الدولة هي سبيل من سبل تنظيم الحياة الجماعية في مجتمع معين، والواقع أنه يجب ألا ننظر إلى الدولة على أنها المجتمع نفسه؛ لما بين أفراده من المصالح المتشابكة، بل يجب أن ننظر إليها باعتبارها المظهر الذي تتجمع فيه حياة المجتمع بأسره. وطالما كانت سلطة الدولة الإلزامية هي السلطة العليا...
إننا نعيش مع آخرين في هذا المجتمع الذي تندمج فيه جميع المؤسسات البشرية في وحدة نطلق عليها الدولة. وتقوم بإدارة شئون هذه الدولة هيئة من الأشخاص نطلق عليها اسم «الحكومة»، ولكن ما معنى هذه المصطلحات؟
المجتمع هو: مجموعة من الأفراد يعيشون جنبًا إلى جنب، ويعملون معًا لسد احتياجاتهم. وهذه الاحتياجات الأساسية المفروض إشباعها هي اقتصادية في نوعها، ويجب عليهم أن يكسبوا بعرق جبينهم قبل أن يعيشوا عيشة سعيدة.
ولكن إذا نحَّيْنا الاحتياجات الاقتصادية جانبًا، فستكون هناك فوارق متنوعة، كالاحتياجات الدينية، والثقافية، والداخلية، ويمكن للغريزة الاجتماعية إشباع هذه الاحتياجات. وليس هناك من سبب من الناحية النظرية لعدم تعادل هذه المجموعة مع مجموع الأفراد. وما تتضمَّنه هذه الاحتياجات من وسائل الإنتاج الاقتصادية تجعل من الضروري أن ننظر إلى هذا التعادل على أن له مغزى ينصب على الهيئات الاجتماعية. ولكن لأسباب تاريخية وجغرافية لا نود الخوض فيها؛ فإن المجتمعات التي نحن بصددها هي مجتمعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا، حيث توجد مجموعات الأفراد فيها جميعًا، وتختلف كل مجموعة عن غيرها من حيث اللغة والتقاليد، والنواحي السيكلوجية والسياسية. ولقد اخترنا هذه المجتمعات؛ لأنها قد اتخذت طابع الدولة القومية، وذلك بعد فترة طويلة من التاريخ.
وتعتبر الدولة مجتمعًا من هذا النوع، حيث توجد سلطة إلزامية، لها سموُّها من الناحية القانونية على أي فرد أو أية جماعة، وإن أية دراسة لأي مجتمع قومي ستكشف بين ثناياها لا الأفراد فحسب، ولكن الهيئات التي تندمج جميعًا للنهوض بجميع أهدافهم السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية.
ويمكن أن نطلق على هذا المجتمع اسم «الدولة» عندما تحدد السلطة الإلزامية الطريقة التي تتمشى مع الأفراد والهيئات. نرى مثلًا أن الدولة الفرنسية هي مجتمع إقليمي مقسم إلى حكومة ورعايا، سواء أكانوا أفرادًا أم هيئات من هؤلاء الأفراد، وأن الذي يقوم بتحديد هذه العلاقات هو ممارسة هذه السلطة الإلزامية العليا.
ويُطلق على هذه السلطة اسم «السيادة»، والواقع أن الدولة تتميز عن جميع الأشكال الأخرى من المجتمعات الإنسانية بإحرازها للسيادة، فالمديرية أو المحافظة مجتمع إقليمي ينقسم إلى حكومة ورعايا، وهذا هو الحال أيضًا بالنسبة لنقابة العمال أو الكنيسة، ولكن ما من مجتمع من هذه المجتمعات له سلطة إلزامية عُليا؛ لذلك يخضع كل منها - في الأحوال العادية - بعاداته وتقاليده لتلك العادات والتقاليد التي تعترف بشرعيتها السلطة الإلزامية العليا. ولا يمكن انتهاك إرادة الدولة من الناحية الشكلية؛ وإلا لكانت تصبح إرادة عليا، ولنفس هذا السبب أيضًا لا يمكن أن تنقسم الدولة، أو أن تتعرض لأي تدخل، وقد قال «بودان» في هذا الصدد: «إن الدولة ذات سيادة؛ لأنها تصدر الأوامر للجميع، ولا تقبل تلقي الأوامر من أحد؛ لذلك أصبح لأوامرها قوة القانون، وبالتالي تصبح أوامر الدولة ملزمة لكل مَن يخضع لتشريع الدولة.»
