الدولة تنظر إليها على أنها منظمة ترمي إلى تحقيق سعادة الأفراد، وأن سلطتها كقوة تنطوي تحت لواء هذا الهدف، وأن الحرية هي انعدام وجود القيود، وهي شرط أساسي لتحقيق السعادة، وأن الدولة لم تخوِّل الحق في انتهاك تلك الحقوق التي تعتبر المعالم التي تحدد لنا أنماط السلوك. ويقدر...
ويجب أن تُوضع الفكرة الأساسية للدولة في هذا الإطار. فمن الناحية التاريخية نجد أن ما فعله الفيلسوف السياسي هو اتخاذه نظرية المشروع في الدولة، ومحاولة اكتشاف مبرر خارج نطاق مرافعات المحامين، وهي في الوقت ذاته يمكن تطبيقها في نظرة على أعمال الدول القائمة، وعندئذ تصبح النظرية الفلسفية وسيلة لتبرير تلك الدول التي نعرفها، وإن استحقاق تلك الدول للطاعة قد قام على أساس علاقتها بالنسبة للدولة المثالية والأهداف التي يعزوها الفيلسوف إليها.
وأيسر السبل لتوضيح هذه القضية هي دراسة النظرية المثالية -هذه النظرية التي ما زالت تسود في وقتنا الراهن- دراستها في إطارها القديم. فهي كنظرية تعرف الدولة على أنها منظمة الجماعة التي تعتبر وظيفتها الاحتفاظ بالإمكانيات الخارجية الضرورية لحياة أفضل يمكن للإنسان أن يحياها، ونحن مدينون لها بالولاء على أساس أنه عندما نطيع أوامرها فنحن في الواقع نطيع هيئة من الهيئات وظيفتها نشر الرخاء الذي ينطوي عليه رخاؤنا الشخصي.
ومن الواضح أن توجيه هذا التعريف إلى ناحية وجود الدول الحقيقي سيثير مشاكل عدة، مثل: هل لنا أن نقول مثلًا عن الدولة الهتلرية: إن لها وظيفة الاحتفاظ بالإمكانيات الخارجية الضرورية لحياة أفضل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الأسباب التي يقوم عليها هذا الزعيم؟ وهل هذا لأنها تتظاهر بهذا المظهر؟ وفي هذه الحالة، هل نأخذ التصريحات التي يدلي بها الرسميون المختصون عن أغراض الدولة على أنها المقياس المعتمد الموثوق به للحكم على هذه الأهداف؟ أم أن ذلك لأن هذه التصريحات يقبلها هؤلاء الذين توجه إليهم ويعتبرونها معتمدة موثوقًا بها؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما معنى «يقبلها»؟ هل تعني انعدام المقاومة الفعالة لمثل هذا التصريح والإعلان؟ والمؤكد أنها لا تعني أكثر من هذا.
فاليهود والاشتراكيون والشيوعيون والأحرار يصرون جميعًا على أن الدولة الهتلرية تحرمهم من هذه الإمكانيات الخارجية التي يعتبرونها أمرًا ضروريًّا بالنسبة «لحياة أفضل»، والواقع أن هذا يعتبر إنكارًا لأبسط مبادئ الإدراك السليم.
والحقيقة هي أننا إذا اتخذنا النظرية المثالية مقياسًا للحكم على الدول الكائنة فعلًا فإنها ستدفعنا إلى الجدل في أن الدولة تكون هي الدولة عندما «تحافظ على الإمكانيات الضرورية لحياة أفضل»، ولكنها لا تعتبر كذلك عندما لا تحتفظ بهذه الإمكانيات، ولا يحتاج إبهام هذا الرأي وغموضه إلى أي تأكيد؛ لأنه يترك الباب مفتوحًا للتساؤل عمن هم القضاة الذين يفصلون بين هذين النوعين من النشاط، وما هي الحقوق التي بيدهم عندما يقررون باعتبارهم قضاة أن أولئك الذين يزعمون أنهم يعملون باسم الدولة -بسبب ما تنطوي عليه أنماط سلوكهم- لا يمثلون الدولة بالمرة.
