(أحد أبطال الإسلام) كما وصفه الذهبي في تاريخ الإسلام، خاض غمار الحروب الصليبية، وقاد الجيوش للدفاع عن بلاد الإسلام بعزيمة أمضى من السيف، فأذهل شجعان الروم، وانتزع الثناء من أفواه القادة والأمراء، وسطّر أمجاده وبطولاته في صحف التاريخ، وترك بعده أثراً لا يمحى وجذوة لا تخمد.
فارس وضع بصمة الشجاعة والبسالة في تواريخ الإفرنج والعرب معاً، عاش قرابة القرن، فترك في مسامع الدنيا دويَّاً كما يقول المتنبي:
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما *** تداول سمع المرء أنملهُ العشرُ
شهدت ساحات القتال وميادين الحروب مع الصليبيين بصولاته وجولاته وهو غير آبه بأخطارها وشدائدها يقول عن نفسه وقد أحدقت به الأخطار والأهوال :(فكم لقيت من الأهوال، وتقحّمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقتلت الأسود، وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح، وجرحت بالسهام، وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغت تمام التسعين).
بطل الحروب الصليبية
شاء له القدر أن يُعاصر الحروب الصليبية من مطلعها وحتى ختامها، فألقت على كاهله أحمالَها، ووضعت على يديه أوزارها، فكان بطلها الأوحد، وفارسها الأمجد، قال عنه المقدسي: (إنه كان من الشجاعة في الغاية التي لا مزيد عليها). ولقب بعرف الديك، ولبد الأسد لشجاعته.
لقد ولد هذا البطل وكأنه كان مُعدّاً لزمنه الذي عجَّ بالأهوال والملمات، وقد وهبته بيئته من الصلابة والثبات والصبر والشجاعة ما تعجز عنه أفذاذ الرجال، فلم تكن الحروب الصليبية التي كان قطب رحاها وحدها تعصف به، بل إن نازلات الدهر ألمّت به، لكن هذا الفتى الذي نشأ منذ نعومة أظفاره على حياة الفروسية، كان كالجبل الأشم أمام أعتى الأعاصير وزعازع الرياح، لا تثنيه الأهوال، ولا تضعف عزمه الرزايا فهو كما يقول عن نفسه:
(فهذه نكبات تزعزع الجبال، وتفني الأموال، والله سبحانه يعوّض برحمته، ويختم بلطفه ومغفرته، وتلك وقعات كبار شاهدتها، مضافة إلى نكبات نكبتها، سلمت فيها النفس لتوقيت الآجال وأجحفت بهلاك المال).
كان يتلقى كل تلك الأهوال والمصائب والمحن بقلب الواثق المطمئن برضا الله وقضائه، ونفس تغمرها الطمأنينة واليقين بما قدر الله تعالى، فكان ينظر إلى كل ما ألم به بعين المؤمن الذي لا تشوب إيمانه بالله شائبة، يشبهه عباس محمود العقاد وهو يمر بكل تلك المآسي كأن الأقدار تمر به كما تمر بلاعب الشطرنج فيقول:
(وكأنما كان هذا الفارس جالساً إلى رقعة الشطرنج ينظر إلى رقعة الدنيا كلها، فيتمثل مصارع الأقدار والأعمار في مصارع تلك اللعب الصغار، فيقول بلسان الإعتبار وهو كاتب (الإعتبار):
انظر إلى لاعبِ الشطرنجِ يجمعُها *** مغالياً ثم بعد الجمعِ يرميها
كالمرءِ يكدحُ للدنيا ويجمعها *** حتى إذا مات خلاها وما فيها)
أسامة الشاعر والأديب
وكما اعتلى صهوة الفروسية، وتُوِّج بتاج الشجاعة، فقد كان السبّاق في مضامير الشعر والأدب والتاريخ، فكان من أولئك الفرسان النبلاء والشعراء المجيدين الذين قلما يجود بهم الدهر، كان فارساً في الشعر، وشاعراً للفروسية، تغنى بانتصارات المسلمين على الروم، وهذه الملازمة لم تجتمع في عصره بغيره، فقد نشأ فارساً شاعراً عني بالأدب منذ صغره فكان: (يحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من شعر الجاهلية) كما قال الذهبي، وقال ابن عساكر في تاريخ الشام: (إن لأسامة يداً بيضاء في الأدب وكتابة الشعر)، وقال أيضا: (إن أسامة شاعر أهل الدهر مالك عنان النظم والنثر وإن مقطعاته أحلى من الشهد وألذ من النوم بعد طول السهد).
أما في مجال التأليف فلم يفارق القلم يده بعد أن وهن عن حمل السيف، وعجز عن الميدان، وكبر وهرم ولم يعد يقوى على منازلة الأقران، وقد جاوز عمره التسعين، فبدأ بكتابه كتابه الشهير بـ (الإعتبار) الذي يعد أول سيرة ذاتية في التاريخ الإسلامي والعربي، ثم أردفه بثمانية عشر كتاباً.