وجدير بنا أن ندرك أن إسناد السيادة إلى الدولة لا يُقصَد به إلا مجرد الإشارة إليه فقط، باعتباره عنصرًا شكليًّا لقيام الدولة، فهذا التحليل يُقصد به وصف بناء الدولة، ولا يُقصد به استنباط ما لإسناد السيادة إلى الدولة من قيمة، ولا يُقصد بالإشارة إلى هذا الأمر التعرض لمقدار الحكمة أو العدالة التي تنطوي عليها إرادة الدولة، ويُقصد بإسناد السيادة إلى الدولة أن الدولة تعلو جميع الهيئات الاجتماعية الأخرى؛ وذلك لأنَّ لها الحق في إجبار هذه الهيئات على طاعتها دون أن تُجبَر هي على شيء.
والواقع أنه قد تعوز الدولةَ الحكمة أو العدل فيما تُصدر من أوامر، غير أن ابتعاد الدولة عن الحكمة أو العدل ليس من شأنه أن يُدخل أي تغيير على حقها الشرعي الرسمي في أن تُفرَض الطاعة لأوامرها.
فالدولة إذن، هي: سبيل من سبل تنظيم الحياة الجماعية في مجتمع معين، والواقع أنه يجب ألا ننظر إلى الدولة على أنها المجتمع نفسه؛ لما بين أفراده من المصالح المتشابكة، بل يجب أن ننظر إليها باعتبارها المظهر الذي تتجمع فيه حياة المجتمع بأسره. وطالما كانت سلطة الدولة الإلزامية هي السلطة العليا؛ فلا يُمكن أن تتوقف الدولة - من الناحية النظرية - عن تقييد أيِّ وجه من أوجه النشاط التي تخضع لتشريعها الداخلي. والواقع أن من يقوم ببحث مدى اختصاصات الدولة الحديثة لن يجد ما يُغريه على أن يقلل من قدر سيادتها، فمن اختصاصها: المسائل المتعلقة بالدفاع والمحافظة على الأمن الداخلي، والإشراف على الصناعة، ووضع التشريعات الاجتماعية بما في ذلك اختصاصات واسعة النطاق؛ مثل: التعليم والتأمين ضد المرض والبطالة، وتشجيع البحث العلمي، وإدارة نظام العملة وما ينطوي عليه هذا الاختصاص من الأهمية المتزايدة، والإشراف على تحصيل الضرائب، وتحديد الشروط التي يتم بمقتضاها اجتماع الأفراد، وصيانة نظام المحاكم التي تقوم بتنفيذ مبادئ الدولة القانونية، بصرف النظر عن الشخص أو مجموعة الأشخاص الذين تُطبَّق عليهم هذه المبادئ القانونية. ومن الواضح أن مجرد إلقاء نظرة عاجلة على اختصاصات الدولة البارزة سيمكننا من أن نتعرف على مدى تدخل الدولة في حياة الأفراد، فالمواطن الحديث - في كل حركة يبديها - يتعرض لاختصاصات الدولة.
ولكن يجب علينا أن نتبين كيف يمكن للمواطن كفرد أن يقف أمام الدولة؛ فالهيئات جميعًا لا بد وأن تعمل عن طريق الأشخاص، ولا يمكن للسلطة التي تمارسها الهيئات أن تكون نافذة إذا لم تصدر عن هذا الطريق؛ لذلك فإن الدولة تحتاج إلى مجموعة من الأشخاص الذين يقومون - نيابة عنها - بتوجيه السلطة الإلزامية العليا التي تتخلى عنها الدولة لهم، ونطلق على هذه المجموعة من الأشخاص «حكومة الدولة». والواقع أن التمييز بين الدولة والحكومة من المبادئ الأساسية في علم السياسة، فالحكومة إن هي إلا وكيل عن الدولة؛ إذ إنها تقوم بتنفيذ أغراضها، وهي ليست في حد ذاتها السلطة الإلزامية العليا، ولكنها تعتبر ببساطةٍ الجهازَ الإداري الذي يقوم بتنفيذ أغراض الدولة، ويقال عنها إنها ليست صاحبة السيادة إذا كان يقصد بذلك السيادة التي تنعم بها الدولة، إذ إن قدرتها تتوقف على مقدار السلطة التي ترى الدولة تخويلها لها (أي للحكومة).
