الزمان المقدس/تاريخ الخلق/الجسد
يرتبط الزمان بالقداسة متعلقا بوقوع حدث علوي يخرج الزمن من اشتغالات الحساب اليومي والعد الروتيني إلى حيز الانتماء الخالد وتأصيل ذاكرته في الذهن الجمعي، مما يحيله الى لحظة تخلد في استيلادات دائمة للقداسة تخص الخلاص، وهنا تدخل كل أزمنة ولادات المقدسين باعتبارها لحظات زمانية تتكرر بحمل أمل الخلاص، ويمنح هذا الزمان -أزمنة الولادات- بعد القداسة بواسطة مفهوم النجاة–الخلاص الديني، والزمان المقدس مشروع قداسة مستمر غير متوقف، هنا يكون الزمن بصيغته الدنيوية العابرة والقاصرة مرتهن به بالخلاص والزمان المقدس منعقد على هذا الخلاص في هذا الحدث العلوي، فالقداسة دائما ترتبط أو تتأسس على أمل وفعل الخلاص في تصورات الخلاص الخاصة بالإنسان.
والدين وبفعل وظيفة النجاة –الخلاص التي يشغلها في تصور الإنسان، هو الفضاء القابل- الوحيد على استيعاب هذا الحدث في علويته وقداسته، وتحديدا في الدين يكون الزمان المقدس مع ولادة نبي ونزول كتاب يقف على عتبة الولادة المقدسة لنبي، فالولادة والنزول هي أيام تنتمي إلى ذلك الزمان المقدس، بل هي السبب في قداسته ظاهرا لدى المسلمين.
وقد عد المسلمون الليلة واليوم الذي ولد فيه النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) والليلة التي نزل فيها القرآن هي من ذلك الزمان المقدس، وتكفلت البشارات المقترنة بولادة النبي المقدسة في دفعه باتجاه الانتماء إلى الزمان المقدس، وأول تلك البشارات هي المروية إسلاميا عن اليهود في مكة أو في المدينة. وفي سيرة ابن إسحاق روى حسان بن ثابت وهو غلام عن اجتماع قوم من اليهود في المدينة في الليلة التي ولد فيها النبي وتوقعوا أنها الليلة التي يولد فيها النبي الموعود وقالوا بظهور كوكب النبي احمد في هذه الليلة، وقد اخبر رجل يهودي في مكة قريش أنها ليلة ولادة نبي فيهم، وتساءل هل ولد فيهم الليلة وليد؟ وحين عادوا إلى أسرهم أخبروا بان وليدا لعبد المطلب قد ولد، وهي رواية ابن كثير في البداية والنهاية.
ولم تكن لتقتصر على يهود جزيرة العرب تلك التنبؤات او البشارات، بل قد كان للعرب حظا كبيرا منها، فقد روى ابن سعد في طبقاته رؤية النور في هذه الليلة، وهي رواية خالد بن سعيد قبل المبعث، فقد روى خرج النور في الليلة التي ولد فيها النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) من زمزم وغطى بقاعا من الأرض فتنبأ بان زمن بعثة نبي من بني هاشم، لان النور خرج من زمزم وزمزم ملك وأرث في بني هاشم، وقد أخبر في هذه الرؤيا بمجيء نبي الأميين وبلغ الكتاب أجله.
وإذا أضفنا إليها روايات البشارات العديدة التي رافقت المولد النبوي وضمنت الرواية الإسلامية ذكرها وتكرارها أدركنا أن ليلة او يوم المولد النبوي ينتمي إلى الزمان المقدس لأنه يوم أو ليلة متعلق بها أو به حدث علوي يتخطى مجرد ولادة محمد النبي إلى ولادة النبوة بعلويتها ورفعتها في المكانة عند الله تعالى، ومن سمات هذا الزمان انه بدأت تغيرات في الفلك العلوي بمنع مقاعد للسمع للجن وان من يقترب يجد له شهابا رصدا، وكانت الرواية الإسلامية تقرن تلك التغيرات العلوية بزمان مولد النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) مما يمنح هذا الزمان تلك الاستثنائية الفائقة والمقترنة بالمعجزات والكرامات التي ترفعه إلى مستويات الزمان المقدس وانعقاده على فكرة الخلاص التي تؤهله للخروج عن الزمن الدنيوي والتقليدي والعابر وتمنحه الخلود وهو الركن الثاني في انعقاد قداسته.