ومن الواضح -على ما أعتقد- أنه إما أن يكون تعريف وظيفة الدولة عاملًا يمكننا دائمَا من الربط بين ما تقوم به من الأعمال وبين أفعال تلك الهيئة من الرجال المختصين بمقتضى القانون بممارسة سلطتها؛ وإلا اضطررنا إلى الرجوع إلى تعريف تراسيما خوس للعدالة بأنها هي حكم الأقوى، وعلى أساس هذا الرأي تكون دعوى الدولة في حق الطاعة لها، ما هي إلا لأن في يديها السلطة العليا، ولكن في الحقيقة لا يوجد شخص مثالي يقيم حقها في الطاعة على هذا الأساس.
وينطبق هذا النقد على تعريف آخر هو تعريف الدكتور بوزانكيه الذي يقول: «إن الدولة هي الهيئة المعترف -عادة- بأنها وحدة ذات حق قانوني في استخدام القوة.» ومن الواضح أن صحة هذا التعريف تتناقض مع ذلك المعنى الذي يقترن بكلمة «قانونًا». فإذا لم تكن أكثر من مجرد نسبة اختصاص رسمي إلى الدولة؛ فإنها حينئذ تكون وصفًا دقيقًا لطبيعة الدولة، كما نعرفها من أعمال الدول الكائنة فعلًا، ولكن إذا لم يقف الأمر عند هذا الحد، نجد أنها إما تعتمد على وجهة النظر التي تقول بأن الواقع هو المثل الأعلى، أو على نظرية أهداف القانون التي يجب أن تكرس الدولة نفسها لتحقيقها. أما في الحالة الأخيرة فإننا نجد أن «ممارسة السلطة قانونًا» تعني أن ممارسة السلطة من أجل أهداف معينة تعتبر أمرًا حيويًّا من أجل أسباب لا تدخل في النطاق الشكلي للقانون، وعندئذ تصبح المشكلة مشكلة ذات وجهين: الأول بشأن ما هي هذه الأهداف؟ والثاني بشأن من الذي يحكم على ما إذا كانت هذه الأهداف قد نفذت أو لم تنفذ.
أما الطريقة المثالية للهروب من هذه الورطة؛ فتكمن في المعنى الخاص الذي تضفيه على فكرة الحرية.
فمن الناحية التاريخية، وقد كان المقصود من الحرية حتى وقت روسو -ولدى أغلب المفكرين- هي أنها انعدام الضغط والإكراه، وأن الفرد يتمتع بحريته عندما يستطيع أن يحدد نمط السلوك الذي يتخذه دون أن يُجبَر على اتخاذ نمط معين، وما دامت الدولة منظمة إلزامية، فبالتالي تتضمن أعمالها بعض الافتئات على الحرية الفردية. ولقد كان من المسلَّم به ضرورة وجود هذا الافتئات، ونحن نعرف أن القانون ضد الجريمة، ولكن بعض القوانين تعتبر قيودًا على الحرية الفردية، بيد أن هذا الافتئات له ما يبرره عندما نشاهد النتائج، ولقد نُظر إلى بعض الحريات كحرية الكلام أو الكتابة دون أن يقع أي قصاص على الفرد على أنها من التجارب التي تمر بها الحكومة، وأن الدولة التي تَحْرِم الناس من هذه الحريات تكون مدفوعة بالتجرد من الأهداف.
ومن اليسير إدراك الخبرة التي تنطوي عليها هذه النظرة وإدراك أن الأفراد الذين يكافحون في سبيل تخويلهم الحق تحديد الديانة التي يعتنقونها أو تشكيل التشريع المدني الذي يعيشون في ظله، ولا ينددون بالدولة بطريقة غير طبيعية على أنها سلطة طاغية تحول بالقوة بينهم وبين نيل مثل هذه الحقوق. فبالنسبة إليهم ليس من المهم أن تكون الأساس الذي تستند إليه الدولة لكي تحمي ما تقوم به من الأعمال هو سعيها إلى الخير العام، أو حماية العقيدة الدينية، أو حفظ النظام، فلقد وجدوا -أو اعتقدوا أنهم وجدوا- أنه عندما تقوم الدولة بحرمانهم من هذه الحريات، فمعنى ذلك أنها تحول بينهم وبين تحقيقهم السعادة. وقد نظروا إلى الدولة (ولا سيما بعد الثورة الدينية وثورة العلوم في القرنين السادس عشر والسابع عشر) على أنها منظمة وُجدت بصفة أساسية لتحقيق سعادة الأفراد، وليس صحيحًا على ما أعتقد أنهم وضعوا الفرد فوق الدولة، وكانوا يرون الدولة على أنها ملتزمة بأغراض معينة يجب أن تتطابق طريقة معيشتها كدولة مع تيسير تحقيق هذه الأغراض.