وعلى ذلك إذا تخطت الحكومة حدود السلطة الممنوحة لها فإنها قد تُحاسب على ذلك، والواقع أن فكرة تحميل الحكومة مسئولية القيام بأعمال تخرج عن نطاق سلطتها هي الفكرة الرئيسية عند كل دولة يحل فيها الحكم الشرعي محل الحكم الاستبدادي كأساس للأعمال السياسية التي تقوم بها الدولة، فقد كان في إمكان لويس الرابع عشر أن يطابق أغراضه الخاصة بإرادة الدولة، وقد كان هناك ما يبرر له ذلك، ولكن حتى الحاكم القوي مثل رئيس جمهورية الولايات المتحدة لا بد له من أن يتوصل إلى السلطة التي تمكنه من ممارسة إرادته إما بناء على نص في الدستور، أو بناء على تشريع يصدره الكونجرس الأمريكي. بل إن هناك بلادًا - مثل الولايات المتحدة - تحرم فيها الدولة صراحة على الحكومة، بالاستناد إلى الدستور الذي يجب على الحكومة أن تعمل بمقتضاه، أن تمارس سلطات معينة أو انتهاج طرق معينة أثناء ممارستها لسلطات أخرى ممنوحة لها.
ويقال إن الغرض من التمييز بين الدولة والحكومة هو تأكيد حدود سلطة الحكومة ومراعاتها التامة للهدف الذي تعيش من أجله الدولة، والواقع أن هذا الهدف كيفما أمكن تحديده هو خلق الظروف التي يمكن أن يصل فيها أفراد الدولة إلى الحد الأقصى لإشباع رغباتهم. والواقع أن وسائل الحد من سلطة الحكومة مثل الدساتير المكتوبة وقوانين حقوق الأفراد، ومبدأ الفصل بين السلطات وغيرها من الوسائل، ما هي إلا أساليب أوحت بها الخبرة لمنع سوء استخدام الحكومة للسلطة التي تمنحها لها الدولة؛ وذلك لأن كل حكومة تتألف من أشخاص ليسوا معصومين من الخطأ، إذ إنهم قد يتعمدون استغلال سلطتهم في سبيل تحقيق أغراضهم الخاصة، هذا كما أنهم قد يفهمون خطأ المصلحة الخاصة لقليل من الأفراد على أنها في صالح رفاهية المجتمع بأسره، على الرغم من حسن نواياهم، فقد يكون السبب أيضًا هو جهل أعضاء الحكومة بدقائق الموقف الذي يواجهونه، أو عدم كفاءتهم لبحث الموقف، وقد حدثت مثل هذه الظروف في كل مجتمع سياسي في فترة من فترات التاريخ. وإن قيمة الفارق بين الدولة والحكومة هو الإمكانية التي تقدمها لإيجاد النظم المنصوص عليها للهيئات الاجتماعية لتغيير وكلاء الدولة (أي الحكومة) عندما لا تستطيع الأخيرة القيام بحمل تلك المسئوليات.
