يتحايل المسؤولون الفاسدون على القانون والشريعة والأعراف وسواها.. كي يكون الطريق مفتوحا لهم نحو الاختلاس.. لا يتورع أحدهم عن الولوج في مسالك السحت الحرام.. فالمهم لديهم أن يستحوذ على أكبر كمية من أموال الناس.. بكل الأساليب التي يندر فيها القانوني والعرفي والمقبول شرعيا.. فتأتي من قبيل السرقة بالاحتيال.. وقد تمرّس الحكام الفاسدون وموظفوهم ومعاونوهم والمؤيدون لهم.. على الاختلاس والسرقة والتجاوز على المال العام بلا أدني شعور بالندم أو التردد أو الخوف من الله والنفس.
حتى قيل إذا فسد الرأس فسد ما دونه من جسد وفروع وأطراف.. المقصود من هذا المعنى.. أن الحاكم إذا كان فاسدا وهو أعلى سلطة.. فإن كل موظف له علاقة بالسلطة ومناصبها يكون فاسدا في الأغلب الأعم.. ويندر أن تجد موظفا صالحا بينهم.. تحت تأثير الرفقة والتشبّه.. (فمن رافق القوم أربعون يوماً صار مثلهم).. أما إذا كان الحاكم أو الرأس ناقماً على الفساد ورافضا له.. ومحاسبا لمرتكبيه ومحذّرا ومراقِبا لهم.. كما كان الحال في سياسة الإمام علي عليه السلام.. فإن الحال سوف يختلف قطعا.
تؤيّد المصادر الموثوق بها على أن قائد دولة المسلمين الأعلى الإمام علي عليه السلام.. يُعَدّ النموذج الأكثر دقة ونجاحا في مراقبة موظفيه الكبار.. فما أن يشذ أحدهم.. أو ينحرف عن الجادة الصواب.. أو تسوّل له نفسه لاقتراف السحت.. وتدفعه في مهالك الضلال ودهاليز الحرام.. فيمدّ يده المريضة الى بيت المال.. يسرق أموال المسلمين.. حتى تمتد له يد الحاكم الأعلى الإمام علي (ع).. فتحدّ من تطاولها وتشلّها وتلقنها درسا يليق بالسارقين المختلسين.
يقول المرجع الديني السيد صادق الشيرازي في أحد مؤلفاته إن (رقابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للموظفين كانت في رأس سياسته الإدارية لهم. إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام لا يريد الموظفين لكي يسبحوا باسمه ـ شأن كثير من الحكام والساسة ـ وإنما يريدهم يسبحون باسم الله تعالى، يريدهم على طريق الله دقيقاً وكاملاً ودائماً، لذلك: فكما تم نصبهم على يده، كذلك يرى نفسه مسؤولاً عن تصرفاتهم).
في حياتنا اليوم.. تحدث تجاوزات صارخة.. أمام أعين الحكام.. يقترفها رؤوس الفساد.. وجلّهم من موظفي السلطة.. الذين تقع مسؤولية أخطائهم على الحاكم الأعلى.. لكن نلحظ تهاونا مع هؤلاء.. تحت تبريرات وحجج واهية.. أول من يبررها لهم الحاكم الأعلى الذي يحتل القمة من موقع الفساد.. فهو حاكم فاسد لأنه مدفوع بالتهاون مع الفاسدين لمصلحة له.. فهو يريد الولاء أولا.. وليعبث الجميع بالبلاد وأمنها وبالشعب وحقوقه.. مثل هذا الحاكم لا يعبأ بحقوق الناس والأهم لديه حماية الكرسي والسلطة.. فيبادر بنفسه ليضع حصانة للفاسدين والمفسدين.
فالدبلوماسي الفاسد سوف يجد حصانة دبلوماسية تحميه من الحساب والقصاص.. وله أن يعيث فسادا بأموال المسلمين طالما أنه موالي للحاكم.. والموظف يجد حصانة وظيفية يمنحها إياه الحاكم القمعي الذي لا تعنيه سوى سلطته وتجنيب عرشه من السقوط.. مثل هذه الصورة نجدها في بعض الدول الإسلامية والعربية.
وقد أدّى ذلك الى تراجعها.. وضعف الحقوق فيها.. وانتعاش السرقة والاختلاس والصفقات الوهمية وغسيل الأموال وتزوير الفواتير التحويلية بالدولار الأمريكي.. كل هذا يجري أمام عيون الحاكم الأعلى.. وأمام رؤساء مؤسسات الدولة المعنية بالأمر.. كدار القضاء.. ومجلس النواب أو الجهة التشريعية الأولى والأهم في البلاد.. ومفوضية النزاهة.. كل هذه المؤسسات ينخرها الفساد في ظل نظام فاسد وحاكم يقبل بالفساد ويغض الطرف عن رؤوس الفساد.