قال عنه الذهبي: (أحد أبطال الإسلام، ورئيس الشعراء الأعلام)، وقال عنه فيليب حتي: (عاش أسامة شهماً فارساً، وزها مجاهداً مقاتلاً، ولمع أديباً شاعراً، تلهّى صيّاداً وقضى الكثير من سنيه جوّابا)
أسامة بن منقذ
هو أبو المظفر، مؤيد الدولة، مجد الدين، أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك بن أبي عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الكناني الكلبي الشيزري. ولُقِّبَ بـ (أبو الفوارس)، هكذا ساق نسبه ياقوت الحموي ونقلت عنه الكثير من المصادر.
شيزر
ولد أسامة بدمشق سنة (488هـ/1095م) في قلعة شيزر، وإليها نُسب وهي قلعة قديمة عُرفت بقلعة بني منقذ، وقد ذكرها امرؤ القيس في رائيته عندما توجه إلى القسطنطينية ومعه عمرو بن قميئة بقوله:
تقطّع أسباب اللّبانة والهوى *** عشيّة جاوزنا حماة وشيزرا
كما ذكرها عبد الله بن قيس الرقيات، وتقع هذه القلعة والمدينة قرب المعرة وحمص، وقد أقطعها صالح بن مرداس أمير حلب الذي خلف الحمدانيين على حلب لبني منقذ عام (419هـ)، فسميت بقلعة بني منقذ، فكانوا يتوارثون الحكم عليها، ولم تكن شيزر بداية لملك بني منقذ فقد كانوا ملوكاً قبلها على أطراف الشام كما يقول ابن خلكان:
(بنوا منقذ أسرة مجيدة نشأ فيها رجال كبار كلهم فارس شجاع، وكلهم شاعر أديب، وكانوا ملوكاً في أطراف حلب بالغرب من قلعة شيزر عند جسر بني منقذ المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حماة وحلب وتلك النواحي، ولهم بها الدور النفيسة والأملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن يملكوا شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم ويجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء أجلاء علماء).
ويذكر فيليب حتي في مقدمة (الإعتبار) إن هذا الحصن لا يزال موجوداً إلى الآن حيث يشير إلى موقعه بقوله: (وحصن شيزر قلعة قريبة من حماة، على بعد خمسة عشر ميلاً منها، ولم يزل قائماً إلى اليوم معروف باسم (سيجر) تصحيف (شيزر).
أمراء بني منقذ
كان بنو منقذ مثال الفروسية والنجدة والنبل، وقد أشادت المصادر بمآثرهم وأمجادهم، يقول عنهم عماد الدين الأصفهاني في (خريدة القصر وجريدة العصر): (كانوا من أهل بيت المجد والحسب، والفضل والأدب، والسماحة والحصافة، والفصاحة والفروسية، والإمارة والرئاسة، اجتمعت فيهم أسباب السيادة ولاحت من أساريرهم إمارات السعادة يُخلفون المجد أولاً لآخر، ويرثون الفضل كابراً عن كابر، أما الأدب فهم شموعه المشرقة، ورياضه المونقة، وحياضه المغدقة، وأما النظم فهم فرسان ميدانه وشجعان فرسانه، وأرواح جثمانه).
وقال أيضا في نفس الكتاب: (لم يزل بنو منقذ ملّاك شيزر، وكلهم من الأجواد الأمجاد، وما فيهم إلا ذو فضل وبذل، وإحسان وعدل، وما منهم إلا من له نظم مطبوع).
وقال عنهم الأمير مجد العرب مصطفى الدولة أبو فراس عليّ بن محمّد بن غالب العامريّ، الذي زار الشام فكان في شيزر سنة (524 ه/1130م): (أقمت في جنابهم مدة، واتخذتهم في الخطوب جُنّة وللأمور عدة، ولم ألق في جوارهم جوراً ولا شدة).
وكان في طليعة بني منقذ فروسية ونجدة وأدباً ونبلاً وكرماً وشجاعة فارسهم وشاعرهم أسامة الذي لا يُشق له غبار، يقول ياقوت في معجم البلدان بعد أن عدد مآثر بني منقذ: (وفي منقذ جماعة أمراء وشعراء ولكن أسامة أشعرهم وأشهرهم). وقال العماد الأصفهاني في الخريدة: (ومؤيد الدولة ـ أي أسامة ـ أعرقهم في الحسب وأعرفهم في الأدب). وقال ابن خلكان: (من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم له تصانيف عديدة في فنون الأدب).