ولكن يجب القول بأن هذا الفارق بين الدولة والحكومة له مغزاه من الناحية النظرية، وليس من الناحية العملية؛ إذ إن كل عمل تقوم به الدولة هو في الحقيقة عمل حكومي، وتكمن إرادة الدولة في قوانينها، ولكن الحكومة هي التي تقوم بتنفيذ ذلك، فنحن نقول: إن الدولة البريطانية قد دخلت الحرب مع ألمانيا في ٤ أغسطس عام ١٩١٤م، ولكن الحكومة هي التي أتاحت الفرصة للسيادة البريطانية في أن تؤدي عملها في ذلك الوقت. ويمكن القول بأن الدولة البريطانية قد استعادت عصرها الذهبي عام ١٩٢٥م، ولكنها افتقدته عام ١٩٣١م، بيد أنه في كلتا الحالتين كانت الحكومة هي الأداة التي اتخذت هذا القرار.
ويمكن القول بأن الدولة الروسية قد اتخذت صبغتها الشيوعية في نوفمبر عام ١٩١٧م، ونقصد بذلك أن بعض الأفراد الذين يشكلون الحكومة هم الذين استخدموا سيادة الدولة الروسية لتحقيق الأهداف الشيوعية. والدولة بذاتها في الواقع الملموس لا تأتي بتصرف قط، إنما الذين يقومون بذلك هم هؤلاء القادرون على تحديد سياستها.
ولكن يجب أن نعرف ما هي النواحي التي تُولد فيهم هذه القدرة، وتستمد هذه القدرة من القانون، غير أننا إذا نظرنا إلى القانون نجد أنه مجموعة من الألفاظ وُضعت ليقوم الأفراد بتنفيذها، وأن الموافقة التي يبديها هؤلاء المحكومون هي التي تخلق القدرة والسلطة لإلزامهم بإطاعة إرادة الحاكمين.
وما من شك في حقيقة هذه النظرية التي أكدها هيوم عندما أصر على القول بأن جميع الحكومات مهما بلغت من عدم الصلاحية تعتمد على الرأي العام لتستمد منه السلطة، ولكن لا يجب أن ينظر إلى هذا الرأي على أنه الحقيقة بأكملها لا لسبب إلا لوجود بعض الأماكن والأوقات، حيث تحكم الدولة الأفراد بمقتضى السياسات التي لا يبدون موافقتهم عليها. ولا يكاد الإنسان يُصدق العبارة الصحيحة على أن الدولة القيصرية قبل عام ١٩١٧م أو دولة النمسا الفاشستية، ولا ينظر إلى أي منهما على أنها قامت على موافقة المواطنين؛ لأنه في كلتا الحالتين نجد أن هناك بعض الأفراد يسعون إلى تغيير سياسات الدولة عن طريق الثورة ضد الحكومة.
ولذلك ترسي الدولة دعائمها على قدرة الحكومة على ممارستها السلطة الإلزامية العليا بمهارة. والحق يقال: إنه عندما تتلاقى وجهات نظر أعضاء الدولة حول الأهداف التي تتجسم في سياستها تترسب الناحية الإلزامية وتتوارى.
والحقيقة أنه في أية دولة دستورية تتيح الدولة فرصة عادلة للذين ينتقدون الحكومة (المعارضين) للوصول إلى السلطة بعد انتهاء الفترة المحددة، وهنا نجد أنه لا سيطرة للناحية الإلزامية كذلك.
ولكن عندما تمر فترة عصيبة في تاريخ دولة من الدول، تبزغ هذه الحقيقة التي تنادي بأن السلطة تقوم على القوة لقمع معارضي الحكومة، ولتفتيت إرادتهم وإجبارهم على الخضوع والإذعان. تبزغ هذه الحقيقة كعامل رئيسي في طبيعتها، وأن الدولة التي تصادف أهدافها مقاومة يجب عليها أن تتحدى هذه المقاومة، أو تقوم بتغيير أهدافها، وإذا أرادت التمسك بها فيجب استخدام القوة.
وبذلك وجب أن يوجد تحت تصرفها وسائل إلزامية منفصلة عن الجمهور تعتمد عليها لتنفيذ سلطتها؛ فإن أساس سيادة الدولة ما هو إلا السلطة المطلقة لاستخدام القوات المسلحة للدولة لفرض الطاعة لإرادتها.
