الملف الاقتصادي يمثل التحدي الأكبر لحكومات الاسلام السياسي، بل وتشكل المحك الأول في طريق تقديم المصاديق العملية على صحة هذه التجربة السياسية الحديثة في بلادنا الاسلامية، نظراً لأن الشعوب طالما اكتوت طيلة العقود الماضية من التجارب الاقتصادية الفاشلة والمدمرة في ظل الانظمة السياسية؛ الجمهورية منها والملكية، بسبب تطبيقات خاطئة واردة من الغرب أو من الشرق، فلا اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية التي جاءت بها الرأسمالية، تمخضت عن نهوض وتنمية البلاد الاسلامية، ولا القطاع الحكومي واقتصاد الدولة التي جاءت بها الاشتراكية، حققت حلم الفقراء بحياة سعيدة وكريمة.
من هنا؛ كتب العلماء والمفكرون الاسلاميون كثيراً عن مفردات التقدم والتنمية في ضوء الاقتصادي الاسلامي، ومنها؛ الاكتفاء الذاتي، التي تحولت من مفهوم ونظرية، الى اختبار جدّي لرجال الاسلام السياسي في الحكم، فهم إنما جاؤوا الى الحكم، لاعتقادهم بإمكانية تطبيق الاحكام الاسلامية على النظام الاقتصادي والسياسي في الدولة، لتكون لدينا "دولة إسلامية"، بغض النظر عن نسبة التطبيق او مدى تحقيق هذا الهدف المنشود.
بيد أن العقبة التي تظهر في الطريق ناشئة من تصورات، ثم غايات واهداف خاصة تتقاطع مع الاكتفاء الذاتي، او تجعلها مهمشة أو غير ذات شأن في العملية الاقتصادية، والسبب هو تفضيل السلطة والحكم على البناء، لذا نجد أن الاكتفاء الذاتي الذي يندرج دائماً ضمن عملية البناء الاقتصادي في جميع البلاد المتقدمة، يكون ضحية الطموحات السياسية، ففي بعض تجارب الاسلام السياسي، نلاحظ أن الاكتفاء الذاتي او تشجيع المنتج الوطني، يتقاطع مع مصالح اقليمية ودولية، وبقاء البلد محتاجاً الى مختلف السلع والبضائع المستوردة من دول معينة، يخدم المصالح السياسية للجهة او الحاكم الذي يقف على قمة هرم السلطة.
واذا نسمع اليوم بمبادرات طيبة وجميلة من ناشطين عراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف التشجيع على المنتج العراقي تحت عنوان "صنع في العراق" فانها بالحقيقة تمثل محاولة لتصحيح المسار الاقتصادي في العراق والتخفيف من حالة التبعية الاقتصادية في ظل نظام سياسي جربت فيه احزاب اسلامية عديدة حظها في الإدارة والحكم ولم تقدم حتى الآن مشروعاً متكاملاً او اطروحة اقتصادية واضحة المعالم من شأنها ان تجعل الاقتصاد العراقي يقف على قدميه ويستأنف مسيرته التنموية.
قراءة مفهوم الاكتفاء الذاتي إسلامياً
إن الاكتفاء الذاتي في الحياة الاقتصادية، مفهوم فضفاض ما لم يشفع بقيم ومبادئ تزيده رصانة واستحكام، وإلا فان هنالك انظمة سياسية وحكومات نجحت في تحقيق مستوى عالٍ من الاكتفاء الذاتي في جوانب عديدة؛ اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً وغيرها، بيد أن هذا الاكتفاء الذاتي لم يصب في قاعدة البناء العام للدولة، إنما توجه الى بناء السلطة وتكريس وجودها وضمان فترة أطول في الحكم، الامر يجعل رجال الاسلام السياسي أمام استحقاق اقتصادي كبير في تقديم الصورة الناصعة للاكتفاء الذاتي الذي من شأنه ان يبني الدولة ويخدم مصالح الشعب ويلبي طموحاته في التنمية والتقدم. لكن المهم هنا في كيفية تحقيق ذلك؟
حتى يميّز القائمون على الاسلام السياسي، بين الاكتفاء الذاتي الذي يخدم الدولة والشعب، وبين ذاك الذي يحقق مصالح سياسية او مصالح حزبية خاصة، لابد من قراءة دقيقة للمفهوم من وجهة نظر اسلامية، فالاكتفاء الذاتي الذي تحتاجه الامة هو ذاك الذي "يكون فيه المسلم سيّد نفسه لا يمدّ يده على شرق أو غرب أو شمال أو جنوب، وإنما يستعمل في مسكنه وملبسه ومأكله ومشربه وحاجاته ما يصنع في نفس بلاد الاسلام..."، هذه الرؤية صادرة من شخصية مرجعية ومفكر اسلامي ومصلح كبير، هو سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الذي استمدّ في بحوثه العديدة حول مسألة الاكتفاء الذاتي في الدولة الاسلامية، على أول تجربة ناجحة على يد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، لدى تأسيسه قواعد أول دولة اسلامية، فالاكتفاء الذي يتحدث عنه سماحته كانت كلها تصبّ في خدمة الدولة والناس (المسلمون) ولم تكن لها علاقة بالحكم والحاكمين، مثال ذلك الاكتفاء الذاتي علمياً، عندما كافح النبي الأكرم، الأمية، مستفيداً من فرصة وجود الأسرى لديه، لتعليم اصحابه القراءة والكتابة، ومنح الاكتفاء والاستقلالية للمسلمين من الاعتماد على غيرهم ثقافياً، كذلك الحال بالنسبة لصناعة الاسلحة والتجارة وغيرها.