علي بن منقذ
كان لأمراء بني منقذ سجال طويل، وحروب طاحنة مع الروم، فبعد أن أقطعهم صالح بن مرداس حصن شيزر استولى عليه الروم، لكن بني منقذ لم يكونوا صيداً سهلاً للروم ولا لغيرهم، وكان الأمير عليهم هو سديد الدين أبو الحسن علي بن منقذ (جد أسامة)، وكان رجلاً شجاعاً مقداماً لا ينام على الضيم ولا يهاب الموت، وقد أحبه قومه لمزاياه الفائقة في الشجاعة والنبل والعدل والكرم، فجمع قومه وأعد جيشاً وقاتل الروم وهزمهم شر هزيمة حتى طلبوا منه الأمان فأعطاهم الأمان واسترد منهم حصن آبائه الذي كان موقعه في غاية الأهمية، لأن هذه القلعة هي مصدر التحكم بالقسم الداخلي لسوريا، ثم حرص الأمير علي بن منقذ على تحصينه وتهيئته لرد هجمات الروم المباغتة، فوقفوا لصد تلك الهجمات وصمدوا أمام الغارات، وبقيت تلك القلعة حصينة صامدة لم يستطع الروم النفاذ منها أو التغلغل إليها رغم إمكانياتهم الضخمة وحصارهم الشديد الذي أقامه ملك الروم عليها، لكنه طال به الأمد ولم يحقق أي إنجاز يذكر فترك الحصار والمنجنيقات بمكانها وعاد إلى إنطاكية يجر أذيال الخيبة والفشل.
مرشد بن علي
بعد وفاة علي بن منقذ تولى الحكم بعده ابنه مرشد بن منقذ الملقب بـ (مجد الدين) (والد أسامة) سنة (461هـ)، فكان كأبيه فارساً شجاعاً ثابت الجنان صامداً في الحروب، وكان فارساً مغواراً في النهار، وناسكاً متعبِّداً في الليل، يقضي آناءه بالصلاة وتلاوة القرآن الكريم، وكان ذا خط جميل فشُغف بنسخ القرآن حتى نسخ أكثر من ثلاثين نسخة بيده، كما كان كثير البر والإحسان ومساعدة المحتاجين، وزهد في الحكم للتفرِّغ للعبادة فتنازل لأخيه أبي العساكر سلطان بن علي الذي كان يصغره في السن وفي زمن أبي العساكر بدأت رحلة أسامة مع الشقاء.
سلطان بن علي
لقب بـ (أبو العساكر) ولكنه لم يرزق بأولاد فوجّه عنايته بتربية أولاد أخيه مرشد ومنهم أسامة، فكان يأخذه معه في الحروب والغارات على الصليبيين، كما كان رفيقه في الصيد ومطاردة الوحوش في الغابات المحيطة بشيزر، وتصف المصادر سلطانا هذا بأنه:
(كان مُغرماً بالصيد، لهجاً به، له فيه ترتيب لا نظير له، وحضر وقائع كثيرة وفي بدنه جراح هائلة).
وقد وجد أبو العساكر في أسامة علامات الإمارة، وتفرّس فيه صفات السيادة والشجاعة، فأولاه اهتمامه واصطفاه، وكان يوكل إليه المهام من الأمور الإدارية والحربية والسياسية، ويعده لأمرة القلعة، ورآسة أسرة بني منقذ.
أسامة يهجر الحصن
وكأن المتنبي قد قصد أسامة بالذات أكثر من غيره عندما قال هذا البيت:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
فقد لعبت الرياح لعبتها القاسية مع أسامة وتلاطمت به أمواج الأقدار في البلاد، وبدأت مأساته الأولى مع عمه، فما إن رزق أبو العساكر بأولاد حتى داخله الحسد من أسامة وأخوته، واختلفت نظرته إليهم، وتغيرت معاملته معهم، وصار يبعدهم عن المهام، ويقلل من شأنهم، وذلك في حياة أبيهم الذي ربما كان وجوده يمثل حاجزاً لسلطان عن القيام بإجراءات أخرى أكثر قساوة، وهذا ما اتضح بعد موت أخيه مرشد.
فما إن ووري مرشد الثرى حتى جاهر سلطان بالعداوة أسامة وأخوته وطردهم من الحصن، هكذا يلعب الحكم دوره في الإثرة والظلم، وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين قال: (من ملك استأثر).
ولكن رب ضارّة نافعة فقد كان لخروج أسامة وأخوته من الحصن سبباً في نجاتهم من كارثة أحيقت بالحصن كما سنرى.
نشأة أسامة
أن يولد المرء في شيزر وفي آل منقذ بالذات فعليه أن يكون فارساً مقاتلاً وأديباً شاعراً، تلك البيئة فرضت على أولادها حياة العلم والفروسية، وأن من ينشأ فيهم عليه أن يحافظ على تقاليدها الموروثة في النجدة والشهامة والشجاعة والكرم، فقد تعوّدوا على رد هجمات الأعداء، وإغاثة المستضعفين، وقتل الأسود التي كانت تخرج من الأحراش وتهاجم الناس فيهرع آل منقذ ليلبوا نداء الملهوف ويدفعوا عنه العدوان تحثهم أشعارهم الحماسية التي تثير النخوة والعزيمة في نفوسهم.
