سبق العبادي - يشغل حاليا منصب رئيس وزراء العراق- العديد من المسؤولين العراقيين شغلوا المنصب نفسه، أو يشغلون مناصب أدني لكنها حساسة، سبقوه في الإعلان عن عزمهم لمحاربة الفساد الذي يعشش في مؤسسات الدولة ودوائر الحكومة المهمة، وكل الذين أعلنوا عن القيام بهذه الحملات، قالوا بأن (الفساد والإرهاب وجهان لعملة واحدة)، وأكدوا على أن الإرهاب الذي دمّر البنية التحتية والفوقية للعراق، وألحق الموت بمئات وآلاف الضحايا، لا يفوق خطر الفساد.
ولكن بعد كل تصريح من هذا النوع، يتضاعف الفساد في البلاد، ويزداد عدد الفاسدين، حتى تحوّل الفساد إلى ثقافة انتشرت بين عموم المسؤولين الكبار، لتسري الى من هم أدنى مرتبة، فصار حتى الموظف الصغير الذي يمتلك سلطة عرقلة إجراء معاملات المواطنين يتصرف بطريقة (وبأساليب عديدة مبتكرة) لكي يضغط على المواطن كي يدفع له (رشوة).
ولا نجافي الواقع العراقي عندما نقول بأن الفساد تسلل الى شرائح المجتمع، وكلما تصاعدت المسؤولية تزداد فرص الفساد طرديا، لذلك صار الفساد نوعا من الثقافة التي شاعت وتغلغلت بين النسيج المجتمعي، وهناك من يغذي هذه الثقافة ويديمها، فتم تدمير القيم الأخلاقية المانعة، وأزاحتها قيما بديلة ودخيلة يسعى المستفيدون منها الى زرعها في المجتمع عموما.
لذا فإن (الفساد الإداري والمالي في العراق يعدّ من أعلى بين الدول بحسب مختصين، وهو موجود بشكل ملحوظ في عدة مرافق، بداية من القضاء، والوزارات الأمنية والخدمية، ويعتبر السياسيين الكبار في العراق الأوائل من الذين تحاصرهم تهم الفساد، وبسبب ذلك يعتبر العراق مع عدة دول مثل أفغانستان والصومال واليمن والسودان وليبيا من أكثر الدول في معدلات الفساد حسب إحصاء باروميتر للفساد).
وهناك أدلة قاطعة على انتشار الفساد بين المسؤولين حيث يرى (تقرير نشرته صحيفة ديلي ميل البريطانية في حزيران الماضي، ما يزال مستمرّا في الغرق في أتون الفساد المنظم، وفي رقم قياسي سلبي جديد، صنفت الديلي ميل البريطانية مجلس النواب الاتحادي كـ "أفسد مؤسسة في التاريخ" بسبب كثرة الأموال والامتيازات التي يحصل عليها عضو المجلس من دون تقديمه أي قانون يهم البلد).
وتبين الصحيفة البريطانية في تقريرها، إن (البرلمان العراقي أفسد مؤسسة في التاريخ، إذ أن البرلمانيين العراقيين يحصلون على أكثر من ألف دولار للعمل في الدقيقة الواحدة. وتوضح الصحيفة أن "هناك استياء شعبيا عارما إزاء النائب العراقي لأنه يحصل على 22 ألفا و500 ألف دولار في الشهر، في حين يكافح الكثيرون من أجل تغطية نفقات حياتهم اليومية البائسة التي زادها البرلمانيون بؤسا".
حقائق دامغة عن انتشار الفساد
ومع ذلك يظهر بين الحين والآخر، مسؤول حكومي أو سياسي ليعلن، أن هناك نوعاً من المبالغة في التصريحات والأحاديث التي تتناول الفساد والفاسدين، بل هناك من يتجرّأ (رغم نشر الأدلة القاطعة على فساده)، فيقول أن هذه التصريحات تدخل في حملة مقصودة تستهدف التسقيط السياسي، بسبب قرب الانتخابات النيابية ومجالس المحافظات، ولكن تبقى الحقائق الدامغة تدين الفاسدين، وتضعهم في قفص الاتهام، ولابد أنهم سينالون جزاءهم العادل، إذا ما توفرت إرادة حقيقية لمحاربة الفساد.
ومما يثير الرضا والشك في وقت واحد، إعلان الحكومة العراقية على لسان (أعلى مسؤول تنفيذي فيها)، بأنها سوف تبدأ بحملة كبرى على الفساد ما أن تطوي القوات المسلحة صفحة الإرهاب وتقضي عليه، وقد شارف الإرهاب بالفعل على لفظ أنفاسه الأخيرة، ما يتوجب على (رئيس الوزراء) أن يفي بما أعلن من حرب على الفساد، فهل هو قادر على ذلك بالفعل أم أن تصريحاته تدخل في الحملة الانتخابية المبكرة له، كونه سوف يخوض الانتخابات مستثمرا ما حققه من نجاحات في مجال تحرير المدن التي دنّسها تنظيم (داعش).
والحقيقة هناك نوع من الشك ينتاب الكثير من الناس، بغض النظر عن مستوياتهم العلمية او الفكرية أو درجة ذكائهم، ومصدر الشك تجاه (الحرب على الفساد الذي أعلنه العبادي) يكاد يكون مشابها لنوعية الشك التي انتابت الناس عندما أعلنت الحكومة عزمها على تحرير الموصل، فقد جوبهت التصريحات الرسمية حول طرد (داعش) من أم الربيعين، بموجة من التشكيك نظرا لكبر حجمها مساحة وسكاناً، ولكن حملة الشك تلك ذهبت سدى وثبت أنها في غير محلّها، بعد أن تُوَّجتْ مساعي وجهود التشكيلات المسلحة بالنصر المؤزر، لتعلن الحكومة على لسان رئيس وزرائها طرد (داعش) من الموصل في معركة غاية في التعقيد.