فالخلاص أو النجاة والخلود هما ركنا أو عمادا الحدث الذي يستوعبه أو يتعلق به الزمان المقدس أي الزمان الذي نشأ فيه الحدث الديني، ويكون هو عنصر قداسة هذا الزمان، فالمولد النبوي هنا هو عنصر قداسة يوم المولد النبوي. وقد رافق بدء هذا الزمان علامات وإشارات كفلت له تحقق استثنائية من بين سائر الأزمنة في الدنيا ومن ثم قداسته التي كانت تجد في الكرامات والخوارق تعبيرا عن مضمونها أو مضمون الزمان الخاص بمناسبتها وهي الولادة المقدسة.
وتنقل الرواية الإسلامية حوادث ووقائع هذه الليلة، وفي كتاب إكمال الدين "لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ارتجس إيوان كسرى و سقطت منه أربع عشرة شرفة وغاضت بحيرة ساوه وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف سنة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى هاله ما رأى فتصبر عليها تشجعا ثم رأى أن لا يسر ذلك عن وزرائه فلبس تاجه و جلس على سريره و جمعهم فأخبرهم بما رأى فبينا هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه، فقال الموبذان وأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة ثم قص عليه رؤياه في الإبل والخيل فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان وكان أعلمهم في أنفسهم فقال حادث يكون في ناحية المغرب.
.....ثم ارسل كسرى الى الكاهن سطيح في بلاد الشام فأخبر رسوله... بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها وغاضت بحيرة ساوه فقل يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة و فاض وادي السماوة و غاضت بحيرة ساوه فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت"، والآت هو زمان غير متوقع وبه تتغير سائر أزمنة الدنيا والناس وتلك علاماته وبشاراته وهو زمان مرتهن بنشأته وبدئه بالولادة المقدسة للنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وكانت تلك البشارات أو العلامات تحدث في ليلة مولده الأبهى وقد أضاف إليها سطيح الكاهن كثرة التلاوات وهي إشارة الى تلاوة القرآن وأوضحها ببعثة صاحب الهراوة وهي إشارة إلى النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وهو صاحب العصا في البشارات-النبوءات السابقة له، وقد روى الجزائري في النور المبين تاريخ هذه العصا وتنقلها من آدم إلى موسى ثم إلى أهل بيت محمد وهي من شارات النبوة وميراث الإمامة في عقيدة الشيعة–الأمامية.
الزمان المقدس/تاريخ/النور/الروح
لكن في الذهنية الدينية ومع ملازمة القدر في هذه الذهنية والقدر في جوهره رسم مسبق للزمان، فان الزمان المقدس سابق على الولادة والنزول، وانه يكون مكررا ومناسبا مهما وجدير بوقوع هذا الحدث الولادة او النزول، ويسبق ذلك الحدث أو وقوعه في الرواية الإسلامية عوالم وأزمنة أقدم منها عالم الذر أو عالم الأشباح الذي تضفيه أو تؤمن به الذاكرة الدينية الإسلامية على حادثة الخلق أو تاريخ الروح ومن ثم تاريخ الجسد، فللخلق زمنين زمان أو تاريخ خلق الروح وهو زمن الذر أو الأشباح المعلقة بالعرش وفيها اختصاص النبي واله بالله والعرش، فهم مخلوقون في الرواية الإسلامية قبل خلق الخلق، وهنا يتموضع الزمان المقدس وهناك زمان أو تاريخ خلق الجسد أو بدء خلق آدم، وإذا كان خلق النبي محمد يعقبها أو بعدها في يوم مولده المحتفى به، فانه واستنادا إلى زمان أو تاريخ الروح فان خلقه وهيأته أسبق وأقدم من زمان خلق آدم وتاريخه وقد أشارت الرواية الإسلامية إلى ذلك.