كانوا كلهم مقاتلين .. الشاب اليافع .. والرجل .. والشيخ .. وحتى المرأة منهم قاتلت إلى جنب الرجل في رد الهجمات الصليبية عن القلعة، في ذلك الوسط المحارب ولد أسامة وقد أعده أبوه فارساً متمرّناً على القتال، يواجه الأسود، ولا يهاب لهوات الموت، وكأن الأقدار قد أعدته لمهمة أكبر من المهمة التي أعدها لها أبوه في زعامة أسرة آل منقذ، فبعد ولادته بسنتين زحفت الجيوش الصليبية الجرارة التي لا آخر لها ورفعت ألوية الحقد والطمع نحو بلاد الشام، يحدوها الأمل في الإستيلاء عليها لكن كل آمالها ومطامعها ذهبت أدراج الرياح.
حمل أسامة السيف ولما يبلغ عمره الخمسة عشر عاماً ولم يفارقه حتى تخطى عمره الثمانين وفي ذلك يقول مفتخراً وله كل الحق في ذلك:
لخمسَ عشرةَ نازلتُ الكماةَ إلى *** أن شبتُ فيها وخيرُ الخيلِ ما قرحا
أخوضُها كشهابِ القذفِ مبتسماً *** طلقُ المُحيّا ووجهُ الموتِ قد كلحا
بصارمٍ من رآهُ في قتامِ وغى *** أفري به الهامَ ظنَّ البرقَ قد لمحا
أغدو لنارِ الوغى في الحربِ إن خمدتْ *** بالبيضِ في البيضِ والهاماتِ مقتدحا
فسل كماةَ الوغى عني لتعلمَ كمْ *** كربٍ كشفتُ وكم ضيقٍ بي انفسحا
ستة عقود ونصف من عمره اتخذ السيف رفيقاً والرمح خليلا وصهوات الخيل سياحة له وساحات الجهاد مسرحاً لحياته، وقد شهدت تلك الساحات بصولات هذا الفارس المسلم الشيعي الذي استلهم من أشجع الخلق علي بن أبي طالب شجاعته وفروسيته، فتناقلت صور بطولاته أفواه المسلمين والإفرنج، وأذهلت شجاعته الروم قبل العرب واشتهر في البلاد وتنافس الأمراء والملوك العرب على اصطفائه وضمّه إليهم ولقب بـ (بطل الحروب الصليبية).
الهجوم الصليبي
كان أثر الدولة الحمدانية كبيراً في الحفاظ على دول المسلمين من هجمات الروم ولولا وقوف سيف الدولة الحمداني الذي خاض أربعين حرباً شرسة مع الروم بوجه تلك الغارات والهجمات لاستبيحت دول الإسلام وعلق الصليبيون الصلبان في مكة والمدينة فقد منع تلك الجيوش الجرارة الزاحفة البلاد الإسلامية وكان غايتها محق الإسلام كما صرح بذلك ملك الروم (نقفور فوكاس)، وقد ترك تقويض الدولة الحمدانية فراغاً في الساحة الإسلامية لا يمكن أن يسد.
كما لا ينسى دور الدولة الفاطمية التي بنت أعظم أسطول وهزمت به الجيوش الصليبية شر هزيمة، وكذلك دولة بني عمار الفتية التي صمدت بوجه الهجمات الصليبية وأذهلتهم في صمودها وشجاعة أمرائها، فلما تقوّضت الدولة الحمدانية وضعفت الدولة الفاطمية كانت الفرصة سانحة للروم في زحفهم نحو بلاد المسلمين، وكانت سبب ضعف الدولة الفاطمية إضافة إلى معاركها الطاحنة مع الروم إنها كانت تقاتل على عدة جبهات، فهي من جانب تقاتل أعداء الإسلام من الروم، ومن جانب آخر كانت تتلقى طعنات الغدر من الدول المجاورة وخاصة من عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود أميري حلب الذين كان خطرهما على الإسلام أعظم من خطر الروم نفسه، فتمزقت الدول الإسلامية، وكانت تلك أعظم فرصة للروم للقضاء على الإسلام فجمعوا جيوشهم التي سدت الآفاق من كل أوربا يحثهم رجال الكنيسة لغزو بلاد الإسلام، وقد صور الشاعر ابو البقاء الرندي تلك المرحلة من التمزّق والتشتت وسقوط المدينة تلو الأخرى بيد الصليبيين بقوله:
فمدينةٌ من بعد أخرى تُستبى *** وطريقة من بعد أخرى تُقتفى
حتى لقد رجفت ديارُ ربيعةٍ *** وتزلزلت ارضُ العراقِ تخوّفا
والشام قد أودى وأودى اهله *** إلاّ قليلاً والحجاز على شفا
الوضع المزري للسلجوقيين
هذه هي حال الدول الإسلامية وهي معرضة لزحف جيوش الروم التي يتقدمها الرهبان والقساوسة، ويحدوها التعصب الديني، والطمع بخيرات المسلمين وبلادهم، وأمراء المسلمين قد اتخذ كل منهم لبعضهم عدواً وقد استقل كل منهم بولاية أو مقاطعة وراح يطمع أن يزيد في أملاكه، وكان السبب في هذا الإنهيار الذي أصاب المسلمين هو طمع السلجوقيين الأتراك وسياستهم التوسعية الإستبدادية فقد جُبلوا على الغزو والسلب والنهب والتسلط والأبهة والتعصب المذهبي، وانهمكوا فيما يُجبى لهم من الأموال التي يصرفونها على ملاذهم غير آبهين بما يصيب المسلمين من كوارث ومحن، وما يحل ببلاد الإسلام من الخراب والدمار والقتل والأسر.
