لأن الثقافة تمر في أجواء غير مستقرة تتأرجح بالفوضى وبغياب الموازين والاستحقاقات العادلة، كما هو حالنا اليوم، ولأنها في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، ليست بأهمية الغذاء والكهرباء والنظافة، وغيرها من الاحتياجات اليومية الأساسية والملحّة، وربما لأن الموازنات الحكومية السابقة جعلت منها مجرد هامش سياسي عابر، وليس متناً حياتيا وجوهرياً مهماً يمكن أن ينهض بالبلد ويعيد له نبضه الحضاري والمعرفي والإنساني، ظلت أحوال الثقافة والمثقفين لدينا، بعيدة عن أضواء التقييم والمكاشفة وحتى المحاسبة والتحليل.
وقد يندفع أصحاب الشأن الى الاحتجاج والمطالبة بالكشف عن الخلل والاعوجاج بغية التغيير والإصلاح، شأنهم في ذلك شأن القطاعات المهمة الأخرى التي ظلت بعيدا عن متناول الإصلاح لعقود طويلة من الزمن، لذا يستدعي هذا الأمر وقفة جادة، تضع النقاط فوق الحروف، لمعرفة ما تتعرض له الثقافة والمثقفين من إجحاف وإهمال متعمَّد، وربما هذا الاهمال هو الذي سمح للفساد بالانتقال من السياسة والادارة والمجالات الاخرى الى الثقافة.
لذا أرى من المهم جدا، أن تبدأ حملات واسعة لكشف الفساد في أهم مفصل من مفاصل الشعب العراقي، ألا وهو الثقافة، وليس هناك مهرَبْ من الحديث عن الفساد الثقافي، لاسيما أن أهل الثقافة نفسها، يؤكدون بأن أخطر أنواع الفساد غير الظاهر للعيان هو الفساد الثقافي كون الثقافة هي الوجه الناصع للحياة، وفساد الثقافة يفسد الحياة، وليس هناك مغالاة في هذا القول، فالبلاد المثقفة شعبها سعيد متطور منتج ومتوازن، وينتمي الى الشعوب المبدعة.
وعكسها هي البلاد التي تضربها موجات الفساد بأنواعه، كما هو الحال مع العراق، أما القول بأن أخطر أنواع الفساد هو الفساد الثقافي، وهو استنتاج دقيق، فلأن الثقافة هي قمة هرم النقاء، وإذا فسدت الثقافة، فسد معها الجميع، إذ من المحال أن تجد سياسة نظيفة في دولة ثقافتها فاسدة وكذا الأمر بالنسبة للمجالات الأخرى، فالمنبع بالنسبة لنقاء حياة المجتمع والدولة هو الثقافة، وفسادها يعني فساد كل شيء.
شرنقة المطالب الفردية
وهنا يبرز دور المثقف في هذا الجانب، وتتحدد مسؤوليته، فهو إما مع الفساد أو ضده، ولا يصح مسك العصا من الوسط، أي لابد للمثقف من الإعلان عن موقف واضح يجعله في منأى عن الشبهات، لاسيما أن هناك من يرى بأن المثقف العراقي مازال بعيدا عما يجري في مضمار الثقافة، أو ليس بمستوى الأحداث ومطالب الناس والبلد، وبعضهم يرى أن المثقف اصبح أداة بيد السياسي وتابع له ومنفّذ لأهداف، ومروّج لأفكاره.
وبهذا المنظور فإن علّة المثقف العراقي تتلخص في أنه لا يتمكن من التخلص من شرنقة المطالب الفردية، على الرغم من أن هذا الرأي يتم طرحه من دون لبس او مهادنة، إننا ندخل هنا في العمق ومن دون تمهيد، انطلاقا من أهمية معالجة أمراض الذات أولا، نحن في الحقيقة – وأعني المثقفين-، لم نستطع أن نرتقي إلى المسؤولية الملقاة على عاتقنا، ولم نستطع أن نرتفع بسقف المطالب إلى المستوى الذي يليق بالمثقف، بل نحن كما أرى وألمس، نتنافس في مطالبنا مع المطالب البسيطة للناس البسطاء في أفكارهم.
إننا نطالب (بمنحة مالية قيمتها مليون في السنة تتوزع على 12 شهرا)، وهذا احد همومنا الكبيرة!، كذلك نحن نطالب بدار سكن وهو مطلب شعبي عام، وهكذا نحن كمثقفين لا نختلف عن ابسط الناس في المجتمع، أين هي قدرة المثقف والثقافة على قيادة الناس نحو عالم أجمل وأفضل وأكثر إنسانية؟، لذلك لا يمكن التعويل على مثقفين لا تبتعد نظرتهم لمشارف الحياة، أكثر من الرؤية البسيطة للمواطن البسيط.