فهل يمكن أن تصلح هذه المقارنة بالحرب المعقدة على الإرهاب ونجاحها مع حملة الحرب على الفساد؟ إنه سؤال غاية في الأهمية، ويتوقف عليه حاضر ومستقبل العراق، فرجل الدولة الذي نجح بمعالجة الظروف المعقدة، وتمكن من النصر على (داعش) رغم وحشيته وامتلاكه عوامل البقاء والاستمرار، إلا أنه واجه إصرارا عظيما للقوات العراقية بمختلف تشكيلاتها، فُطرِد من الأرض العراقية شر طردة.
فيا تُرى هل سينجح العبادي هذه المرة أيضا، وهل سيكتشف المشككون بأن شكّهم لم يكن في محله؟، بالطبع هذا ما يتمناه العراقيون، وخصوصا ذوي الدخل المحدود، أو أولئك الذين لا يوجد لديهم دخل أصلا، مع أن الميزانية العراقية التي تمتلئ بموارد العراق النفطية، لو أنها توزّعت بعدالة ومساواة بين العراقيين لما كان هناك جائع في العراق، علما أن التصريحات الرسمية لوزارة التخطيط تقول بأن نسبة 23% من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر.
عناصر نجاح الحملة على الفساد
بالطبع نحن نصطف في الصف المضاد للمشككين في قدرة العبادي على مجابهة الفساد وصنّاعه، ولذلك نعلن أن هناك خطوات وإجراءات يجب أن تمهّد بصورة جيدة لنجاح هذه الحملة، فالقضاء على (داعش) ما كان له أن يُنجَز لو لا التمهيد الناجح لأسباب القضاء عليه، ومنها التدريب الجيد، والسلاح المتميز، والتخطيط العسكري العلمي، والقيادة الحكيمة، وتوفير الدعم الإقليمي والدولي، والأهم من كل العوامل آلتي تم ذكرها، هو إعادة ثقة المقاتل في نفسه، بعد الهزائم التي تعرضت لها القوات أبان احتلال (داعش) لمدن عديدة تشكل ثلث مساحة العراق.
نحن نعتقد فيما يتعلق بحملة الفساد، إذا لم يتم التمهيد بصورة سليمة لهذه الحملة، فإن نجاحها سوف يكون محط شك كبير، بل لا يمكن للحكومة العراقية ممثلة برئيسها (حيدر العبادي) أن تنجح في مساعيها ما لم تضع في حساباتها ما يلزم من إجراءات لها القدرة على حسم هذه الحملة بالإيجاب، وهنا نضع بعض المدخلات التي تُسهم في صنع مخرجات تحسم معركة الفساد المعقدة لصالح الشعب وحكومته:
- التحلي بعزيمة وإصرار عاليين بعد الاتكال على الله تعالى في مواجهة الفساد.
- أن تسن التشريعات الحاسمة والواضحة والتي لا تهادن عصابات الفساد وتكتلاته المختلفة.
- أن يتم وضع مقترحات تسوية ممكنة ومقبولة تضمن إعادة الأموال التي استولى عليها الفاسدون الى خزينة الدولة.
- أن ترافق هذه الحملة، حملة إعلامية قوية جدا ومدروسة جيدا، يشارك فيها الجميع بما في ذلك وسائل الإعلام المدنية أو غير المرتبطة بالحكومة.
- أن تقوم المنظمات والجهات المعنية بحملات تثقيف متواصلة لرفض (الرشوة) وكل أوجه الفساد الإداري والمالي وسواهما.
- أن يتم تنشيط الأجهزة الإستخبارية المعنية بكشف المفسدين.
- أهمية الابتعاد عن الاستهداف والتسقيط واستغلال الحملة للقصاص من مسؤولين ربما لم ينخرطوا في عمليات الفساد.
- أن تسود عدالة لا شك فيها، بملاحقة الفاسدين، ولا يجوز غض النظر عن (الأقوياء) أو بعض المسؤولين مهما كانت مواقعهم حساسة وكبيرة.
- أن لا تكون الانتخابات البرلمانية ومجالس المحافظات القادمة، سببا في شن هذه الحملة، وأن لا يتم اتخاذها واجهة للنجاح في الانتخابات.
- أن لا ينسى رئيس الوزراء تعهداته ووعوده بالقضاء على الفساد، حتى لا يكون مثل المسؤولين السابقين الذين لم يوفوا بوعودهم وتعهداتهم بشأن الفساد، علما أن الشعب يضع ثقته بالحكومة ويأمل بنجاحها، خصوصا بعد قدرتها في التخطيط لهزيمة (داعش).
- وعلى الحكومة العراقية وكل العاملين في السياسة من كتل وأحزاب وشخصيات، أن يضعوا في حساباتهم، بأن الشعب العراقي ينظر لهذه الحملة بأنها القارب الأخير لإنقاذه من بحر الفساد الذي يغرق فيه العراقيون جميعاً.
- في حالة فشل حملة اجتثاث الفاسدين والمفسدين وفسادهم وإعادة ثروات العراقيين وأموالهم، فإن العواقب القادمة سوف تكون وخيمة وغير متوقَّعة، فالفساد والطغيان متآزران، ولا يختلفان عن بعضهما، وجميع الساسة العراقيين يعرفون تمام المعرفة ما هي النهاية التي تنتظر الطغاة الظالمين الفاسدين.
اضف تعليق