كان عددٌ غير قليل من الرجال والنساء ذوي الهمة والنشاط، يؤمنون بالدمقراطية في القرن الماضي، ولكنهم كانوا يخوضون في سبيل إيمانهم غمرة من العادات والمعتقدات القديمة، يزينها كثيرٌ من الألفاظ الطنانة الرنانة، فقد نشر كثيرٌ من الكتب للاحتجاج على كل توسعٍ في منح السلطة السياسية والاجتماعية لعامة الشعب ودهمائه...
إن خير وسيلة لمعرفة معنى الدمقراطية، أن ننظر إلى ما يعمله مَن نعيش بينهم من الرجال والنساء، فإذا فعلنا ذلك رأَيْنا عامة الناس؛ رجالهم ونساءهم في بعض البلاد يتمتعون بقسطٍ من السلطة السياسية، عن طريق الجمعيات النيابية والوزارات المسئولة، وتلك هي الدول الدمقراطية.
لكننا نرى الشعوب في أكثر البلاد تسيطر عليهم فئة قليلة من الحكام، سلطانهم مُطلَق من كل قَيْد، ولا يُباح للناس أن يَنقدوه، وفي بعضها أُعيدت منذ عهدٍ غير بعيد السلطة السياسية بشكلها القديم. فالدمقراطية التي نحن بصددها حديثة العهد جدًّا، وقد كان لهذه «الدمقراطية» الجديدة في القرن الماضي عِدَّة معانٍ مختلفة، أما الآن فيَلُوح أن الذي يفهمه معظم الناس منها، هو حق العدد الكبير من أفراد الشعب العاديين في كل بلدٍ من البلاد أن يستبدلوا بحكامهم حكامًا غيرهم، ويُشرفوا بعض الإشراف على طريقة حكمهم، ويتناقشوا علنًا في كل طرائق الحكم وقرارات الحكومة، مناقشة مصحوبة بحريتهم في انتقاد جميع ولاة الأمور.
ولا شك في أن هذه الطريقة الجديدة من طرق الحكم بشقَّيْه؛ السيطرة والخضوع، أكثر تعقيدًا من الطرق القديمة، كما أن الآلة المولِّدة للكهرباء المستخدَمة في الإضاءة أكثر تعقيدًا من الشمعة، وهذا الاختلاف في الوسائل يؤدِّي إلى اختلاف في النتيجة، فإذا وُجد عدد كافٍ من الناس يرغبون في أن يَجنُوا تلك الثمار التي تُنتِجها الدمقراطية، كان في مقدورهم عادة أن يَجِدوا الوسائل التي تمكِّنهم من تسيير الآلة الحكومية الجديدة، على أن ما قام به الناس من التجارب وما بذلوه من الجهود لمعرفة الطرق المختلفة لسير الحكم الدمقراطي، قد أنسى الكثيرين منهم الغَرَض الذي مِن أجْلِه بُذلت هذه الجهود الأولى، أنساهم أن الغرض الذي من أجله قامت كل الحكومات سواء أكانت دمقراطية أم غير دمقراطية، هو أن تسهل على الناس أن يعيشوا بعضهم مع بعض، لكن من أصعب الأشياء بطبيعة الحال، أن يعيش الناس بعضهم مع بعض إذا سار كل منهم على هواه، وفي الناس كثيرون لا يعرفون لأنفسهم «هوًى» خاصًّا مطلقًا؛ ولذلك قد تَجِد منهم مَن يُعارض الدمقراطية؛ لأنها لا تُنِيل الإنسان ما يشتهي من جهة؛ ولأنه لا يشتهي ما تُنِيله إياه من جهةٍ أخرى.