إن هذا الخلل الكبير، هناك من يتحمل وزره حتما، وتقع في المقدمة من ذلك، المؤسسات الثقافية السابقة والحالية، فهي تتحمل مسؤولية كبيرة لما يحصل للثقافة والمثقفين من انتكاسات مستمرة لأن التجارب الناجحة أو الفاشلة تُبنى على أساس التراكم، ولذلك لا يمكن إهمال ما مضى من فعاليات ونشاطات وقرارات تتعلق بالثقافة، فهي في الحقيقة تتراكم فوق بعضها، لتشكل امتدادا قد يصح أن نسميه (أخطبوطيا)، من الصعب التخلص منه.
إذاً فأخطاء الثقافة في الأمس لها تأثيرها على الثقافة والمثقفين الآن، بل على المجتمع العراقي كله، مثلما أخطاؤنا الآن لها تأثيرها على ثقافة الأجيال القادمة، لذلك يُقال إن الأسس السليمة هي التي تقود إلى البناء السليم ويصح العكس، من هنا نستنتج، أن الطرفين لهما تأثير في ضحالة الواقع الثقافي، والأخطر من ذلك انعكاس هذا الواقع على المجالات الأخرى، وقد لا نخطئ إذا قلنا إن الطبقة السياسية الفاسدة هي نتاج حتمي لفساد الثقافة.
مشاريع ثقافية يشوبها الفساد
ولعل بعضهم يطالبنا ببعض الأدلة تدعم ما ذهبنا إليه، فنقول ان هناك مشاريع ثقافية تبنّتها وزارة الثقافة، وصرفت عليها مليارات من اموال العراقيين، وقد شابها الفساد، ولم تخضع للمراجعة ولا للحساب، وهي تدخل ضمن المشاريع المتلكئة الجوفاء التي أساءت للثقافة وللشعب بدلا من تخدمهما.
كذلك نؤكد في هذا المضمار، بأن المهرجانات الأدبية والثقافية لم تضفْ شيئا للمنجز الثقافي العراقي، ولعل من أخطر ما أفرزته مرحلة ما بعد نيسان 2003، هي ما نسمّيه (فوضى المهرجانات الأدبية الشكلية)، بطبيعة الحال نحن لسنا ضد المهرجانات والندوات الثقافية، ولكن عندما تتحول مثل هذه النشاطات (المفبركة) إلى (الفوضى والارتجال والاستعراض)، فهي لا تخدم المجتمع ولا الدولة ولا حتى الثقافة نفسها.
لقد تم صرف الكثير من الأموال على مئات المهرجانات الأدبية والثقافية، وهناك أرقام تصل إلى مليارات يشوبها الفساد كما سبق ذكره، عن مشاريع ومهرجانات ثقافية وما شابه، علما أنها لا تقدم شيئا للناس، كما أنها برأيي تسيء للمثقف والثقافة العراقية، إلا في حالة تقديمها خدمة ثقافية (أفقية) وليست جمالية استعراضية، محصورة بعشرات من الأدباء والكتاب لا أكثر، بعض هذه المهرجانات راسخة حتى لو تتخللها بعض العيوب (كمهرجان المربد)، ولكن بصورة عامة لا أرى فائدة ملموسة من كثرة المهرجانات الأدبية.
هذا هو المثال الملموس عن الفساد الثقافي، أو بعض ما يشوب هذا القطاع من مشكلات تنعكس على عموم النشاط المجتمعي، علما أن هذا الفساد يرافقه إهمال للمنجز الثقافي العراقي فيما يتعلق بطبع الكتب ونشرها وتوزيعها، فكان يمكن للمليارات التي تم إهدارها في مشاريع ثقافية فاشلة، أن تنهض بالكتاب العراقي وتروج له عربيا وعالميا.
ومن القضايا المهمة التي تم تأشيرها على الثقافة في العراق، هي مشكلة معاناة الكتاب، وهي في مجملها تتعلق بالطباعة والنشر والتوزيع في المعارض العربية والدولية، والسبب كما نعتقد يكمن في الاعتماد على الجهد الرسمي في هذا الجانب، وضعف أو غياب دور القطاع الخاص في مجال طبع الكتب، وعلى الرغم من الاتفاق على أن (رأس المال جبان)، لا يغامر في مجال خاسر، إلا أن طباعة الكتب أمر مختلف، لابد أن يتحمل القطاع الخاص مسؤوليته في هذا المجال.
وفي الختام، ليس أمام المثقفين والمعنيين بالثقافة جميعا، إلا النهوض بالثقافة كونها تعني النهوض بالبلد، فالثقافة تحتاج إلى جهد وتخطيط وتنفيذ كمن يحاول أن ينهض بالعراق كله، لذلك ليس غريبا أن نجد تراجعا متزامنا ومتلازما بين الثقافة وبين أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والصحية وسواها، أما النهوض بالثقافة فيعني أننا بدأنا بالتصحيح، وهذا كما ذكرنا يحتاج إلى جهد كبير وحقيقي ومخلص في مجال التخطيط والتنفيذ، بعقول وإرادات عراقية تحب العراق وتؤمن به.
اضف تعليق