إنتشرت في الأدبيات السياسية والإدارية المعاصرة، جملة من المفاهيم والمصطلحات الحديثة التي عكست في مجملها ما يشهده العالم من تحولات كبيرة في المجالات كافة، كان مفهوم (الحكم الرشيد) من بينها؛ إذ إحتل هذا المفهوم حيزا واسعا من الاهتمام على المستويين الرسمي والأكاديمي؛ كونه يمثل ترجمة مقصودة لإرهاصات عالمية شاملة، واستجابة واعدة لحاجة دولية ملحة لإعادة النظر في دور الدولة وبنيتها المؤسساتية عبر التخفيف من مكانتها وسلطتها المركزية، بإعادة توزيع معظم أدوارها السابقة على مؤسسات وفاعلين جدد في مواجهة الإخفاقات والأزمات التي عانت منها من جراء تنامي الضغوط عليها مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والفساد مع تنامي الوعي والمطالبات المجتمعية بالحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية، فجاء طرح مفهوم الحكم الرشيد في أروقة المنظمات الدولية نهاية الثمانينيات بوصفه خيارا ومنهجاً في الحكم والإدارة للارتقاء بقدرات الدولة لمواجهة مثل هذه التحديات على طريق تحقيق الإصلاح والتنمية الشاملة.
ولدى مراجعة الأدبيات السياسية تتضح لمفهوم الحكم الرشيد أبعادا تستجلي أهم ملامحه وأركانه ومزاياه، فهذا النوع من الحكم –على فرض وصفه بكونه نمطا من الحكم- لا يعني تخفيف دور الدولة في تنظيم المصالح وتجميعها والتعبير عنها والرقابة عليها، بل يعني تغيير دورها على نحو فعال ورشيد عبر تحقيق نوعِ الشراكة بين الدولة والمجتمع المرتكنة إلى قاعدة حفظ التوازن النوعي في العلاقة التي تربط بين الطرفين؛ فهدف الحكم الرشيد إذن، هو تثبيت وتحديد القواعد الجديدة للعبة السياسة والحكم بين طرفي معادلته عبر تطوير منطلقات القيادة الإدارية الفعالة بمشاركة قطاعات المجتمع ضمن نسق يتناغم مع هيكل من القيم والممارسات التي تحظى بمقبولية عالمية.
وعلى هذا يتضح البعد المعياري للمفهوم عبر تنميط وإعادة صقل وتوجيه اسلوب الحكم على نحو أكثر فاعلية وتخصصا واقل مركزية، لهذا اتجهت بعض الكتابات في تعريف الحكم الرشيد على أنه "أسلوب وطريقة الحكم و القيادة، لتسيير شؤون منظمة قد تكون دولة، أو مجموعة من الدول.. مؤسسات عمومية أو خاصة. فالحاكمية ترتكز على أشكال التنسيق، التشاور، المشاركة والشفافية في القرار".
وبالارتقاء والتوغل أكثر في منعرج السلطة نجد من يعرف «الحكم الرشيـــــــد»، على أنه: (اسلوب ممارسة السلطة في إدارة موارد الدولة الإقتصادية والإجتماعية بهدف تحقيق التنمية). ومن منظور التنمية الإنسانية، جاء توصيف تقرير التنمية العربية للحكم الرشيد بكونه "الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاه الإنسان ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرّياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى تمثيل كافة فئات الشعب تمثيلاً كاملاً وتكون مسؤولة أمامه لضمان مصالح جميع أفراد الشعب".
ومع الاقتراب أكثر من المسار الديمقراطي نجد من يعرف الحكم الرشيد على أنه ((نظام الحكم القائم على خدمة مصالح الأمة، والذي يعتبر السلطة والقيادة وظيفة في الخدمة العامة، ويتخذ منها منصة لإثبات الكفاءة والقدرة على تحقيق متطلبات الشعوب وحاجاتها، وسياستها بالعدل والمساواة، وان يتصف بالقدرة على دمج المجتمع المتعدد في السلطة والحكم والمشاركة، وان يتمتع باستمرار بشرعية شعبية أساسها الانتخاب الشعبي النزيه والعام)).