وكان أهم القوى التي أدَّت إلى نشأة الدمقراطية، هي رغبة طائفة المُلَّاك والتجار في أن يُسيطروا على النظم التي يعيشون في كنفها، وشعور العَدَد الكبير من الناس أن مشيئة الحاكم وهواه أضرُّ الأشياء بدافعي الضرائب، ولقد كانت هذه المعركة في بعض الأحيان بمثابة احتجاج على السيطرة «الخارجية»، كما حدث في حرب الاستقلال التي أثارتْها المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية، فلما نالتْ هذه الولايات استقلالها، أنشأتْ لنفسها حكومة ذات سيادة لا يرأسها مَلِك، وقائمة على أساس دمقراطي، كما جاء في إعلان الاستقلال الصادر في عام ١٧٧٦ وفي الدستور الذي وُضع في عام ١٧٨٧، وكانت الحكومة الفرنسية قد أعانت هذه الولايات المتحدة في نزاعها مع بريطانيا العظمى، كما كان الكُتَّاب الفرنسيون على علمٍ بالنظرية البريطانية في الحقوق المدنية، ثم شبَّتْ في عام ١٧٨٩ ثورة في فرنسا، انتهتْ بإعدام مَلِكها في عام ١٧٩٣، وإعلان الجمهورية فيها، وخروج هذه الأمة، التي ظلَّتْ أكثر من قرنٍ من الزمان تتولَّى زعامة المدنية الأوروبية، خروجًا تامًّا على مبادئ الحكم القديم، التي كانت تقوم عليها سياستها الداخلية والخارجية، واستعار الفرنسيون من الأمريكيين ما كانوا يردِّدونه في أقوالهم عن «حقوق الإنسان» و«سيادة الشعب»؛ ليعبِّروا به عن المبدأ الجديد الذي سيتخذونه قاعدة لنظام الحكم في بلادهم.
وقد جاء في إعلان حقوق الإنسان الصادر في عام ١٧٨٩، والذي أقرَّتْه الجمعية الوطنية في باريس، أن الجهل واحتقار حقوق الإنسان هما كل أسباب بؤس الشعب وفساد الحكم، وتنص المادة الأولى من هذه العقيدة الجديدة على أن الناس يُولَدون متساوِين ويظلون أحرارًا متساوين في الحقوق، وجاء في المادة الثانية أن الغرض الذي تقوم من أجله كل هيئة سياسية، هو المحافظة على حقوق الإنسان المقرَّرة الطبيعية، وتقرر المادة الثالثة أن الأمة مصدر السيادة والسلطات جميعها، وتفترض المادة السابعة عشرة أن من البديهات الأولية أن: «حق المَلِك حقٌّ مقدَّس لا يصحُّ التعرُّض له»؛ وبذلك أصبح ما كان من قبل مجرد نظريات فلسفية قوة عظيمة الأثر في نظام الحكم، ومع أن المعاني المقصودة من ألفاظ «الحقوق» و«السيادة» و«الأمة» و«الملك» لم تكن واضحة كل الوضوح، فإن القوم قد خَطَوْا خطوة جديدة من الوِجْهة العملية، في إقامة سلطة الحكم على رضاء مَن لهم مصلحة مباشرة في الشئون العامة، وبخاصة مَن كان لهم شيء من المُلْك، وبهذا أصبحتِ الدمقراطية، كما نفهمها نحن، حقيقة سياسية واقعية.
وقد استمدَّ الأمريكيون والفرنسيون نظريتهم من الكُتَّاب الإنجليز وبخاصة من جون لك John Locke، وتأثَّروا في سياستهم العملية بما كان سائدًا من الآراء عن معنى نظام الحكم البرلماني البريطاني، ولكن علينا ألَّا نَنسَى أنَّ البرلمان البريطاني في تلك الأيام كان يُسيطر عليه كبار المُلَّاك، وأن انتخاب النواب كان في الواقع مهزلة يُمَثِّلها عدد قليل من الناس ورثوا هذا الحق أو ابتاعوه، وأن المسئولية الوزارية أمام الهيئة المنتخبة بالمعنى الذي نفهمه منها الآن لم يكن لها وجود، كذلك كانت الوظائف المدنية هِبَة يَهَبها النفر القليل الذي يسيطر على الحكومة، وكانت الرشوة متفشِّية في جميع الإدارات، ولكن تقاليد معينة للخدمة العامة كانت موجودة في ذلك الوقت، وإنْ لم يَلتَفِت إليها أصحاب النظريات السياسية، أخطأ الناس في فهم نظام الحكم البريطاني خطأ كان من أهم أسبابه ما كتبه عنه منتسكيو Montesquieu،٨ لكن الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين كانوا رغم هذا واضعي أساس الدمقراطية الحديثة، لقد كانت النظم التي تتألَّف منها طريقة الحكم الجديد نظمًا إنجليزية، كما كانت المُثُل العليا لهذا الحكم إنجليزية أيضًا، ولكن ما فهمه الفرنسيون من هذه النظم وتلك المُثُل كان له أكبر الأثر في البلاد الأخرى.
