أننا كمجتمع، لا نأكل ما يكفي من الأطعمة المعروفة بأنها تُعزز صحة الدماغ ونموه. وبعد مرور عشرين عاماً على إطلاق حملة التشجيع على تناول الفاكهة والخضراوات، ما زال 67% منا بعيدين عن تناوُل الكمية المطلوبة منها وهي خمس حبات يومياً. كما أن 60% من وجباتنا الغذائية فائقة المعالجة...

يُسبب نقص التغذية مشكلات عصبية واسعة النطاق؛ والطعام هو إحدى الطرق لمحاربتها..

اتباع نظام غذائي يحتوي على كميات كافية من العناصر الغذائية والألياف له فوائد صحية للجسم وللعقل..

الحالات العصبية Neurological conditions هي السبب الرئيس للمرض والإعاقة في معظم أنحاء العالم. وتقول منظمة الصحة العالمية WHO إن أكثر من ثلاثة بلايين شخص في العالم يعانونها.

وقد وصف اتحاد جمعيات علم الأعصاب الأوروبية صحة دماغنا الجمعي بأنها ”حالة طارئة“. ومن السهل معرفة السبب: فتدهوُر الصحة العصبية على هذا المستوى يمثل تهديداً جديداً، على المستويين الجزئي أي الفردي، والكلي أي المجتمعي. ويرتبط ضعف الدماغ والصحة العقلية على المستوى الفردي بانخفاض الدخل الذي تقاضاه الفرد على امتداد حياته. وتفوق تكاليف الرعاية الاجتماعية للخرَف في المملكة المتحدة حالياً تكاليف علاج السرطان والسكتة الدماغية وأمراض القلب مجتمعة.

كل هذا يعني أن إيجاد طرق لحماية السلامة العصبية يجب أن يكون أولويةً في برامج الصحة العامة. وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن التغذية يمكن أن تكون أداة قيِّمة لهذا الغرض.

في إحدى الدراسات أخذ الباحثون بيانات عن التفضيلات الغذائية من 181,990 شخصاً مجهولي الهوية في البنك الحيوي في المملكة المتحدة، وقسموهم إلى أربع مجموعات فرعية غذائية: مجموعة لا تتناول النشويات أو تتناول كميات محدودة منها؛ ومجموعة نباتية؛ ومجموعة تتناول كمية كبيرة من البروتين والقليل من الألياف؛ ومجموعة متوازنة. ثم حُللت البيانات مقابل مجموعة من العوامل الأخرى بما في ذلك الصحة العقلية، والوظائف المعرفية، والمؤشرات الحيوية للدم والتمثيل الغذائي. ووجد الباحثون أن النظام الغذائي يمكن أن يحدد بنية الدماغ، مما يؤثر في الصحة العقلية والإدراك.

إذن، ما الذي يجدر بنا تناوُلُه للحفاظ على صحة أدمغتنا؟ فيما يلي ثلاثة اقتراحات يدعمها العلم...

تناوُل المغذيات الدقيقة المناسبة

العناصر الغذائية ضرورية لنمو الدماغ، لذا فإن نقصها يطرح مشكلة. مثلاً نقص اليود هو السبب الرئيس لتلف الدماغ الذي يمكن الوقاية منه في معظم أنحاء العالم، ويمكن أن يؤدي خلال فترة الحمل إلى انخفاض معدل الذكاء لدى المواليد بنمط دائم (67% من النساء الحوامل يعانين نقصَ اليود). وتنصح هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية البالغين بتناول 140 ميكروغراماً من اليود يومياً. وتُعَد الأعشاب البحرية ومنتجات الألبان والأسماك مصادرَ غنية باليود.

وبالمثل يُعَد الكوبالامين (الفيتامين B12) عنصراً لا غنى عنه للحفاظ على سلامة الوظيفة العصبية، فنقصه يسبب مجموعة من المشكلات النفسية والمعرفية، بما في ذلك التشوُّش وعدم القدرة على الحكم والقلق والاكتئاب والنسيان والخرَف. توصي هيئة الخدمات الصحية الوطنية حالياً البالغين بتناول 1.5 ميكروغرام يومياً من الفيتامين B12. وهو متوافر في اللحوم والأسماك والبيض والجبن (غالباً ما يحصل عليه النباتيون من المكملات الغذائية على شكل أقراص).

تساعد البوليفينولات (الموجودة في ثمار التوت والشاي والقهوة والبقوليات) ودهون أوميغا 3 (الموجودة في الأسماك الزيتية) على توليد عصبونات (خلايا عصبية) جديدة. كما أنها تعزز نمو اتصالات جديدة في الدماغ البالغ وتحمي خلايا الدماغ مع التقدم في السن.