ويترتب على مقاومة القانون الإخلال بالنظام، وتقوم كل حكومة باستخدام القوات المسلحة للدولة إذا أخل بالنظام، وعندما لا تستطيع استخدام هذه القوات لسبب ما، يجب عليها أن تجري بعض التغييرات في القانون أو تعتزل الحكم.
فعندما تتصارع دولة مع أخرى نجد أنها تفرض إرادتها على منافستها باعتبار ذلك وظيفة للقوة التي تحت تصرفها.
وفي كل مجتمع سواء أكان مجتمعًا قوميًّا أم دوليًّا نجد صراعًا يحتدم أُواره في الجهر أو في الخفاء. أما القوات المسلحة للدولة فهي تقف بالمرصاد حتى تقوم بحماية سيادتها من أي هجوم منتظر. ولذلك فإن هؤلاء الذين يتحكمون في استخدام القوات المسلحة للدولة هم في الحقيقة أصحاب هذه السيادة.
ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن الدولة ينظر إليها من الناحية القانونية على أنها وسيلة لتنظيم سلطة الإلزام العامة حتى تسود إرادة الحكومة جميع الإرادات في الظروف العادية، وهي سلطة خارجة عن سلطة الشعب، وهي لا تؤدي عملها طالما لا يقاوم أحد إرادة الحكومة. ولكن عندما تتعرض إرادة الحكومة نجدها تقوم بأداء عملها خير قيام. وإن حيازة هذا الحق القانوني الذي يقضي بالالتجاء إلى الإلزام هو الذي يميز حكومة الدولة عن أية جماعة من الجماعات، ولا يمكن أبدًا أن تكون سلطة أية نقابة أو كنيسة على أعضائها ذات قوة إلزامية، غير أن سلطة النقابة أو الكنيسة يمكن أن تكون ملزمة لو قررت الدولة تأييد هذه السلطة.
والواقع أن الموافقة على هذا معناه إدراك أن سلطة القوات المسلحة الإلزامية التي يُعتمد عليها الحكام بمقتضى القانون، هذه السلطة تقف وراء كل قرار تتخذه الدولة.
وثمة حقيقتان على جانب كبير من الأهمية في تاريخ إنجلترا يجدر ذكرهما باعتبارهما تأييدًا لهذا الافتراض؛ إذ إن شعور البريطانيين بالحقد على جيشهم العامل الذي ظل سائدًا حتى القرن الثامن عشر قد نشأ عن إدراك هؤلاء المواطنين بأن هذا الجيش لا يقوم في الحقيقة إلا بخدمة أولئك السادة الذين كانوا يتحكمون في أرواح وحريات المواطنين. لذلك كان تحديد سريان قانون التمرد بمدة عام واحد إعرابًا من الشعب عن خوفه من أن يجد الحاكم المستقل ما يغريه على اغتصاب اختصاصات الهيئة التشريعية. وكان سبب هذا الخوف هو التجربة القاسية التي عاناها الشعب الإنجليزي من سوء حكم استيوارت، غير أنه لا شك في أن ظهور النظام الديمقراطي الدستوري قد غير سطحيًّا الموقفَ الطبيعي الذي نتخذه إزاء هذه المشاكل. غير أن الحقيقة هي أن الحكومة التي تستطيع التحكم في القوات المسلحة التابعة للملك يمكنها في خلال هذه الفترة أن تجعل سلطتها فعالة، وهذا هو السبب الذي من أجله بذل حزب المحافظين خلال أزمة الأسرة المالكة التي نشبت بين عام ١٩١٣، ١٩١٤م كل جهوده لإضعاف ولاء ضباط الجيش للحكومة التي كان حزب الأحرار يتولَّاها في ذلك الوقت. ولما كانت النزعة الواقعية هي التي تسيطر على كبار رجال الحكومة؛ فإنهم أدركوا على الفور أنه لا يمكن للحكومة أن تتولى زمام الأمور لو عجزت عن الاعتماد على الجيش عند نشوب أزمة من الأزمات؛ لأن فقدان الحكومة للجيش فيه ضياع للسلطة الحكومية الإلزامية التي تفرضها على المعارضة. وهذا السبب أيضًا هو الذي اضطر هتلر في يونيو ١٩٣٤م إلى شراء تأييد «الرايخسفير» طبقًا للشروط التي فرَضَها عليه؛ إذ لولا قدرته على السيطرة على الجيش ما أصبح لسيادته أي معنى.