هذا لم يكن موجودا في عهد الإمام علي.. فمع الإنسانية التي تفوح من فكره وسلوكه وتعامله مع أمته.. إلا أنه لا يمنح الحصانة للسارق الحكومي ولا يعطي حماية للموظف الفاسد.. ولا يريد الولاء من أحد إلا بالحق.. فالإمام لا يعترف بهذه المفاهيم (الحصانة والحماية والولاء) حينما يتعلق الحال بحقوق الفرد والأمة.
يذكّر المرجع الشيرازي بهذه الشواهد في كتابه (السياسة من واقع الإسلام) فيقول إن (الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب عليه السلام إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة).
الغريب في الأمر أن حكّام المسلمين وحكوماتهم الحالية.. لا ترى هذا الإرث المضيء الذي تركه لها (للسياسيين) قائد المسلمين البار الإمام علي.. ويكاد لا يعنيها من قريب أو بعيد.. فالمهم لها شيئان أو هدفان.. أن تكون السلطة بيده.. وأن يستحوذ على أكبر كمية من الأموال.. أما كيف يحقق هذين الهدفين وما هي الإساءات التي تلحق بالناس جراء حصر السلطة بيده واكتناز الأموال من غير وجه حق.
فهذه الأمور لا تشكّل له مشكلة.. فالأهم السلطة والمال بيده.. وليحترق العالم بعد ذلك ولتهلك الأمة وليمتْ الأطفال والشيوخ والمرضى والفقراء جوعاً وحرمانا.. فما يخطط له أصحاب السلطة والموظفون الفاسدون هو الأهم والأجدى.. أما سواه فليس مهمّا ولا يستحق العناء.
ولكن ليس هذا بسليم.. وليس هذا بقريب من الإسلام.. ليس هذا بمقبول بالمرة.. لا يرضاه الإمام علي ولا يرضى بمن يتشدق باسمه والانتماء إليه من المتشبثين بالسلطة والمهيمنين على الحكومة.. وفي نفس الوقت يحمون الفاسدين ويمنحون المفسدين حصانة تدرأ عنهم حكم القضاء العادل.. لأنهم من بطانته أو حزبه أو كتلته.. يعطونه الولاء مقابل الحماية من الحساب.
كأنهم لا يقرؤون التاريخ ولا يتعظون ممن سبقهم من المتولهين بالسلطة وامتيازاتها.. كأنهم ما قرؤوا شيئا عن قارون ونمرود وفرعون وطغاة العباسيين والأمويين وصدام.. أمر هؤلاء فريب فعلا.. مثلهم مثل الذي يرى ويسمع ويقرأ تاريخ الطغاة الأسود ولا يريد أن يتعظ منهم.
بالطبع لا مانع من أن تكسب المال وحتى تدخره أو تكنزه.. أنت حر في أموالك مهما بلغت قيمتها.. ولكن يوجد شرط لا تنازل عنه.. أن يكون مصدر المال سليما.. أن لا يعود هذا المال الى الأمة.. أن لا تحتال كونك موظفا ذا سلطة فتستغل موقعك ونفوذك.. فتقطف مليارات أو ملايين من أموال الشعب الذي يعاني الفقر والمرض والجوع.. فيما أنت وأولادك وزوجاتك وذويك تتنعمون بأموال السحت الحرام.
هذا أمر غير مقبول عند الإمام عليه السلام.. مرفوض جملة وتفصيلا.. كل الحق لك أن تحصل على الأموال بالعمل الشريف والتجارة والإنتاج.. ولكن بالاحتيال والاختلاس والسرقة والفساد.. سوف يقطع الإمام لك يدك.. ويقول لك (من أين لك هذا).. ويصفعك بقوة الحق ويشلّ كل قدراتك.. ويحشرك في زاوية القصاص الصارم.. حيث لا ملاذ ولا مهرب ولا مفر من ظلمة المآل وبؤس المصير.
فـ (الناس في منطق الإسلام أحرار- كما يقول المرجع الديني السيد صادق الشيرازي- ، لا يُطالَب أحد منهم بحساب، ولا يُقال لأحد منهم: من أين لك هذا؟ أما الوالي، والحاكم، والعامل والموظف الكبير، فيقال لـه: من أين لك هذا؟ ويحاسب في أمواله، وما عنده. ويهدد بحساب الله الذي هو أعظم، وأشد. إرساءً للعدل، وأماناً للأمّة عن الظلم والحيف).
اضف تعليق