نَعَمْ، إن بعض مقاطعات في سويسرا قد مارست نظام الحكم الشعبي في نطاقٍ ضيق، وإن طوائف صغيرة من التجار في جميع أنحاء أوروبا وبخاصة في ألمانيا وإيطاليا، قامت بتجارب في حكم المدن دامت عدة قرون، ولكن أنصار الحكم الدمقراطي نفسه كانوا حتى أواخر القرن الثامن عشر، يشكُّون في إمكان قيام هذا النظام في نطاقٍ واسع يشمل أمة بأجمعها؛ ذلك بأن عَقَبَتَيْن كانتا تقومان في سبيل هذا النوع من الحُكْم؛ أُولاهما: أن في الحكومة الواسعة النطاق لا يستطيع المحكومون أن يؤثروا بأنفسهم في حكامهم، والعقبة الثانية: أن الحرب وهي من شئون الدولة قد تركتْها الحكومات البلدية دون أن تقرِّر في أمرها شيئًا، والحق أن طبقة البورجوازي Bourgeoisie، وهو الاسم الذي أُطلِق على التجار والموظفين في ذلك الوقت، كانت «طبقة ثالثة» لم يسبق لها تجارب في الحكم الأممي الواسع النطاق؛ ولذلك واجهت صعابًا «داخلية» في علاقة الشعب بحكومته، وأخرى خارجية في علاقات الحكومات بعضها ببعض.
فأما الصعوبة الأولى وهي الصعوبة الداخلية، فقد ذُلِّلتْ بتعديل نظام النيابة الذي كان سائدًا في العصور الوسطى وبالتوسع فيه، وذلك بأن جُعل «للشعب صاحب السيادة» حق اختيار بعض أفراده لينطقوا باسمه، لقد كان «الشعب» نفسه هو الذي يضع القوانين، ويسيطر على الحكام في «دمقراطيتَيْ» أثينا وروما القديمتين، بل وفي بعض مقاطعات سويسرا، وكان بعض الكُتَّاب ومنهم روسو Rousseau بصفةٍ خاصة، لا يعترفون بأن الشعب «حرٌّ» من الوجهة النظرية، إلا إذا اشترك جميع أفراده اشتراكًا مباشرًا في السياسة العامة، لكن فكرة النواب والأنصار كانت مع ذلك فكرة معروفة في ذلك الوقت، يُلجَأ إليها في تقديم الشكاوى؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يُفرَض أن الشعب يظل صاحب السلطة العليا، إذا اختار كله عددًا قليلًا من أفراده ليعملوا باسمه ما لا يستطيع أن يعمله هو بنفسه، وكانت أقدم الطرق لاختيار النواب طريقة القرعة، وتلك من غير شك هي خير الطرق لاختيار شخص عادي يمثل مجموعة متجانسة، ولكن طريقة الانتخاب الحالية كانت الطريقة العادية لاختيار القائم بأعمال السلطة التنفيذية، فلما اتبعت هذه الطريقة الأخيرة في الانتخاب، أصبح النواب الجدد رجالًا أخصائيين في عملهم الجديد، ولَيْسوا «رجالًا عاديين متوسطين».
وكان الانتخاب، إذا وجد اختلاف في الرأي، يتطلب فرز الأصوات، ومن ذلك نشأت عادة تقرير الرأي بالأغلبية، واتبعت الهيئة المنتخبة في أعمالها نظام إصدار القرارات بالأغلبية، الذي بمقتضاه نال أفرادها حظَّهم من السلطة؛ ولذلك حَرَصوا على أن تدلَّ نظرياتهم على أن «إرادة» أغلبية الجمعية هي حقيقة «إرادة الشعب»، أو أنها هي الطريقة العملية الوحيدة لتمثيل هذه الإرادة، ولقد أَلِف الناس في معظم البلاد نظام التمثيل النيابي وحكم الأغلبية، حتى لَيُخَيَّل إليهم أنه من الوسائل الطبيعية التي لا غِنى عنها في نظام الحكم، وأصبحوا منذ بداية القرن التاسع عشر يَرَوْن أن من الأمور البديهية أن يقوم الحكم على «رضاء المحكومين»، وأن يكون «الرأي العام» هو القوة المحركة في السياسة العامة، والحق أن أحدًا من الناس لا يكاد يرى أن مِن واجبه أن يسأل: هل يوجد حقًّا شيء يقال له: «إرادة الشعب» أو «الرأي العام»، وإذا وُجدا فما هو كنههما؟ وليس معنى هذا أن الأفكار القديمة عن الحكم الدمقراطي الأول أفكار خاطئة أو مُضلِّلة، كلَّا، إن هذه الأفكار كان مرجعها هو الحقائق، وهي التي دفعت الناس في طريق العمل، ولكننا الآن أصبحنا نعرف الشيء الكثير عن الحقائق التي بُنيت هذه الأفكار عليها، والفضل في ذلك راجع إلى علم النفس وتاريخ الإنسان الطبيعي والتاريخ الثقافي، لكن الحقيقة التي لا تزال قائمة على الرغم من هذا العلم، هي أن ما يعتقده الناس في الحكم لا يكاد يقلُّ أهمية عن حقائق الحكم نفسها، ومعنى هذا أن الاعتقاد في حدِّ ذاته حقيقة كغيرها من الحقائق الأخرى، ولما كان الناس يعتقدون أن الاقتراع يُظهِر «الرأي» أو «الإرادة»؛ أي الرأي المقرون بالعمل، فقد أصبح الغرض الذي ترمي إليه النظم الدمقراطية، أن تجعل رأي السكان جميعهم أو إرادتهم تُسيِّر أعمال الحكومة أو تؤثر في سَيْرها.
