كانت بعض أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) تخص شخصا ما بعينه دون غيره، أو مجموعة من البشر لهم وضعهم الخاص، أو حالة خاصة أو عامة، أو مسألة دينية، أو توضيحا لأمر مبهم على أحد الأفراد أو على المجموع، أو تبليغا لحكم فقهي، أو شرحا لمضمون آية، ومع ذلك أخذت واعتمدت أغلبها، فوثقوها، وكتبوها، وامتحنوها، وجرحوها، وعدلوا رواتها، ودققوا في متونها، لدرجة أن ما كتب فيها وفي شأنها بلغ حدا لا يحصى، وهناك من نسبت إليه رواية آلاف الأحاديث مثل الصحابي أبي هريرة الذي نسبت إليه رواية (5372) حديثا. إن هذا العمل بمجمله يبدو في الظاهر عملا جبارا، وفيه إفادة وسعادة، لكن لو كان داخله كما هو ظاهره، لما اختلفت الأمة في شيء أبدا.
ومن المؤكد أن قبالة كل هذه الأحاديث كانت هناك خطب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يلقيها في المناسبات والأحداث العامة كصلاة الجمعة والصلاة الجامعة، والمناسبات الخاصة مثل استقبال الوفود وتوديع الجيوش وغيرها، وحتى في أمور خاصة أخرى. وعلى مدى ثلاثة عشر عاما من طور البعثة المدني، ألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطبا في صلاة الجمعة وحدها، زاد عددها عن ستمائة خطبة؛ فيها ما يخص الشأن الديني وفيها ما يخص الشأن الحياتي، وفيها ما يخص الشأن السياسي.
فصلاة الجمعة مناسبة كانت تُستعرض فيها أحوال الأمة من حيث دينها ودنياها؛ وكانت تُؤدى في الأعم الأغلب في المسجد النبوي دون غيره، والذين كانوا يحضرونها تفوق أعدادهم كثيرا عدد من استمعوا إلى أي حديث آخر بما فيها الأحاديث المتواترة، ولهذا السبب، قالوا: إن صلاة الجمعة سميت بذلك لجمعها الخلق الكثيـر.
الخطب صلاة الجمعة نفسها كانت أكثر وضوحا وإيضاحا من كثير من الأحاديث، بما لا يترك مجالا للتفسير والتأويل والاجتهاد والظن. وبالتالي لم تكن خطبه (صلى الله عليه وآله) أقل درجة من أحاديثه الأخرى، فهي وبنص القرآن الكريم كانت وحيا قرآنيا، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(1). فلماذا لم توثق هذه الخطب بالرغم من أهميتها التي إذا لم تكن بأهمية الأحاديث فهي ليست أقل منها أهمية؟ لماذا أحجموا عن تدوينها ولم يلتفتوا إليها؟ لماذا لم تُذكر مضامينها ولاسيما السياسية منها؟ ولماذا خضع ما ذكر منها وله علاقة بالسياسة مثل خطبة حجة الوداع إلى اجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان؟ لماذا اكتفوا بالحديث عن آداب صلاة الجمعة وشروطها وكيفية أدائها وخطبتيها دون أن يغوصوا في العمق ليتحدثوا عن جوهرها؟
وإذا ما كان حديث النبي (صلى الله عليه وآله) يأتي في سياق مهام الرسالة فإن أهمية صلاة الجمعة وخطبتيها، تأتي من أمر رباني ملزم لجميع المكلفين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(2). والنبي نفسه قال في صلاة الجمعة: "من توضأَ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادةُ ثلاثة أيامٍ"(3)
وإن لم يكن هناك ما يوجب على جميع أبناء مجتمع البعثة سماع أحاديث النبي كلها أو حتى جزء منها، لدرجة أنه ـ كما يذكرون ـ كان يحدث أحيانا بعض نسائه في خلوته معهن، فينقلن حديثه إلى من يدخل عليهن، فإن صلاة الجمعة كانت واجبة على الجميع، لا يستثنى من حضورها إلا استثناء بسيط، ورد في بعض الأحاديث الغريبة، ومنها حديث: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض"(4)
ومن خلال البحث لم أجد ترهيبا ولا تخويفا لمن فاته سماع شيء من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكن قبالة ذلك وجدت الكثير من أحاديث الترهيب لتارك الحضور إلى صلاة الجمعة، لدرجة أن يصل حكم من كرر عدم الحضور إلى درجة التكفير، مثل ما نسب إلى النبي في قوله: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناسِ، ثم أُحرِّقُ على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم"(5) ومثل قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث آخر: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهمُ الجمعات، أو ليختمن اللهُ على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين"(6) وقوله في حديث آخر: "من ترك ثلاث جُمعٍ تهاونا بها، طبع اللهُ على قلبه"(7)
ولا تقل أهمية خطبة صلاة الجمعة عن الصلاة نفسها، ونظرا لأهميتها فإن المشرع استعاض بها عن ركعتين من صلاة الظهر فأسقطهما، باعتبار أن الاستماع إليها يجزي عن الوقوف في الصلاة لأداء الركعتين الثالثة والرابعة من صلاة الظهر، وقد جاء عن بعض الصحابة قولهم: "إن الخطبة هي بدل الركعتين من صلاة الظهر"
ولهذا السبب منع اثناء الخطبة اللغو والكلام، لدرجة أنه جاء في آداب سماع الخطبة حديث منسوب إلى النبي(ص): "ومَن مسَّ الحصى فقد لَغا"(8).
