"إذا مات العالم ثُلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء"، هذا الحديث المأثور عن الامام الصادق، عليه السلام، يحمل معه دلالات عميقة عن أهمية العلم والعلماء، وعن ضرورة الاهتمام بهذا الجانب من قبل ابناء الامة حتى لا تنعكس "الثلمة" على مسيرتها الحضارية، وتبقى على الطريق نحو الرقي والتقدم. لذا عندما نفجع بفقد عالم دين ينتابنا شعور مزدوج؛ بالحزن والأسى، وايضاً بالقلق من الحاضر والمستقبل، وما اذا كان بالامكان ظهور مرجع آخر مكان المرجع الفقيد – مثلاً- أو استاذ آخر في الحوزة العلمية، مكان استاذ بارع خطفته يد المنية، او خطيب حسيني وكذا عالم دين شاب يافع مثل فقيدنا الراحل سماحة السيد محمد جواد الشيرازي – طاب ثراه- الذي صُدم الجميع قبل أيام بوفاته، إثر حادث مؤسف، والصدمة ليس في حلول الأجل فهو حقٌ جار على الجميع، إنما حزّ في النفوس الرحيل المبكر لشاب يافع بدأ حياته الطيبة بدراسة العلوم الدينية، وهو يتطلع الى آفاق المستقبل في الحوزة العلمية وفي التصدّي لقضايا الأمة. شأنه في ذلك، شأن والده المكرّم، سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي، نجل المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه-.
لست على معرفة وثيقة بالفقيد السعيد، رغم أني عاصرت جدّه الراحل، واستمعت منه في أيام الشباب، فحفظنا منه الدروس والعبر، وتعلمنا منه الكثير ما نعده اليوم ذخراً يعيننا على مواصلة الطريق الذي شقّه لنا وللاجيال. بيد إن هكذا رحيل مفاجئ، لهكذا شخصية، وفي ظروف كالتي نعيشها، يوحي لنا برسائل عديدة تفيدنا – إن شاءالله- في مهمتنا الرسالية، منها رسالتين أرى من الجدير الاهتمام بها:
الرسالة الأولى:
تتعلق بشخصية الفقيد الشيرازي، الذي توقفت حياته الشريفة عند مرحلة، أدق ما تكون في حياة الانسان. فمن المعروف ما لدى الشاب من خصائص وطباع أودعها الله، وأقل ما يمكن قوله؛ رغبة الشاب – كل شاب- في الاستفادة من هذه المرحلة العمرية بالتمتع بنشوة الحياة وتحقيق الذات في الوسط الاجتماعي. بيد أن الفقيد الشيرازي "الشاب" أعطى هوية أخرى للشاب، عندما وظف شبابه لطلب العلم وتعليمه ونشره، سالكاً طريق الزهد والكفاف في العيش، والتواضع في السلوك، ضمن منظومة اخلاقية وثقافية متكاملة، وهذا لا يجب أن ينصرف الى المسألة الوارثية، كما يسعى البعض لتكريسها بشكل عام، عند الحديث عن عظماء وعباقرة، وكون الفقيد السعيد، سليل أسرة علمائية ومرجعية عريقة، فهو بدأ مسيرته العلمية، ومعها قرأ سيرة حياة الماضين من عباقرة العلم في تاريخنا المشرق، من أمثال العلامة الحلّي الذي بلغ مرحلة الاجتهاد وكانت له ما يشبه الرسالة العملية اليوم، وهو لم يكمل السادسة والعشرين من عمره.