ولقد كان عددٌ غير قليل من الرجال والنساء ذوي الهمة والنشاط، يؤمنون بالدمقراطية في القرن الماضي، ولكنهم كانوا يخوضون في سبيل إيمانهم غمرة من العادات والمعتقدات القديمة، يزينها كثيرٌ من الألفاظ الطنانة الرنانة، فقد نشر كثيرٌ من الكتب للاحتجاج على كل توسعٍ في منح السلطة السياسية والاجتماعية لعامة الشعب ودهمائه، وقال المثقفون: إن الدمقراطية سوف تقوض دعائم النظام، وتقضي على الثقافة والحرية «الحقيقية»، ويقصدون بتلك الحرية من غير شك ما يتمتعون هم به منها، ولا يزال بعض هؤلاء يردِّدون هذا القول في أيامنا هذه، وأما المتطرفون المتحذلقون فقد أخذوا يندبون ما سيصيب الحكومة من اختفاء «روح العصر»، وغيره من العناصر الأخرى ذات الروعة والجلال، لكن حق الانتخاب مع ذلك أخذ يتسع في القرن الماضي حتى ناله كثيرٌ من عامة الشعب، وأخذت رقابة هؤلاء العامة وسيطرتهم على الحكومة تزدادان وتقويان، وصارت مزايا القانون والنظام توزع بين أفراد الشعب عامة توزيعًا أقرب إلى العدل والمساواة، كذلك أمست العلاقة بين الحكومات بوجهٍ عام أبعد عن علاقة المصارعين أو القرصان، وأقرب إلى مبادئ السلم والعدل التي نادت بها الثورة الفرنسية، ولم يبقَ للحرب الآن في قلوب الناس ما كان لها من الإجلال منذ قرن من الزمان، ويرجع معظم الفضل في ذلك إلى الدمقراطية.
غير أن النجاح الذي لاقتْه جهود عامة الشعب للاشتراك في السلطة العامة، قد انتقص في أوروبا بين عامَيْ ١٧٩٣، ١٨٣٠، لكن مبادئ حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية أخذت تستجمع قواها مرة أخرى، واتسع نطاق حق الانتخاب في كثيرٍ من بلاد أوروبا الغربية، وتم إلغاء النخاسة والرِّقِّ بعد ذلك، واستمتعت طبقات التجار وأصحاب الأعمال بالإشراف على السياسة العامة، وشبَّتْ في العَقْد الرابع من القرن الثامن عشر وكذلك في عام ١٨٤٨، عدة ثورات «حرة» ومنح الملوك في بعض البلاد «دساتير»، سمحوا فيها بجزءٍ يسير من السلطة لعددٍ قليل من رعاياهم المصطفَيْنَ، ولم يحلَّ العَقْد الثامن من القرن التاسع عشر، حتى كان البلد الذي يُسَيْطر عليه هوى مَلِكه وبطانته ومشيئتهم المُطلَقة يُعَدُّ بلدًا من الطراز العتيق، ولم يَجِدِ الملوك بدًّا من أن يعترفوا بصراحة مختلفة الدرجات بأنهم مدينون بسلطانهم «للشعب»، ولم يلبث رؤساء الجمهوريات أن قُبِلوا في الأوساط الممتازة من المجتمعات الدبلوماسية، وبذلك تقربت الملكية القديمة من المَثَل الأعلى الدمقراطي، لكن دُعاة هذا المَثَل الأعلى قد تقربوا أيضًا من النظام القائم وقتئذٍ.
اضف تعليق