وجاء في آداب سماع الخطبة أنه يحرم الكلام أثناء الخطبة لكي يستمع الحاضرون إلى كل كلمة تقال خلالها، وقد نسبوا ذلك إلى قول للنبي ورد بصيغ عديدة، منها: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعةِ: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت"، ومنها: "من قال صه؛ فقد لغا، ومن لغا؛ فلا جمعة له". ومنها: "من تكلم، فهو كالحمار يحمل أسفارا"(9).
وذهب بعض المفسرين إلى أن سبب هذا التشدد جاء من النهي الرباني في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وهذا يعني أن الخطبة تأتي بمنزلة قراءة القرآن.
فإذا كان الذي يمس الحصى، والذي يقول لمن يتكلم أثناء الخطبة: أنصت، وهو في الأصل يأمر بمعروف، قد لغا، ووقع في الإثم، فغير ذلك من الكلام من باب أولى ممنوع مطلقا.
وليس من الغريب أن تجد فقهاء المذاهب الأربعة، يتفقون على أن الخطبة شرط لصحة الصلاة يوم الجمعة، وبدونها لا تصح الصلاة مطلقا، وهذا دليل على كبير أهميتها، وعلى أهمية ما يطرح فيها، وهو بالتأكيد ليس النصح الديني فحسب لأن النصح عمل روتيني دائمي مستمر يستخدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) معهم يوميا في الصلاة الخمس التي يؤمها، وفي الأوقات بين الصلوات. بمعنى أن هناك جوانب سياسية وحياتية تطرح من خلال الخطبة وأن سماعها يهم الجميع ومن هنا جاء التشديد على الخطبة. لكن مع اعترافهم بأهميتها وعظيم أثرها، لماذا لم يهتموا بها بنفس درجة اهتمامهم بالحديث؟
لماذا يحاول ابن قيم الجوزية إنكار ونفي وجود الجانب السياسي في خطب الرسول، والإيحاء أن تلك الخطب كانت وعظية دينية خالصة، لا علاقة لها بالسياسة؟، أليس هذا جل ما يفهم من قوله: "وكان مدار خطبته (ص) على حمد الله والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكْرِ الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيينِ موارد غضبه، ومواقعِ رضاه، فعلى هذا مدارُ خطبه... وكان يخطب كل وقت بما تقتضيه حاجةُ المخاطبين ومصلحتهم، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة، ويذكر فيها نفسه باسمه العلم(10). وهذا ما لمح إليه الشيخ عبد الرحمن بن ناصرالسعدي بخجل وتورية بقوله: "اشتراط الفقهاء الأركان الأربعة في كل من الخطبتين فيه نظر، وإذا أتى في كل خطبة بما يحصل به المقصود من الخطبة الواعظة الملينة للقلوب فقد أتى بالخطبة، ولكن لا شك أن حمد الله، والصلاة على رسول الله (ص)، وقراءة شيء من القرآن من مكملات الخطبة، وهي زينة لها"(11).
إن ما يتضح من خلال المقاربات والمقارنات الواردة في هذا الموضوع، يثبت أن تغييب خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإخفائها، والتعتيم الكلي عليها، تم بدوافع سياسية بحتة، وبتعمد وقصدية مدروسة ومخطط لها بعناية وتركيز شديدين، وأن ذلك تم لتغييب بعض أكثر المواضيع حساسية، يصل بعضها إلى درجة التشكيك بصحة الكثير مما وقع في صدر الإسلام الأول، ويكشف الكثير من الخفايا التي تسببت فيما نعيش تداعياته الدموية التخريبية اليوم، وهذا يتطلب منا أن نكون شجعانا، وان نتكلم بصراحة وصدق عن مثل هذه المواضيع، لا لمجابهة ومواجهة الآخر ولا لتوهين عقيدته، ولا كرها له، وإنما لنعيد ترتيب البيت الإسلامي الواحد بما يتناسب مع القرن الحادي والعشرين وتحدياته الكبيرة التي يفرضها على الأديان عامة ودين الإسلام خاصة، ما دامت الفرصة متاحة لنا، وقبل فوات الأوان، بدل أن تبقى كل فئة منا جامدة على موروثها، وتظن بأنها الفرقة الناجية.
اضف تعليق