كان (قدس سره الشريف) يرى الأزمة كالحة في عموم بلاد المسلمين، والعالم يعيش صراعاً على المصالح والنفوذ، والدماء تراق تحرراً من استعمار أو انعتاقاً من طغاة، وكان الاستبداد الدامي بوطنه (العراق)، يضرب ألماً ووجعاً وموتاً وتشريداً وظلماً وظلاماً، بموازاة ذلك، كانت الأفكار المستوردة تتغلغل في أوساط الشباب وتنخر بعقول مثقفين، وتنتشر كالنار بالهشيم، حتى وصلت أفكار الإلحاد إلى مدن الإيمان، وثورات مشتعلة، تبدأ بسحل الأجساد لتنهي ظالماً وتأتي بآخر، والشعوب من حيرة إلى خيبة، ومن حرب إلى نكسة.
كان يرى أن الصراع أمر محتوم على الإنسان، سواء أكان صراع الإنسان مع نفسه أو مع قوى الشر والظلام، ولابد للإنسان من الإكتواء بلهيب ذلك الصراع ليظهر معدنه، فإما أن يحترق بنار الصراع، فلا يكون أكثر من وقود ابتداءً ومآلاً، وإما أن يكون حراً في دنياه ليكون سعيداً في أخراه، ولن يكون حراً في دنياه إلا إذا أدرك حقيقة إقرار النبي بما حكم به العقل، وإقرار العقل بما حكم به النبي. يقول (قده): (الإنسان لم يُخلق في هذا الكون للراحة، غداً سنموت ونخلد إلى الراحة الأبدية، أما اليوم فعمل، وعلينا أن نتغلب بوعينا وبمعرفتنا على كل الأشياء كي تنتصر فينا تجربة الروح المدفونة في هذا الجسد على المادة). فبذل جهداً كبيراً في تنمية قدرة المؤمنين على ضبط سلوكياتهم (تقوى الله)، وتحفيزهم لنفع الإنسانية، فـ((من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)). وإن (خير الناس من نفع الناس).
كما اهتم (قده) بتاريخ الفكر البشري، وما حمله هذا الفكر من تساؤلات كبرى، ومحاولات عديدة (فاشلة وناجحة) للإجابة عن تلك التساؤلات، ومن خضم صراعات الفكر وتناقضاته، وأزمات الواقع وانحرافاته، رسم(قده) خط الخلاص، فيبدأ بتشخيص الأزمات، مبيناً أن أولويات الحلول الجذرية تبدأ من إعادة إنتاج الإنسان، وإصلاح بنائه الإيماني والأخلاقي، فلفت الأنظار في دروسه ومحاضراته إلى (مكارم الأخلاق) التي هي جوهر الإسلام، مؤكداً ضرورة وضع آليات علمية تتجلى بها مكارم الأخلاق (قولاً وعملاً – ظاهراً وباطناً) على سلوكيات الإنسان (فرداً ومجتمعاً)، لاسيما أن الأخلاق ليست فقط دينية، بل هي قناعات عقلية، وشكل من أشكال الوعي الإنساني الذي يحرك سلوك الأفراد والمجتمعات، خاصة الجوانب المطلقة والثابتة فيها، كالعدل والحرية والمساواة، والتي هي قيم إنسانية عليا تمثل المرجعية الثقافية العامة للشعوب، والتي من الممكن أن تكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين، على طريق بناء الإنسان الصالح وإنتاج الدولة العادلة، وكما أن ثقافات الشعوب مستمدة من قيمها ووعيها الأخلاقي، فإن الدين هو المنبع الرئيس للأخلاق، وبالتالي فإن الدين أساس قيم الشعوب وثقافاتها.
بيّن (قده) أن الإسلام رسم سبل علاقة المجتمع بالفرد، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة المجتمع بالمجتمع، وعلاقة الفرد بالفرد، ثم علاقة المجتمع والفرد مع الله تعالى، فاتخذ منهجاً وتمسك به بأعلى درجات الثبات، ومنهجه في إدارة الأزمات وتذليل المعوقات يقوم على الإدارة بالقيم الإنسانية والأخلاق النبيلة، وهو منهج يوفر أجواءا ملائمة لمد جسور الثقة مع الآخر، وتحقيق الإنجازات.