وفي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يشير سماحته الى أن مساعي مبذولة من مراجع دين كبار مثل الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي، قائد ثورة العشرين في العراق، لتحقيق الاكتفاء الذاتي المتجه نحو بناء الدولة الاسلامية، من قبيل تحريم استخدام التقنيات الغربية الحديثة، مثل السيارة وغيرها، وهذا ربما يثير الاستهجان لدى البعض، بيد أن النظر في المقاصد والغايات، يتضح صواب ما ذهب اليه الميرزا الشيرازي – قدس سره- لان في ذلك الوقت لم تكن السيارة الوسيلة النقلية المتاحة للجميع، بحيث تتعطل بسببها الاعمال، كما هو الحال اليوم، لذا كان تحريم ركوبها او شرائها إشارة الى تجنب البضاعة المصنّعة غربياً ومحاولة غلق الابواب – ما أمكن – أمام المحاولات الاستعمارية للهيمنة والنفوذ اقتصادياً، ولو كانت تلك المحاولات من القوة والكثافة، لما كانت بلادنا اليوم تشهد كل هذه التبعية، ليست فقط في الاقتصاد، وإنما في الثقافة والعلم والسياسة وكل شيء.
السبيل لتحقيق الهدف المنشود
ان الاكتفاء الذاتي في كل شيء، بما من شأنه ان يبني الدولة ويخدم المجتمع، بحاجة الى رؤية في الاتجاه نفسه، لذا نجد سماحة الامام الراحل يشير الى "مقومات للاكتفاء الذاتي"، في كتابه المشار اليه، وكلها تجسد الرؤية الاسلامية – الحضارية البعيدة عن المصالح الضيقة والافكار الفئوية الخاصة، فهو يشير مثلاً الى :
1- تشجيع المستهلك على شراء البضائع المصنعة داخلياً والتخلّي عن البضائع الاجنبية، وذلك بمختلف الوسائل، ربما تكون منها تخصيص جوائز او غير ذلك.
2- تأسيس التعاونيات لمختلف البضائع الداخلية، ويوضح سماحته، بان هذه التعاونيات تستورد البضائع من بلاد اسلامية وتبيعها لنفس البلاد بسعر مناسب يحفز المستهلكين.
3- تأسيس صناديق الاقتراض لتشجيع اصحاب المهن والصناعات المحلية والمزارعين على الانتاج.
والنقطة الأهم في الموضوع والتي يشير اليها سماحته ايضاً، المبادرة الاولى من لدن الحكام (رجال الاسلام السياسي) فهم الذين يجب ان يعلّموا الناس كيفية التخلّي عن البضاعة الاجنبية – ما أمكنهم- وتشجيع البضاعة المحلية، وذلك من خلال سنّ القوانين المشجعة والاجراءات التحفيزية، الى جانب زيارات المسؤولين وجولاتهم التي لها كبير الأثر على نفوس الصناعيين والحرفيين والمزارعين، وحتى اصحاب الورش الصغيرة، حتى يتحول الاكتفاء الذاتي، من شعار براق يرفع عالياً، الى مرقاة حقيقية لتقدم الشعوب.
اضف تعليق