فحينما يرسل الخليفة العباسي نداءات الإستغاثة إلى السلاجقة لدفع خطر الروم لا يأبهون لندائه كما لم تحركهم النداءات المتتالية من الموصل والجزيرة والقاهرة وطرابلس وغيرها من البلاد.
أسامة ودوره
ورغم هذا الخطر الكبير والجيوش الجرارة التي زحفت على بلاد المسلمين المتشتتة فقد هبّ المسلمون للدفاع عن دينهم وأرضهم، وبرز اسم أسامة كقائد فذ قاتل مع عمه أبي العساكر سلطان بن علي ومع غيره من أمراء البلاد الإسلامية، يحمي ذمار المسلمين، ويرد كيد أعدائهم، ويجتهد لفك الحصار عن البلاد الإسلامية المحاصرة، ولا يتخلف عن حرب أو قتال في سبيل إعلاء كلمة الله، فنذر نفسه لله وكانت حكمته في الحياة إن الموت سبيل الأحياء فكان يقول:
سأنفقُ مالي في اكتسابِ مكارمٍ *** أعيشُ بها بعد المماتِ مخلّدا
وأسعى إلى الهيجاءِ لا أرهبُ الردى *** ولا أتخشّى عاملاً ومهندا
فإن نلتُ ما أرجو فللمجدِ ثم لي *** وإن مِتُّ خلّفتُ الثناءَ المؤبّدا
إثرة وحسد
كانت لبطولات أسامة ضريبتها الفادحة من الحسد والغيرة فبعد أن كان مقرّباً عند عمه وفي منزلة ولده عندما كان لم يكن لعمه أولاد، أصبح الآن منبوذاً منه وقد أصبح لديه الآن أولاد في مقتبل الشباب، وفي الوقت الذي كان عمه يهتزُّ طرباً لسماع أخبار بطولات ابن أخيه أسامة وتناقل الناس أخبار جرأته ونجدته وشهامته وشجاعته، أصبح الآن يغتم لسماع تلك الأخبار التي كان يتمناها لولده محمد الذي شبَّ وأصبح في عداد الفرسان، ولكن أنى له صفات أسامة وشجاعته؟
وهكذا أصبحت الصفات النبيلة التي تمتع بها أسامة وبالاً عليه، وتأتي القشة التي تقصم ظهر البعير كما يقال، فقد جاء أسامة في يوم من الأيام برأس أسد قتله إلى عمه، ولكن الأمير بدلا من فرحه بهذا العمل الشجاع تغيّر وجهه واغتم لهذا المنظر الذي تناقلته الناس ولهجت بحديثه الأفواه، وهي تعجب لشجاعة أسامة.
وكانت جدة أسامة (أم الأمير) تلاحظ هذا الحسد والبغض على حفيدها من قبل عمه وتوبخ ابنها عليه، فلما جاء إليها أسامة وقص عليها قصة الأسد وتغيّر وجه عمه قالت له: (لا والله ما يقربك هذا من عمك وإنما يزيدك منه بعداً ووحشة)، وكلما حاول أسامة أن يرضي عمه إلا أنه كان كمن يزيد النار حطباً، فقد أصبح صدر عمه عليه كالمرجل، وكانت تزيده اتقاداً زوجته التركية التي خافت على كرسي الحكم أن يذهب إلى أسامة بدلاً من ولدها محمد لحب الناس لأسامة ومكانته الكبيرة في نفوس الجند والقادة وما يتمتع به من صفات السيادة.
الرحيل
نشأ أسامة على إباء النفس وعلو الهمة فلم تكن نفسه تطيق العيش مع شخص لا يريد بقاءه معه فكان يقول:
أأسامُ خسفاً ثم لا *** آبي فلستُ إذاً أسامة
هيهاتَ لا ترضَ المعا *** لي صاحباً يرضَ اهتضامه
وكيف يبقى وهو قد نشأ على حياة العز والفروسية مع شخص يحاول أن يذيقه الهوان والذل:
وفي الأرضِ منأى للكريمِ عن الأذى *** وفيها لمن خافَ القلى متعزِّلُ
وإنّي كفاني فِقدُ من ليسَ جازياً *** بحسني ولا في قربهِ متعللّ
فآثر فراق أهله وأمه وزوجته وأطفاله وأصدقائه وملاعب طفولته على حياة الذل والهوان، فرحل إلى الموصل وخاض مع أميرها عماد الدين معارك كثيرة مع الصليبيين في الجزيرة وأرمينيا وحلب وبقي في الموصل سبع سنين.