فقد ذكر ابن الجوزي في المولد النبوي عن كعب الأحبار وهو ينقل قول رسول الله : إن الله قبض قبضة من نوره وقال لها كوني محمدا فصارت نلك القبضة عمودا من نور ورفع رأسه وقال الحمد لله فاخبره الله تعالى لأجل هذا خلقتك وسميتك محمد فيك أبدأ المخلوقات وبك اختم الرسل، ثم شرع ذلك النور ينقسم في هذه النشأة العلوية إلى عشر أقسام هي كل أقسام الوجود العلوي من العرش إلى الكرسي إلى اللوح إلى القلم إلى الشمس إلى القمر إلى الكواكب، الى نور المؤمنين إلى نور القلب إلى روح محمد. وينقل ابن الجوزي متابعة هذا النور ومسيرته من آدم مرورا بولده وأصلاب الأنبياء الكبار من ذريته من نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل بلوغا إلى عبد المطلب فوجد هذا النور يسرا بعد عسرا...واهتز البيت طربا وأشرق الصفا بنور المصطفى، والكلمات لابن الجوزي، وبذلك فان زمن قداسته في خلقه حين كان نورا يتكرر في يوم مولده فيستحضر أيضا نوره سواء في حمله أو في وضعه على اختلاف الرواية الإسلامية.
وتكاد تجمع على ذلك كل فرق الإسلام وأهله ولا تختص بتلك العقيدة من المسلمين فرقة دون أخرى، فقد روته مصادر السنة وأجمعت عليه مصادر الشيعة وتوسعت في امتداده إلى الإمامة باعتبارها امتداد النبوة، فقد روى الشيخ المجلسي في البحار عن سفيان الثوري، عن جعفر عن محمد الصادق عن ابائه عليهم السلام، عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال : "إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل إن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل إن يخلق ادم بأربع مائة ألف سنة.
كما روي عن انس بن مالك، عن معاذ بن جبل، آن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله خلقني وعليا وفاطمة والحسن والحسين من قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام، قلت : فأين كنتم يا رسول الله ؟ قال : قدام العرش، نسبح لله ونحمده ونقدسه ونمجده " ورواية الشيخ المجلسي -الأمامية صريحة واضحة في تحديد وتموضع الزمان المقدس المتعلق بالنور- النبوي قبل خلق الخلق بل وتحديد مدة هذا الزمان بأربعة مئة ألف سنة قبل خلق آدم أو بسبعة آلاف عام قبل خلق الدنيا، والمكان المساوق لهذا الزمان أي المكان الخاص بالنبي وآله في هذا الزمان المقدس هو تموضعه قدام العرش، وبهذا يكون الزمان المقدس سابق على يوم مولده، لكنه يوم يستحضر كل قداسته ويتكرر في تاريخ الخلق للجسد بعد أن بدأ في تاريخ الخلق للروح واستهل وجوده الأقدم بأربعة مئة ألف من السنين قبل خلق الخلق وبصيغة أو بصورة النور المشتق من نور الله الأزلي–الأبدي صلى الله عليه وآله....
ونستخلص من المقارنة بين تاريخين دينيين، تاريخ الخلق/الجسد وتاريخ النور/الروح ان انغراسات الزمان المقدس باعتباره تاريخا علويا تنحاز إلى أحد التاريخين في الذهنية الإسلامية وتتساوق لدى البعض مع تاريخ/الجسد أو الولادة المقدسة للنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وهو ما أشارت إليه روايات البشارات والكرامات التي رافقت الولادة المقدسة وأسست البدايات الأولى للنبوة وللتاريخ الديني للإسلام، بينما يتساوق لدى البعض الأخر مع تاريخ/الروح أو النور المقدس للنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وهو ما أشارت إليه روايات الخلق الأول أو النشأة الأولى للنور الذي بدأ منه وبه الخلق لاسيما الخلق الأخروي وقواعده في العرش والقلم واللوح.
اضف تعليق