تحصيل الرزق مهمة يومية يسعى إليها الانسان، وهي عملية صعبة وقد تكون معقدة أحيانا، لهذا السبب تم وضع قواعد للعمل، منها قانونية وأخرى شرعية، وثالثة أخلاقية، كل هذه الضوابط مهمتها تنقية رزق الانسان اليومي من الحرام، وهي مهمة صعبة ولكنها ممكنة، حيث يكون الدافع الذاتي صاحب القدح المعلى في حفظ الرزق من الحرام، يأتي بعده مباشرة، القوانين ودرجة الحزم التي تنطوي عليها كي تحد من الزلل، وهنالك الجانب الاخلاقي الذي تدخل ضمنه منظومة الأعراف وقدرتها على حماية الانسان من السقوط في فخ الزلل.
وفق هذا المنظور، لا يمكن أن يكون الرزق الحلال رهن المزاج، أو المنفعة خارج الضوابط والشرع والقوانين، فالموظف يعمل بأجر معروف كي يحصل على رزق شريف لأسرته، وأي خلل في هذا الجانب، قد يدفع هذا الرزق نحو حافة الحرام، ليس في الجانب المادي فحسب، فالرشوة مثلا محرمة وتجعل من راتب الموظف كله ممزوجا بالحرام، ليس هذا فحسب، بل حتى طريقة تعامل الموظف مع المواطن، بالكلام والجانب الاخلاقي قد يجعل من رزقه تحت الشكوك، فعندما يقوم الموظف بإذلال المواطن وتأخيره، فهو لا يختلف كثيرا عمَّن يطلب الرشوة من المراجعين.
لهذا تقع مهمة الوظيفة ضمن ضوابط واضحة يفهمها الموظفون، كذلك يعرّف المعنيون الموظف بأنه عامل حكومي يؤدي عملا خدميا متنوعا يصب في الصالح العام، مقابل اجر تدفعه له الدولة، وبهذا يحصل على المال ومصدر الرزق له ولعائلته، مقابل خدمات معروفة يجب أن يؤديها، وبهذا المعنى فإن الموظف الذي يعطّل عمله المعروف مسبقا، ولا ينجزه في الوقت المحدد، فهو لا يستحق الاجر الذي يحصل عليه من خزينة الدولة مقابل خدماته، وفقا للقوانين الوضعية والشرعية والاخلاقية أيضا، لذلك ينبغي مراعاة هذا الجانب بدقة.
وتوجد أساليب عديدة يلجأ إليها بعض الموظفين، يمكن أن تحمل سمة الابتزاز، فقد يذهب الموظف الى اسلوب التعطيل المقصود، وهو تعطيل اعتاد عليه الموظف الحكومي في العراق، واصبح حالة عامة، فأينما تذهب تجد مثل هذه الحالة في معظم الدوائر الرسمية، بمعنى أن ظاهرة تعطيل الانجاز من لدن الموظف الحكومي اصبحت امراً بالغ الوضوح ولا يحتاج الى دليل، وقد اعتاد عليه المواطن ايضا، وشكا منه كثيرا، ولكن ليست هناك معالجات جذرية لهذه الظاهرة، التي تعد من المظاهر الخطيرة للنظام البيروقراطي، الذي يتعمّد تعطيل الانجاز، من اجل تحقيق مصالح فردية آنية وسريعة الفائدة غير المشروعة، على حساب مصلحة الفرد والمجتمع، الأمر الذي يتطلب معالجات مدروسة وحاسمة في هذا المجال.
حماية الرزق من السحت
مع أن الانسان هو المسؤول الأول عن نظافة رزقه، إلا أن القانون والشرع والعرف والاخلاق، تُسهم بصورة كبيرة في تعضيد هذه المسؤولية، لاسيما اذا عرفنا أن تأثير السلوك الرديء سرعان ما يحدث وينتشر من موظف الى آخر، وبهذا يمكن ملاحظة ظاهرة تعطيل الانجاز في معظم دوائر الدولة الخدمية المتنوعة والانتاجية كذلك، والسبب يعود الى ان هذه الظاهرة، باتت تشكل نوعا من المسار العملي المتوارث من جيل الى جيل، الامر الذي يتطلب معالجات عميقة، تتمثل بتأهيل الموظف الحكومي وحمايته من الانحدار في مسالك الخطيئة.
يساعد على تحقيق هذه المهمة تطوير عمل الموظف وقدراته، بالتزامن مع مضاعفة الرشد والنصح الذي ينبغي أن يتلقاه، مع حضور الدور الفاعل للضوابط الرادعة والفاعلة ضد الخطأ الاداري الذي قد يتعمّد الموظف في على ارتكابه، في هذا المضمار ينبغي السعي الجاد لإلغاء العقلية البيروقراطية القديمة التي اعتاد عليها الموظف، والتي تمثل تركة خطيرة من مخلفات النظام البيروقراطي، الذي اثقل كاهل المجتمع والدولة بمنظومة عمل قائمة على التعطيل وتعويق سرعة الانجاز، من اجل ابتزاز المواطن للحصول على منفعة مادية خارج القانون.