ومن هذا التعريف يتضح، أن مفهوم الحكم الراشد يرتبط ويعنى عناية مركزة بنوعية الحكم وأسلوبه باتجاه تعزيز قدرته على الاستجابة الفاعلة لاحتياجات الأفراد وتحقيق التنمية الشاملة، وهو الأمر الذي يضعه في مسار النسق الديمقراطي للحكم دون أن يدمجه بصورة تامة في هذا المسار، وذلك من خلال منحه فرصة الاستقلال النسبي على طريق تحقيق بعض المقاصد التي لا يمكن للديمقراطية تحقيقها بمعزل عن الحكم الرشيد؛ فالأخير يركز أكثر على متطلبات صنع القرار وصياغة السياسات العامة عبر الاهتمام ببناء قدرات القطاع العام والاهتمام بالقواعد والإجراءات التي من شأنها بناء إطار للشرعية، والكفاءة، والفعالية لإعداد السياسات، وتسيير الشؤون العامة بأساليب تتميز بالشفافية، والمساءلة، والمشاركة، والعدالة.
بيد أن هذه القواعد الإجرائية بحاجة أيضا إلى حزمة أكبر من المبادئ والقيم الحاكمة للممارسة السياسية من أمثال ضمان مشاركة فعالة في صنع السياسات، وفصلٍ فعال بين السلطات، واحترام قواعد القانون، والتأسيس لمراجعات وتوازنات مؤسسية من خلال آليات أفقية وعمودية للمساءلة؛ وهي أمور تحكمها وتفرضها الديمقراطية التي تعد على المستوى المفاهيمي اسلوباً للممارسة السياسية والحكم المؤسسي المستند إلى الإرادة الشعبية والمنضبط بأحكام القانون، وهي (أي الديمقراطية) بتعبير جوزيف شوم بيتر (الترتيب المنظم الذي يهدف إلى الوصول إلى القرارات السياسية والذي يمكن للأفراد من خلاله اكتساب السلطة للحصول على الأصوات عن طريق التنافس).
فالديمقراطية إذن وسيلة لضمان مشاركة الشعب في إدارة الحكم بغية تحقيق الحرية والعدالة دون الرفاه الذي يرنو إليه الحكم الرشيد، وإذا كان الحكم الديمقراطي أداة سياسية لتحقيق أجندة ليبرالية، فان الحكم الرشيد هو منهج أو فن توظيف الأداة لتحقيق غرض التنمية والازدهار الشامل للدولة. وإذا جاز النظر إلى الحكم الراشد بكونه اسلوباً للحكم، فان الديمقراطية هي المحتوى السياسي لهذا الحكم، لاسيما وأن مفهوم الحكم الرشيد، طرح في مرحلة لاحقة على طرح الديمقراطية لاستكمال طريقها باتجاه بناء الإنسان والمجتمع وتحقيق الرفاه لهما باستخدام ادوات واليات لم تكن في برنامج عمل الديمقراطية، ولإشراك أطراف لم يتسن اشراكها في ظل الطروحات التقليدية للديمقراطية بنسختها الليبرالية.
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول أن الحكم الرشيد (Good Governance) لا يشير فقط لنوع معين للحكومة (الديمقراطية) ولكنه يتضمن أيضاً عدداً من العناصر والادوات الأخرى للنهوض بشؤون الحكم والادارة على نحو فاعل من امثال، (حكم القانون، والمساءلة، ومزيد من الرقابة، واللامركزية، ومكافحة الفساد وإصلاح الخدمة المدنية، وتطوير نظم المعلومات (الشفافية)، سواء لصانعي القرار، أو للجمهور، وهي ادوات ومثل تتكامل مع مقومات البناء الديمقراطي وترصنه.
وقد استدعى تناول الأبعاد السياسية للحكم الراشد الحديث عن دعم الديمقراطية، والتعددية، والانتخابات، وحقوق الإنسان (وحماية الأقليات) ومشاركة المرأة، مما جعل الحكم الرشيد يعني حزمة من الإصلاحات الدستورية والسياسية والإدارية، وأصبحت أجندة وكالات المساعدة الدولية تتبنى نفس تلك المبادئ، التي قامت عليها الديمقراطيات الليبرالية الغربية، وتسعى لفرضها وتعميمها كنمط عالمي على الدول المتلقية للمعونات.
وما تقدم يقودنا إلى تأكيد العلاقة التبادلية الوطيدة بين الحكم الرشيد والديمقراطية، فكما لايمكن اقامة الحكم الرشيد الا في ظل اجواء وقيم وأدوات ديمقراطية، فان هذه الاخيرة تحتاج إلى المزيد من ادوات الاصلاح المؤسسي والتنمية الانسانية لاستكمال مسيرتها وتحقيق اهدافها الانسانية وترسيخ جذورها المجتمعية.
.....................................
اضف تعليق