إنقاذ شيزر
ولما سمع بأن الروم حاصروا قلعة شيزر ونصبوا حولها ستة عشر منجنيقاً وأخذوا يقصفونها بالأحجار الضخمة، سارع لاستنقاذ القلعة وتخليصها من أيدي الروم، فأبلى بلاءً عظيماً في فك الحصار عن شيزر ودحر الروم ولاحقهم وأسر منهم، وكان عمه لا يزال حياً وهو الأمير، فما هو موقفه بعد أن خاطر أسامة بحياته لكي لا تقع القلعة في أيدي الروم ؟
هل أرضت هذه الأعمال الجليلة التي قام بها أسامة عمه عنه ؟
وهل سكنت فورة الحقد الأعمى عليه ؟
كان أسامة يتمنى أن يعود إلى أسرته معززاً مكرماً بعد أن أنقذ القلعة من الوقوع في أيدي الروم، وكان يأمل أن يكون الجندي المدافع عن قلعته، ولكن كل آماله ذهبت أدراج الرياح، فقلب عمه لا يزال يغلي بالحقد عليه، وأصبح أكثر شراسة معه فجاهره بضرورة الرحيل مجدداً.
إلى الشام
قرر أسامة أن يغادر شيزر بلا عودة، ولم يرجع إلى الموصل أيضاً، بل توجّه إلى الشام فاستقبله الأمير شهاب الدين محمود بن بوري بن طفدكين، ووزيره معين الدين وكانا صديقين له، وفرحا كثيراً بانضمامه إلى معسكرهما لمقاتلة الروم وعهد إليه الأمير محمود إدارة شؤون الحرب، ومثلما كان بطل شيزر والموصل فقد أصبح بطل دمشق فبقي فيها ثماني سنين معززاً مكرماً، ولكن الشقاء أبى أن يفارقه فقد وصلت عدوى الحسد إلى دمشق فتألب عليه الحاسدون والحاقدون، وراحوا يأتمرون به عند السلطان، وأشاعوا أنه يريد الإطاحة به حتى أوغروا صدره فاضطر أسامة للرحيل مجدداً.
إلى مصر
سافر أسامة إلى مصر وقد وصلت أخباره قبله إليها فاستقبله الخليفة الفاطمي (الحافظ لدين الله) ورجال الدولة واحتفوا به غاية الإحتفاء، وأغدق عليه بالأموال والعطايا، فعاش أسامة أسعد أيامه فيها وكان ينعم في ظل الخليفة بالرخاء والرفاهية، ولكن القدر أبى عليه أن يستقر في مكان فكانت الفتن والأضطرابات تعصف بالأوضاع السياسية في القاهرة، ولما مات الملك الحافظ تولى مكانه ابنه الظافر الذي كثرت في عهده الفتن والاضطرابات والمؤامرات، ورغم إن أسامة كان بعيداً عن كل ما يجري في بلاط الحكم، إلا أن نصيبه منها كان كبيراً، فالحاسدون يرافقونه كظله أينما حل، وانشق البلاط إلى حزبين متصارعين فنهبت داره من قبل السودان والمغاربة، ولكنه وجد بعض ما يصبو إليه ويشاركه في مزاياه في ابن السلار والي الإسكندرية الذي بعثه لقتال الروم قرب عسقلان وبيت جبريل فبقي أسامة في قتاله للروم لمدة أربعة أشهر خاض فيها غمار حروب طاحنة معهم، وكان يرافقه في قتاله أخوه عز الدين الذي استشهد في تلك المعارك، ثم استدعاه ابن السلار إلى مصر، وفي الطريق تعرّض لهم الروم فقاتلهم أسامة فأسر الروم أخاه محمداً، ونجا أسامة من الموت بأعجوبة بعد أن جرح في رأسه وعاد إلى مصر وقد قتل الظافر وبويع للفائز.
الفتنة تلاحقه
رغم أن أسامة بذل كل جهوده في الإبتعاد عن الفتن والمؤامرات التي حيكت في البلاط، وكان يتحاشى الدسائس والمكائد بين الخصوم المتصارعين إلا أن خيوط تلك الفتن التفت حوله، فما إن عاد إلى القاهرة حتى كانت الأوضاع على أوجها من التوتر بين الخلفاء والقواد المتنافسين على مناصب الإمارة، فاتهم بالتحريض على قتل الظافر وثارت ثائرة أنصاره وأحاطوا به ليقتلوه، ودار القتال في الشوارع والبيوت بين الحزبين المتنافسين، ويصف أسامة تلك الواقعة التي لم خاضها رغما عنه حيث لم يكن من أي الحزبين:
(إن القتال بيننا وبينهم في الشوارع والأزقة، خيالتهم تقاتلنا في الطريق، ورجالتهم يرموننا بالنشاب والحجارة من على السطوحات، والنساء والصبيان يرموننا بالحجارة من الطاقات)
وهكذا كتب على أسامة ألا يستقر في بلد، فترك مصر بعد نجاته من الموت وذهب إلى الشام، مخلفاً فيها أسرته في كنف طلائع بن رزيك صديقه المخلص.