وعلى ذلك يمكننا أن نقول: إنه لا يمكن أن يُكتب النجاح لأية ثورة في العصر الحديث لو لم يكن ولاء القوات المسلحة أمرًا ثابتًا لا شك فيه؛ لأن القوات المسلحة هي جوهر سيادة الدولة.
والواقع أنه ليس لهذا القول أية علاقة بالرأي الذي سأتناوله بالبحث تفصيليًّا فيما بعد، وهو القائل بأن مصلحة الدولة فوق جميع مصالح الأفراد في المجتمع، وأنها تستخدم سلطتها الإجبارية نيابة عن المصالح الدائمة التي يعيش من أجلها الأفراد مجتمعين. هذا كما أن هذا القول لا يتصل أيضًا بالرأي الذي تؤمن به مدرسة هيجل، والقائل بأن الدولة على الرغم من كل شيء «هي تحقيق لفكرة الفضيلة الأخلاقية».
إن بحثي حتى الآن لم يتعرض للأغراض التي تعلن الدولة أنها تعمل على تحقيقها، ولكنه يتناول الحقيقة التالية، وهي أن الدولة - مهما كانت أغراضها وأهدافها - هي قوة منظمة تستند إلى حقها الشرعي في إلزام الأفراد بتنفيذ إرادتها، وأن القوات المسلحة التابعة للدولة هي الأداة التي تستعين بها الدولة لتنفيذ إرادتها.
والواقع أن بحثي هذا لا ينطوي على أية مبادئ أخلاقية، فهو وصف محايد لحقيقة تستفيد منها أية دولة من الدول التي نشاهدها اليوم. ولكن يجب عليَّ أن أعرب عن موافقتي على أن امتلاك الدولة لهذه السلطة هو شرط لبقائها، كما أنه ضمان لتنفيذ القانون واستتباب الأمن من ناحية أخرى. ويتضح لنا من تاريخ فترة الإقطاع أن أي مجتمع لا تسيطر فيه الحكومة على القوات المسلحة وتكون السلطة الإجبارية فيه غير موحدة؛ فلا يمكن أن تنجح الدولة تمامًا في المحافظة على الأمن في الداخل. ويمكننا أن نبرهن على ما يمكن أن يحدث في أي مجتمع من المجتمعات إذا لم تكن السلطة الملزمة ثابتة موحدة برجوعنا إلى بعض الأحداث التاريخية السابقة مثل الفوضى التي سادت في عهد ستيفن و«حرب الوردتين»، والمأساة التي حدثت نتيجة للمنافسات الدينية في فرنسا، وما قام به كثير من المغامرين الذين استغلوا سقوط دولة روسيا في عام ١٩١٧م ليقوموا بصراع مسلح من أجل رد السيادة للدولة.
ولا يُفهم من كلامي هذا أن الشعور بالخوف هو الذي يدفع للخضوع للدولة، فلا جدال طبعًا في أن الخوف حافز للخضوع لها، ولكن عند شرح العوامل المختلفة التي تدفع إلى الخضوع لا يمكن أن يكون الخوف عاملًا فعَّالًا، فالذين يخضعون لإشارة المرور التي يصدرها رجل البوليس الذي تتمثل فيه قوة القانون يفعلون ذلك اعترافًا من جانبهم عن رضًا بقيمة التوجيهات التي يصدرها لهم الشرطي، وخوفًا من العقاب الذي قد يتعرضون له في حالة مخالفتهم لهذه التوجيهات. فالناس مثلًا لا يخضعون لقانون التعليم الإجباري؛ خوفًا من دفع الغرامة أو من تعرضهم للجيش في حالة إهمالهم الواجب القانوني؛ لذلك قد يكون من المشكوك فيه اعتبار خوف الناس من العقاب سببًا لخضوعهم للقانون إلا في بعض الأزمات العاطفية.
اضف تعليق