ولكن ينبغي أن يحرص الموظف على قضية مهمة جدا، وهي حماية رزقه ورزق أسرته من التلويث الذي قد يطوله من السحت الحرام، لاسيما أن المواطن ينظر الى الموظف كعامل مساعد على انجاز العمل وليس تعويقه، وهنا غالبا ما تتم إثارة تساؤل مباشر وواضح، يطرحه المواطن على المسؤول والموظف الحكومي مفاده، هل الموظف أداة ضرر أم نفع للمجتمع؟، بطبيعة الحال ينبغي ان يكون الموظف أداة نفع للمجتمع، كونه ينتفع من عمله الذي هو مصدر رزقه وعيشه هو وعائلته، وعليه أن يحافظ على نظافة هذا الرزق من الرشوة والابتزاز وتلويث المال الحرام.
ويرى المعنيون أن أفضل الموظفين هم أولئك الذين يتمتعون بنزاهة العمل وقوة الضمير، وعدم الاساءة للمواطن، وعدم استخدام أساليب مرفوضة قد تجبره على دفع رشوة مقابل انجاز حاجته الادارية، لهذا لابد ان يتعلم الموظف سرعة انجاز العمل المطلوب وليس معطلا له، على أن لا يكون التعجيل على حساب الاتقان والجودة والدقة في العمل، إذ يحدث حاليا في معظم الدوائر الرسمية التي يراجعها مئات بل آلاف المراجعين، لانجاز معاملاتهم التي تتوزع على مجالات واهتمامات وحاجات اساسية، يحدث نوع من الاهمال والتعويق غير المبرر للإنجاز.
الروتين وسلامة العمل الوظيفي
عانى العراقيون من الروتين، وأصيب الاقتصاد، والمنظومة الادارية بنوع من الكسل والتعقيد، بسبب طبيعة العمل البيروقراطي في الدوائر كافة، الادارية والخدمية والانتاجية والمالية ايضا، ويقول المواطنون أن الموظف يتعمّد تأخير الانجاز، مع سوء التعامل وغياب أماكن الانتظار التي تحترم قيمة المواطن كإنسان، ولا شك أن هنالك أدلة على قاطعة على انتشار ظاهرة الموظف المتلكّئ، الذي يتعمد انتهاج حالة التعطيل من اجل تحقيق فوائد معروفة، بعضهم يطلق عليها هدية، متذرعين في ذلك بأن الهدية مقبولة، وهو تبويب غير سليم عندما تدخل فيه المادة والأموال كرشوة.
علما أننا كعراقيين ينبغي أن نغادر زمن البيروقراطية الى الأبد، واذا كانت هذه الظاهرة لها ما يبررها في زمن ما، عندما كانت الاجور متدنية في عهود سابقة - مع ان تبرير الرشا خاطئ في جميع الاحوال- لكن اجور الموظفين الراهنة تؤكد عدم حاجتهم لقبول الرشوة، واللجوء الى اسلوب ابتزاز المواطن، وهو اسلوب رخيص يلجأ له بعض الموظفين الحكوميين، وهنا يبرز دور الموظف الاداري المسؤول (المدير) ومسؤوليته الوظيفية والقانونية والشرعية والاخلاقية، إذ تقع عليه الاخطاء الادارية التي قد تحدث ضمن دائرته.
لذا ينبغي على الرؤساء والمداراء متابعة أعمالهم ومسؤولياتهم بدقة وحزم ونظام، ولا يجوز الاهمال في هذا الجانب، لأن الموظف قد يسيء في عمله، فبدلا من تقليص مراحل انجاز المعاملات وتذليل المصاعب والاستفادة من الوقت، قد يحدث هو العكس تماما، حيث تلجأ بعض الدوائر الى وضع معرقلات بيروقراطية واضحة ومملة وقاتلة للوقت، وهو اسلوب طبع سلوك بعض الموظفين، لدرجة اننا لا نغالي اذا وصفنا بعضهم بالموظف الحكومي البيروقراطي الذي يحمل عقلية قديمة تشكل امتدادا للمنهج الاداري البيروقراطي المعروف.
يستدعي هذا الأمر، حسما وحزما في تطبيق النظام الاداري الصحيح، من أجل إلغاء جميع عمليات التعطيل وتقليص مراحل الانجاز الى ادنى حد ممكن، مع اعتماد الوضوح والنزاهة والشفافية في العمل، وهذه مواصفات يمكن إحداثها في العمل الاداري في دوائر الدولة ولكن تحتاج الى تدريب وصقل وتوجيه ومتابعة في تطبيق الضوابط على الصعيدين القانوني والذاتي في الوقت نفسه، وبهذا ربما تتاح للعراقيين فرصة مغادرة الزمن البيروقراطي الى الأبد.
اضف تعليق