مع طلائع بن رزيك
هو الملك الصالح من كبار القوّاد وأعلام الشيعة، تولّى الوزارة في القاهرة، وكان صديقاً لأسامة، وبعد استقرار الأوضاع في مصر وتولي طلائع حكمها استدعى طلائع أسامة إلى مصر، وكاتبه أكثر من مرة للقدوم إليه، لكن أسامة كان يعتذر له ربما بسبب الفتنة التي كادت تودي بحياته ولم يكن طرفاً فيها، وكاتبه أسامة أن يرسل إلى الشام أهله وذويه ومنهم أمه وزوجته وأتباعه، ومعهم أموالهم ومكتبته التي كانت تحتوي على أربعة آلاف كتاب ودواوين كثيرة نفيسة انتخبها وجلدها تجليداً فاخراً، ولكن هذه المكتبة التي حملتها سفينة دمياط من مصر مع أهله وذويه وقعت بيد الأفرنج في عكا، فأمر (بلدوين) ملك الصليبيين رجاله فحطموا السفينة، ونهبوا ما فيها من الكتب، وترك لأهله خمس مئة دينار لتوصلهم إلى دمشق.
كان وطأ هذه المأساة كبيراً في نفس أسامة حيث عبر عنها بقوله: (فإن ذهابها حزازة في نفسي ما عشت).
الرزايا تلاحق أسامة
كان أسر أخيه من قبل الروم من أعظم الرزايا التي حلّت به، فراح يسعى لفكاكه من الأسر بأية طريقة، فكتب إلى ابن عمه الأمير نجم الدولة محمد بن مرشد يستنجده لفكاك أخيه لعله يستذكر بعض جميل أسامة في تخليص القلعة من حصار الروم أيام أبيه مرشد، ومدحه بقصيدة طويلة يثير فيها ما بينهما من الرحم، لكن هذا الأمير كان قلبه كالحجارة أو أشد قسوة، فقد فاق أبيه في قسوته وظلمه فلم تحرك فيه رسالة أسامة ولا قصيدته شعرة من رأسه ولم يجب على رسالة أسامة فأثر موقف ابن عمه المخزي كثيرا فيه فكان الألم يعتصره وهو يقاسي ظلم الأقارب:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً *** على المرءِ من وقعِ الحسامِ المهنّدِ
الحنين إلى مصر
تذكر أسامة أيام الرخاء والرفاهية التي عاشها في مصر أيام الحافظ وتمنى أنه لم يفارقها أو أنه أجاب دعوة صديقه طلائع بن رزيك الذي كانت تربطه معه علاقة وثيقة من المودة والإخاء، وكان طلائع يراسله مراراً للقدوم إلى مصر ويرسل إليه الهدايا، كما كان طلائع يريد أن خلال تواجد أسامة قرب نور الدين أمراً فيه مصلحة الإسلام فكان يلح في طلبه هذا.
محاولة توحيد الصفوف والرفض
دأب الشيعة على طول تاريخهم على توحيد الصفوف لمواجهة أعداء الإسلام وإعلاء كلمة الله، وهذا ديدنهم في كل زمان ومكان، وهذا الهدف كان يراود الملك الصالح طلائع بن رزيك ويأمل إلى تحقيقه ويعمل جاهداً على توحيد صف المسلمين والتصدي لأعداء الإسلام، فطلب من أسامة أن يعمل على إقناع نور الدين من أجل توحيد مصر والشام ضد الروم، فأرسل إليه رسالة بذلك مرفقة بقصيدة طويلة يقول فيها:
فلو أن نور الدين يجعلُ فعلَنا فيها مثالا
ويسيّرُ الأجنادَ جهراً كي ننازلهمْ نِزالا
ويفي لنا ولأهل دولتهِ بما قد كان قالا
لرأيتَ الأفرنج طراً في معاقلها اعتقالا
وتجهّزوا للسيرِ نحو الغربِ أو قصدوا الشمالا
ولكن نور الدين رفض ذلك رفضاً قاطعاً مفضلاً مصلحته الشخصية ومنصبه على مصلحة الإسلام.
وألح طلائع في طلبه من أجل مصلحة الإسلام التي يعتبرها فوق كل المصالح الشخصية والمراكز الدنيوية، وكان يصور له في رسائله إن توحيد الصفين مصر والشام كفيل بهزيمة الروم شر هزيمة، فلما تأخر الجواب أرسل إلى أسامة يقول:
قد كتبنا إليكَ فأوضح لنا الآن بماذا عن الكتابِ تجيبُ
فلدينا من العساكر ما ضاقَ بأدناهم الفضاءُ الرحيبُ
ولكن أسامة لم يكن له من الأمر شيء سوى إداء الرسالة وقد أداها على أحسن صورها، وبالغ في النيابة كما أجاب بذلك طلائع بقوله:
بالغَ العبدُ في النيابةِ والتحريضِ وهو المفوّهُ المقبولُ
وبقي نور الدين مصرا على رفضه في توحيد كلمة المسلمين.
