تزوج حقيقة فاطمة بنت الحسين فكيف يجرؤ ابن الضحاك على خطبة عمة الخليفة؟ بل ويهددها ؟ وولاة الأمويين أعرف الناس ببطش حكامهم وسطوتهم وقسوتهم؟ وإن خطر على بال معترض وحاول أن يبدي احتمالا بأن أم سعيد بنت عبد الله ليست من فاطمة فلا يغير ذلك من الأمر أهمية ففاطمة إذا افترضنا الزواج تبقى زوجة عم الخليفة.

ثم لا أدري أين هم بنو هاشم من هذا التهديد والوعيد من قبل ابن الضحاك لكي يتركوا فاطمة ترسل رسولاً إلى يزيد بن عبد الملك وهم لا يعلمون ؟ أين الإمام زين العابدين والباقر وبنو هاشم من كل هذه الأمور ؟ وكيف ينسى ابن هرمز طلب فاطمة وقد رافق رسولها من المدينة إلى الشام؟ وكيف يخون رسول البريد الخليفة؟ بل لا يعرف ما في البريد فيتوجه إلى ابن الضحاك ويطلعه على كناب الخليفة وكيف ..... كل ذلك ينفي هذا الزواج والخطبة من أساسهما ويثير شعوراً لدى القارئ بالهمس مع نفسه: قاتل الله الزبير ولعنه.

أولادها

عبد الله المحض: سمِّي بالمحض لأنه اجتمعت عليه ولادة الحسن والحسين وكان يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو شيخ بني هاشم في عصره و كان يتولى صدقات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . وقيل له: بم صرتم أفضل الناس؟ فقال: لأن الناس كلهم يتمنون أن يكونوا منا ولا نتمنى أن نكون من أحد.

وكان نهاية هذا العلوي وأخويه على يد المنصور الدوانيقي، فلما حج المنصور أيام ولايته سنة (145هـ) ودخل المدينة جمع بني الحسن فكانوا أكثر من عشرين رجلاً منهم أولاد السيدة فاطمة عبد الله المحض، والحسن المثلث، وإبراهيم الغمر وقيدهم بالحديد وقال لعبد الله المحض: اين الفاسقان الكذابان ــ يعني ولديه محمد وابراهيم ــ قال: لا علم لي بهما، فاسمعه كلاماً بذيئاً ثم أوقفه وأخوته وعامة بني الحسن في الشمس مكشوفة رؤوسهم وركب هو في محمل مغطى فناداه عبد الله المحض: أهكذا فعلنا بكم يوم بدر يشير إلى صنع النبي (صلى الله عليه وآله) بالعباس حين بات يئن، قيل له: ما لك يا رسول الله لا تنام، قال: كيف أنام و أنا أسمع أنين عمي العباس في الوثاق.

وكانت طفلة لعبد الله المحض اسمها فاطمة قد وقفت على الطريق لما مر محمل المنصور ومعه الأسرى من بني الحسن فالتفت اليها المنصور فأنشأت تقول:

ارحم كبيراً سنه متهدما *** في السجنِ بين سلاسلٍ وقيودِ

إن جُدتَ بالرحمِ القريبةِ بيننا *** ما جدّنا مـن جدّكم ببـيعدِ

فلم يلتفت المنصور إليها، ويرسم الشاعر ابن أبي زناد السعدي صورة مبكية لذلك المشهد الأليم وهو ينظر إلى أكثر من عشرين علوياً من أبناء فاطمة الزهراء وهم مكبلون بالسلاسل مكشوفي الرأس تحت لهيب الشمس وهم يساقون إلى الموت ويرفعون أيديهم رغم ثقل الحديد لتوديع أصحابهم وأهل بيتهم فيقول:

من لنفسٍ كثيرةِ الإشفاقِ *** ولعينٍ كثيرةِ الإطراقِ

لفراقِ الذينَ راحوا إلى الموتِ *** عياناً والموتُ مرُّ المذاقِ

ثم ظلوا يسلمونَ علينا *** بأكفٍ مشدودةٍ في الوثاقِ

وجاء المنصور ببني الحسن إلى الهاشمية وحبسهم في محبس تحت الأرض فكانوا لا يعرفون ليلاً ولا نهاراً، ومن أجل معرفة أوقات الصلاة فإنهم جزؤوا القرآن وعند انتهاء كل جزء يصلون وقتاً من الأوقات ثم ردم المنصور عليهم السجن فماتوا!

اضف تعليق