وانطلق في حركته من تشخيص الأزمة وأسبابها، وحددها بفراغ معرفي يستصحب خللاً عقدياً، والذي من تداعياته ندرة بالكوادر المفكرة، وإنحسار إيماني، وكان يوزع جهوده الإصلاحية بين رد فعل على فعل (مخالف أو معادي)، وبين فعل ذاتي ينطلق وفق خطة مرسومة على مديات قصيرة وبعيدة. يقول (قده): أن (الأمة الناهضة التي تريد أن تعيش بكرامة وسيادة وحرية، لا بد لها من الالتزام بالعقيدة التي تعصمها من الوقوع في مهاوي الضلال وقبضة الاستعباد، ولا بد لثقافتها من أن تكون مرتكزة على القرآن ليضيء لها سبل الحياة).
وفي سياق إعادة إنتاج الإنسان، يرى (قده) أن الإنسان لن يكون صالحاً إلا بالعلم والحرية، فـ(عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد). (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، يقول (قده): (وضع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حرية الفرد ورسالته في كفتي ميزان، ثم رجح كفة حرية الفرد إلى حيث تكون رسالته داخلة في مجال حرية الفرد، فـ(لا إكراه في الدين)). وبين (قده) أن الأمة المهزومة هي (أمة فاتها التفكير، فاندفعت بلا هدف ولا اتجاه، حيث إنها رأت الأمم المتحررة تندفع، ولم ترها تفكر، فحسبت أن عليها أن تندفع فحسب). مبيناً(قده) أن الإيمان والحراك الاجتماعي الحر الفاعل هما اللذان يوفران الفرصة للكفوئين من رجال ونساء لتقدم الصفوف والمشاركة بفاعلية في خدمة العباد وإعمار البلاد، حيث إن تصدّر الكفوئين يرسخ ثقافة (إتقان العمل)، وهو إنجاز إيماني وأخلاقي يتماهى مع قوله (صلى الله عليه وآله): (إذا عملت عملاً فأتقنه). فضلاً عن أنه إنجاز تنموي وخدمي له أهمية كبرى.
على النقيض من ذلك، فإن المجتمعات التي تبتعد عن أحكام الله، ولا تسمح بالحراك الاجتماعي الحر، فإنها تفتح المجال لغير الكفوئين ليأخذوا مواقع عليا في مؤسسات الدولة والمجتمع، وهو ما ينتج واقعاً يعيق بناء الإنسان والدولة، فإن (أنصاف: الفقهاء والمثقفين والمتعلمين) يسعون إلى تهميش أصحاب الكفاءات، وبشتى السبل، يبررون بقاءهم وبقاء أمثالهم في مواقع مؤثرة في الدولة والمجتمع، وفي هذا خطر داهم، يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (من استعمل رجلاً على عشرة، وفي تلك العشرة من هو أفضل منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين).
لم يبعده نبوغه الفقهي، ودراساته التاريخية، وتنقيباته التراثية، واهتمامه التوثيقي الحديثي الموسوعي عن ولوج فضاءات الفكر الإنساني المترامية الأطراف، فانطلقت رسالته من العقيدة، وتمحورت حول الإنسان.
فكان يرى أن ليس للإنسان تحقيق وجوده إلا من خلال العقيدة، فإن الرسالات السماوية التي أنزلها الله إنما جاءت لإحياء النفوس والعقول، وإن الإيمان بالله حقيقة جارية في طبائع الموجودات كلَّها بما فيها الجمادات، فما من مخلوق إلاَّ وقد اهتدى إلى الله ((ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)). وإن العقيدة بالله أهم المعارف الإنسانية عامة، وأعظم النعم بعد الوجود، وإن نكسة البشرية كانت ومازالت نتيجة تبنّيها ثقافات معادية للعقيدة ومنهجيات مخالفة للفطرة التي خلق الله الناس عليها. يقول (قده): (الإنسان الذي يحمل معرفة العقيدة إنسان خالد، لا يُنسى ولا يتضاءل، لأن العقيدة تكشف له أبعاد نفسه وأغوارها وطاقاتها وصلاتها، وتربط كيانه مع موجودات الكون). وإن بناء الإنسان وتفعيل طاقاته، لا يمكن أن يتم إلا بتنمية دوافع الخير والصلاح في نفس الإنسان، والدين إنما هو منظومة أخلاقية خلاّقة ومحفزة للإنسان لفعل الخير والصلاح.