وإن مثل هذا الإدراك لمدلول نظرية الدولة يمكن توضيحه عندما نقول: إن الأفراد يُنظر إليهم على أساس حيازتهم حقوقًا أساسية معينة، أو بعض الحقوق الطبيعية ليس في سلطة الدولة انتهاكها أو الاعتداء عليها قانونًا، ونعني بهذه الحقوق أنماط السلوك التي بدونها لا يمكن تحقيق السعادة.
وهذه تتغير طبقًا للزمان والمكان ولمدارس الفكر المختلفة، فنحن نجد في بعض الأحيان أن الحرية الدينية هي التي حُرموا منها، وعندئذ يقوم أي مفكر مثل أكونتيوس أو كاستيلون أو لوك بتوضيح السبب وهو أن الحق في الحرية الدينية يعتبر جزءًا لا يتجزأ من الخير الاجتماعي، كما نجد في أحيان أخرى أن الشر الذي يشكو منه هو الحكومة.
ولكننا نجد أن مفكرًا مثل كلود جولي، والذي عاش في فرنسا في القرن السابع عشر، أو ليفلرز، الذي عاش في إنجلترا في القرن السابع عشر، سيدافع عن حق الأفراد في رسم سياسات الحكومة التي تحدد سبل الحياة.
ولا يهمنا كثيرًا الدخول في تفصيلات هذا الجدل، ولكن الذي يهمنا هو تفاصيل الاتجاه العام. ويعتمد هذا الاتجاه على مبدأين أساسيين، أما الأول فهو أن السلطة التي لاحول لها تعتبر سلطة تفتك بالذين يمارسونها والذين يقعون تحت طائلة هذه الممارسة. أما المبدأ الثاني فهو أن القيود التي تُفرض على السلطة ستتحدد تحديدًا تامًّا، حتى إن نواحي النشاط المعينة على الأقل في ظل الأحوال العادية -سنحرم منها السلطة ذات السيادة في أية جماعة، وأن المحاولة - وهي محاولة مستحيلة - لإيجاد أساس قانوني للحق في الثورة كما حدث في سني ١٦٤٢م و١٦٨٩م و١٧٧٦م و١٧٨٩م لم تصدر عن شيء مثلما صدرت عن ذلك المجهود الذي بُذِل لإكراه الدول على اتباع أنماط السلوك التي يعتبرها الأفراد في وقتٍ ما أمرًا له أهميته، وأن النظريات التي يدافعون بها عن وجهات نظرهم ما هي إلا جهود تُبذَل لتحويل الشعور بالاحتياجات الخاصة إلى شعور بالاحتياجات العامة تُطبق على كل زمان ومكان.
ويتميز تاريخ الفلسفة السياسية من فترة الإصلاح حتى الثورة الفرنسية بصفات خاصة هي أن الدولة تنظر إليها على أنها منظمة ترمي إلى تحقيق سعادة الأفراد، وأن سلطتها كقوة تنطوي تحت لواء هذا الهدف، وأن الحرية هي انعدام وجود القيود، وهي شرط أساسي لتحقيق السعادة، وأن الدولة لم تخوِّل الحق في انتهاك تلك الحقوق التي تعتبر المعالم التي تحدد لنا أنماط السلوك. ويقدر ما لاقته هذه التقاليد التي تمثلها هذه الصفات من إنكار، بقدر ما لاقته من تأكيد، كما أن قبول التقاليد بأية طريقة يكاد يكون قبولًا تامًّا حتى منتصف القرن التاسع عشر.