تناوُل كمية إضافية من الألياف

يؤدي انخفاض تناول الألياف إلى حدوث تغييرات تُعرضنا للإصابة بالالتهابات في ميكروبيوم الأمعاء وتدهور بطانة الأمعاء الواقية، حيث تبحث الميكروبات المتعطشة للألياف عن شيء آخر تأكله. إذا دخلت بكتيريا الأمعاء إلى مجرى الدم، فإن الجهاز المناعي سيعدها عوامل مُمرضة، وهذا سيولِّد استجابة التهابية. يمكن أن يؤدي هذا الالتهاب إلى التهاب الأعصاب، وهي سمة معروفة للاكتئاب الشديد والفصام ومرض ألزهايمر.

عندما نحصل على الألياف التي نحتاج إليها، تعمل ميكروبات الأمعاء على تفكيكها لإنتاج مجموعة من المنتجات الثانوية بما في ذلك الفيتامينات والنواقل العصبية. إحدى فئات المنتجات الثانوية هي الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة والتي لا تغذي فقط الخلايا التي تبطِّن الأمعاء وتساعد على الحفاظ على سلامة حاجز الأمعاء، ولكن يمكنها أن تفعل الشيء نفسه أيضاً بالنسبة إلى الحاجز الدموي الدماغي Blood-Brain Barrier (اختصاراً: الحاجز BBB).

الحاجز BBB عبارة عن بنية انتقائية جداً تمنع البروتينات السامة والعوامل المُمرضة الأخرى من دخول الدماغ. نحن نعلم أن تلف الحاجز BBB أو تهتكه يُعَد علامة إنذار أو مؤشراً مبكراً على تطور حالات التنكس العصبي مثل مرض ألزهايمر، مما يزيد من إمكان أن تساهم الأنظمة الغذائية منخفضة الألياف في الإصابة بأمراض عصبية.

في الوقت الحالي لا تتبع أيُّ فئة عمرية في المملكة المتحدة التوصيات المتعلقة بتناول الألياف، وهي 30 غراماً يومياً للبالغين وفقاً لهيئة الخدمات الصحية الوطنية. الشوفان والبقوليات (مثل الفاصولياء والفول والعدس) والفواكه والخضراوات كلها مصادر جيدة للألياف.

تجنُّب أنظمة الحمية السريعة والرائجة 

ما يثير القلق أيضاً هو الترويج عبر الإنترنت لممارسات غذائية متطرفة، مثل حمية اللحوم التي تشجع على تناول المنتجات الحيوانية فقط (اللحوم والبيض ومنتجات الألبان) واستبعاد الأطعمة النباتية الغنية بالألياف.

يُروَّج لمثل هذه الأنظمة الغذائية باعتبارها تتيح سرعة فقدان الدهون وتنمية العضلات، ومن ثم نجدها منتشرة بين الشباب. ولكن في حين أنها قد تشجع الشباب على تناوُل كميات أقل من الأطعمة فائقة المعالجة، فإنها قد تُدخل تغييرات مناعية من شأنها أن تُعرِّض أدمغة الشباب لخطر متزايد، في فترة حساسة جداً تتطلب الحفاظ على سلامة الصحة العقلية.

الواضح هو أننا، كمجتمع، لا نأكل ما يكفي من الأطعمة المعروفة بأنها تُعزز صحة الدماغ ونموه. وبعد مرور عشرين عاماً على إطلاق حملة التشجيع على تناول الفاكهة والخضراوات، ما زال 67% منا بعيدين عن تناوُل الكمية المطلوبة منها وهي خمس حبات يومياً. كما أن ما يقرب من 60% من وجباتنا الغذائية فائقة المعالجة، وهناك علاقة عكسية بين نسبة الأطعمة فائقة المعالجة في النظام الغذائي وما نحصل عليه من مغذيات.

هذه الإحصائيات وحدها يجب أن تجعلنا نقف ونُمعن الفكر في الأمر. دماغنا مشهود له بأنه عضو مجتهد يكد ليل نهار، ويحتاج إلى كمية كبيرة من الطاقة ومجموعة واسعة من العناصر الغذائية، وهذه العناصر الغذائية لا يحصل معظمنا على ما يكفي منها.

* بقلم: كيمبرلي عالمة نفسية معتمَدة ومحاضِرة زائرة تعمل في عيادة خاصة في وسط لندن

** المصدر: مجلة مدار-العدد سبتمبر - أكتوبر 2024

https://madar.aspdkw.com/

اضف تعليق