زلزال شيزر
في سنة (552هـ) ضربت بلاد الشام زلازل فدمرت عدداً كبيراً من المدن السورية، وكان أعنف هذه الزلازل قد وقع في شيزر، فدمر قلعتها وقلب عاليها سافلها، وقد أباد هذا الزلزال أسرة آل منقذ جميعها، ولم ينج منهم أحد، ومات كل أهل أسامة ولم يبق من هذه المدينة والقلعة سوى عجوز بقيت لتحدث الناس عن هول الواقعة، وقد صورت التواريخ ذلك الزلزال الرهيب الذي لم يترك بشراً ولا حيواناً إلا أهلكه، وكان أسامة في ذلك الوقت في دمشق، فلما وصلت أخبار هذه المأساة إليه صعق وأغمي عليه من هول الصدمة وبكى بكاء مريراً ورثى أهله بأفجع المراثي.
عزلة
هل بقي في الروح رغبة في الحياة بعد كل هذه المآسي ؟
وهل بقي في قلب أسامة مكان لم تصبه الآلام والندوب ؟
لكن أسامة الذي نشأ على مبادئ الإسلام الحنيف، وتغذّى من تعاليمه كان مؤمناً بالله وبما قدره له.
تخطى عمره الثمانين وها هو يجنح إلى الراحة والعزلة في (حصن كيفا) بعد حياة ملؤها الآلام، وقد اختار هذا الحصن لموقعه حيث تحيطه المناظر الجميلة، وقد حكم هذا الحصن بنو منقذ فترة من الزمن ولكن وأين هم الآن ؟ يستذكر أهله وأقرانه بحسرة فتنطلق منه هذه الأبيات:
ناءٍ عن الأهلينَ والأوطانِ، والأترابُ ماتوا
ولبئسَ عيشِ المرءِ فارقه الأحبةُ واللداتُ
فإلامَ أشقى بالبقاءِ وكم تعذبني الحياةُ
لكنه وجد سلوته في التأليف ففي ذلك الحصن ألف سبعة عشر كتاباً خلال أحد عشر عاماً من ضمنها كتابه الشهير بـ (الإعتبار) الذي دوّن فيه رحلة عمره وتجواله في البلاد وحروبه مع الروم وأخباره مع قومه من بني منقذ.
الخروج من العزلة
أنى لهذه الروح التي تعوّدت على وقع الصدمات أن تخلد إلى الراحة ؟
وأنى لهذا القلب الذي ينبض بالصليل أن ينام بهدوء ؟
وأنى لتلك اليد التي ما فتأت تنازل الشجعان أن تسكن على القلم فقط حتى وإن دبّت فيها رعشة الثمانين:
مع الثمانين عاثَ الدهرُ في جَلدي *** وساءني ضعفُ رجلي واضطراب يدي
إذا كتبتُ فخطي جدّ مضطربٍ *** كخطِ مرتعشِ الكفينِ مرتعدِ
فاعجبْ لضعفِ يدي عن حملِها قلماً *** من بعد حطمِ القنا في لبّةِ الأسدِ
وإن مشيتُ وفي كفي العصا نقلتْ *** رجلي كأني أخوضُ الوحلَ في الجلدِ
فقلْ لمن يتمنى طولَ مدته *** هذي عواقبُ طولَ العمرِ والمددِ
كُتب على هذا الفارس أن يفني عمره في ساحات القتال، فقد استدعاه صلاح الدين الأيوبي الذي كان معجباً بشجاعة أسامة وكان يرى فيه بطل الإسلام والقائد الفذ حتى وإن جاوز عمره الثمانين، وكان يستفيد من مشورته وخبرته في الحرب، كما كان معجباً بشعره أيّما إعجاب، لكنه تغيّر عليه، وتنكر له لما علم إنه شيعي فجفاه، يقول الأستاذ محمد مصطفى الماحي مدير أوقاف مصر من مقال له عن أسامة: (غير أن الدهرَ أبى إلّا أن يعاند أسامة، فقد أحسّ نبوةً من صلاح الدين الأيوبي لعل سببها ما انتهى إليه من أنه يرفد الشيعة ويصل فقراءهم ويظهر التقية).
النهاية
لما أحس أسامة بنبوة صلاح الدين له وجفوته بسبب تشيّعه غادر مصر إلى دمشق وهو الأبي الذي فضل مفارقة أهله على حياة الذل والهوان، فنزع للهدوء بعد أن ملأ الدنيا دويّا، وتركَ تراثاً علمياً وأدبياً ضخماً، وخلّف قائداً حمل اسمه وصفاته وهو مرهف بن أسامة، وأخيراً سكن هذا القلب ونام نومته الأبدية على سفح جبل قاسيون في (23رمضان سنة 584هـ/ تشرين الأول 1188م) عن (96) عاماً.
اضف تعليق