والشيء الجدير بالتحقيق هو أن الدولة بحكم وجودها لن تكون غاية في حد ذاتها، ولكنها دائمًا وسيلة إلى غاية. ولأن الفرد له كيانه الخاص المحدود؛ نجد أنه يُنظر إليه على أنه موجود في الإطار الخاص به، وليس مجرد وحدة تقوم بخدمة الدولة التي ينتمي إليها، وتعتبر سعادة الفرد لا سلامة الدولة هي المقياس الذي به تصدر الأحكام على المسلك الذي تنهجه، وإن مصالحه -لا صولجانها- هي التي تحدد السلطة المخوَّلة لها لممارستها.
وإن التقاليد -التي تُطلق عليها تقاليد الدولة المتحررة حتى يكون المعنى أعم وأشمل- لم تسِرْ بالطبع دون مقاومة، فلقد هاجمها هوبز بلباقة في القرن السابع عشر على أساس أنه من الضروري أن تؤدي محاولتها تقييد مطالب السلطة إلى الفوضى. ولقد ردد دي ميستر في نهاية القرن الثامن عشر وجهة النظر هذه، وإن اختلف التأكيد اختلافًا كبيرًا، والتفسير الوحيد لمولد التقاليد الحرة هو التغيير في السلطة الاقتصادية التي اصطحبتها. وهي تعتبر طريقة لتبرير تحويل السلطة السياسية من الأرستقراطية المالكة إلى الطبقة الوسطى التي تشتغل بالتجارة.
ولقد ذكرت مبادئها - مثلها في ذلك مثل جميع الفلسفات التي تسعى إلى تبرير مثل هذا التحوُّل، في صيغة لها مدلولها الأوسع في النواحي النظرية وفي المنطق من مدلولها في النواحي العملية. ولقد أعلن هؤلاء الأفراد الذين قاموا بالثورات الإنجليزية والفرنسية أنهم هم أبطال حقوق الإنسان، وبالرغم من ذلك فإن أي تحليل للمقاييس التي بها استطاعوا التأثير في مبادئهم أو أن أي تحليل للمطالب التي نظروا إليها على أنها أمور غير مقبولة سيوضح لنا أن «حقوق الإنسان» قد قُصد منها في الحقيقة حقوق تلك الطبقة المحدودة من الرجال الذين في أيديهم أدوات الإنتاج في المجتمع، وأن التقاليد الحرة إذا نُظر إليها من الناحية التاريخية لهي ثورة فكرية كانت تهدف إلى تحقيق مصالح الملَّاك في الميدان الصناعي الجديد.
وما من شك في أنها تمثل نفسها أكثر من ذلك؛ لأنها من الناحية الأخرى - لم يكن في مقدورها أن تنال - كما نالت - تأييد الأفراد بحماسة، هؤلاء الأفراد الذين يُعتبرون في فقر مدقع، حتى إنهم لا يستطيعون أن يمتلكوا شروى نقير.
وبالرغم من ذلك فإن ما يسترعي الانتباه في كل مرحلة ثورية من مراحل التقاليد الحرة سواء أكان ذلك رد فعل يحمل طابع كرمويل في إنجلترا أو تيرميدور في فرنسا - هو خيبة الأمل التي ولدته عندما أصبح من المعروف أن التأثير في بسط الامتياز الخاص أقل بكثير مما هو في الأساس الشكلي الذي تكوَّن منه. وبالتالي نجد مثلًا للبيرن وونستانلي في عهد كروميل وبايبف وأتباعه في عهد حكم المديرين. وقصارى القول أن التقاليد الحرة التي انبثقت عن أغراض الأفراد الحقيقية الذين قاموا باستغلالها لتقف دائمًا في وجه الدولة، وطالما أحس هؤلاء الذين حُرموا من مزاياها بأنهم قد حُرموا منها، وطالما دُفعوا إلى القيام بعمل ما استجابةً لهذا الإحساس، فإن التقاليد الحرة تتيح لهم عاملًا قويًّا للقيام بمثل ذلك؛ ولذلك فإن نظرية الطاعة نظرية قاصرة إلى الحد الذي تؤكد فيه هذه النظرية الطبيعية العرضية لسلطة الدولة.
اضف تعليق