وكذا كان شأن كثير من علمائنا الماضين والمعاصرين، الذين أدركوا مبكراً أهمية العلم ودوره في حياة الانسان، فأعدوا العدة لهذه المسيرة، وجندوا كل طاقاتهم وامكانياتهم لتحقيق النجاح، ومنها الطاقة الشبابية بما تحمل من حيوية ذهنية وبدنية وصفاء نفسي وقابلية على التعلم، مع علمهم بما يعترضهم في الطريق من صعاب وتضحيات، وهم يتعاملون في جلّ حياتهم بأمور لها صبغة معنوية، بينما يفكر كل شاب في حياته بالكسب المادي، بدءاً بالحصول على شهادة جامعية ذات شأن في المجتمع، ثم الحصول على وظيفة او مكتب خاص يحمل اسمه، كأن يكون طبيباً او محامياً او مهندساً وغيرها. وإن لم تخلُ هذه االمهام والاختصاصات من التزامات انسانية، فهي محدودة بأطر معينة، فالطبيب او المحامي او أي موظف آخر، لا يعنيه طريقة الحياة التي يعيشها الشخص الذي يتعامل معه إلا ما ندر. بينما هذه الفقرة تحديداً هي التي من اختصاص عالم الدين، فهو يحمل العلوم التي تنظم حياة الناس وتوفر لهم السعادة والرقي، وهذا ما نلاحظه في الحرص الكبير لفقيدنا الراحل على طيّ مراحل طلب العلم في سنين مبكرة من حياته، فهو في مرحلة الشباب يصطف الى جانب اساتذة الحوزة العلمية ليتخرج على يديه ثلّة من طلبة العلوم الدينية. ويعود الفضل في هذه السُنّة الحسنة الى جدّه الراحل والمرجع الفذّ، السيد محمد الحسيني الشيرازي، الذي غير كثير من التقاليد، ومنها أن يكون الاستاذ او المؤلف او المصنّف، كبيراً في السنّ، وقضى فترة طويلة من حياته في الدرس والبحث.
من هنا؛ نجد في هذا العزاء المرّ دعوة مفتوحة الى جميع الشباب لأن يلتحقوا بالحوزة العلمية، سواء من أحب التفرغ لطلب العلم، أو اراد التزود من العلوم الدينية التي من شأنها ان تفتح امامه آفاق معرفية واسعة وتغنيه بثقافة أصيلة. ولسان حالنا الآية الكريمة: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم}.
الرسالة الثانية:
وهو موجهة الى أولياء الأمور والمعنيين بأمر الشباب الطامح، ببذل مزيد من الجهد والاهتمام بهذه الشريحة ليكونوا على الطريق الصحيح بالاستعانة بالحوزة العلمية وعلمائها وأجوائها، فالشهيد السعيد، هو نفسه، ثمرة اهتمام الأب الفاضل به، وكما اسلفنا فان القضية ليست وراثية بالمرة، فهنالك علماء لم يتمكنوا من كسب ابنائهم الى طريق العلوم الدينية، بينما نجد نماذج عديدة من طلبة علوم دينية ناجحين وقد تربوا على يد آباء يمتهنون الاعمال البسيطة او الحرفية وغيرها، بيد أن تشجيعهم ومساعدتهم وفرت لهم الارضية الصالحة ليمضوا قدماً في هذا الطريق، فيصبح منهم عالم الدين والاستاذ في الحوزة، او الخطيب او المؤلف وهكذا.
والحقيقة؛ إن الحديث عن الموت، يثير في ذاكرتنا دائماً، الحذر من أن تحوطنا يد المنية على حين غفلة، ونحن بعيدون عن الدور الحقيقي والمطلوب في الحياة، او نغيب عن قافلة الحياة فجأة مع قصور بما يجب فعله لتغيير الاوضاع او إصلاحها على الأقل. صحيح أن لوعة المصاب تشتد بفقد هذا العالم الرباني في هذه المرحلة، بيد أن العبرة في مواصلة الطريق، وهذا ما يدخل السرور الى روحه الطاهرة وهو في جوار ربه، وعند النبي الأكرم وأهل بيته المعصومين، صلوات الله عليهم. ولعل هنالك شباب مثله يمضون في طريقه وتكون لهم الحظوة في عمر أطول فيُكملون ما توقف عنده الفقيد الشيرازي، وهكذا تستمر المسيرة الرسالية الى غدٍ مشرق – ان شاء الله-.
اضف تعليق