كتب موسوعة من أكبر موسوعات الحديث والرواية، وتضم في إجزائها الـ(خمسة وعشرين) الأحاديث القدسية، وأحاديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وروايات أمير المؤمنين والسيدة الزهراء والأئمة المعصومين والسيدة زينب (عليها السلام)، وربيبات الرسالة، وأقوال الأنبياء (عليهم السلام) والحكماء، والأصحاب (رض): ابن مسعود، أبو أيوب الأنصاري، أبوذر الغفاري، أبو رافع، أبو سعيد ألخدري، أبو طالب، أبو رافع، جابر بن عبد الله الأنصاري، حذيفة بن اليمان، وغيرهم من الأصحاب الصالحين. ومن مؤلفاته أيضاً: (خواطري عن القرآن 3 أجزاء)، (حديث رمضان)، (العمل الأدبي)، (الأدب الموجه)، (منابع الكلمة)، (التوجيه الديني)، (الاقتصاد الإسلامي)، (الشعائر الحسينية)، (الاشتقاق)، (حكم متنوعة).
لم يكن مشهده الأخير، وهو مضرج بدم الإيمان والحرية والولاء مشهد ختام، فإن الشهداء أحياء عند من بيده الموت والحياة، ولقد كانت الإطلاق الغادرة التي استقرت في جسده المنهك بفعل أمراض سجون التعذيب، رداً من نظام استبد بحكم العراق على ما بذله الشهيد السعيد في نصرة المظلومين في العراق وبلاد أخرى عانى فيها مسلمون من الجور والقهر والفقر والمرض. فقد كان (قده) يرى أن عالم الدين يستطيع أن يحقق إنجازات كبيرة حينما يدافع عن قضايا الإنسان، فواجه (قده) التحديات وتعامل معها بواقعية، فهو يواجه لينجز، وتجاوب مع متطلبات الحاضر، واستشرف المستقبل واستقرأ أحداثه، وعمل قبل أن يدعو غيره إلى العمل، وبادر إلى العمل، وإنْ كان هو في خضم ابتلاء، وإنْ كان وحيداً، والناس في حال خضوع أو انكفاء أو نفاق، وكان له في كل محطة من محطات هجراته بنيان، وكل بنيان شيده أثمر إنجازاً، وكل منجز له واجه تحديات منها ما انقشعت في حينه أو بعد حين، ومنها ما تتفجر اليوم، كما هي التحديات الجسام في العراق والشام، وتلك أفريقيا وقلبها بلاد النيل، وما يجري من عدوان على اليمن، والعالم يترقب ما تشهده بلدان الخليج التي أصبحت دولاً دموية، تنتج فقه الإرهاب وتصدر التكفيريين، وتدعم المجرمين بالأموال والسلاح، وتحرك وسائل إعلام تنشر الكراهية وتشعل الفتن وتحرّض على القتل.
لقد هاجر الفقيه المجاهد والمفكر المؤسس والشهيد السعيد آية الله السيد حسن الحسيني الشيرازي من بلد الى آخر ومن قارة الى أخرى لينشر كلمة الله وقيم الإنسان، فلقد أدرك (قده) ما كان عليه أن يعمل، وقد عمل! وأنه وعى ما كان يجب عليه أن يقول، وقد قال! وعرف أن خير الزاد التقوى ومقارعة الطغاة ونصرة المظلومين، وقد جمع واستزاد حتى استشهد.
اضف تعليق