الانسان العربي منذ بزوغ فجر الإسلام حاول الإيحاء بأنه ليس بحاجة الى كثير تعاليم وآداب وأحكام، فهم يتغنون بالكرم والشجاعة والشعر، علماً أن حقائق التاريخ تدلنا على أن هذه الشجاعة والفروسية كانت لشن الغارات الليلية، والنهب والسلب وفق قانون الأقوى...
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (سورة الأحزاب، الآية:72)
ما أسباب بعثة محمّداً نبياً لآخر الزمان؟
السبب الظاهري المبحوث تاريخياً؛ استبدال العبادة "الشركية" من خلال الأوثان، بالعبادة التوحيدية لله الواحد الأحد، ومن ثمّ الإيمان بالله وبما أنزله على صدر رسوله الكريم من أحكام وقوانين وسُنن ضمّها دفتي القرآن الكريم.
أما السبب غير الظاهري فهو؛ إعادة صياغة الشخصية الإنسانية، وفي مرحلة لاحقة؛ صياغة الشخصية الرسالية القادرة على حمل، ليس فقط أحكام الشريعة الإلهية المتجددة على يد النبي الخاتم، كما فعل الرسل والانبياء وأتباعهم من قبل، وإنما حمل الأمانة الإلهية الكبرى في الأرض، وقد اختلف المفسرون في معنى "الأمانة" الواردة في الآية التي صدرنا بها المقال، فمنهم من ذهب الى أنها تقصد "الولاية" من الله في الأرض، بمعنى أن يكون الانسان ولياً لله، بأن يتمثل صفاته وأخلاقه، ومنهم من ذهب الى أنها "المسؤولية" في الحياة.
أما العرب، فقد فهموا في الأيام الأولى من إعلان النبي كونه رسولاً من رب العالمين، أنه يروم التسيّد والتملّك على الآخرين، انعكاساً للثقافة الاجتماعية آنذاك، لذا نجد عروض المشركين عليه بأن يملكوه عليهم، او يزوجوه بأفضل النساء، وحتى يعطوه ما يريد من الأموال، لما يعرفون عنه قلّة ذات اليد، والحالة المعيشية البسيطة له، و بقي هذا التصور في الأذهان حتى فتح مكّة عندما خاطب أبو سفيان، العباس بن عبد المطلب (عمّ رسول الله)، وهو يرى جموع المسلمين تزحف نحو مكّة بأن "أصبح ملك ابن أخيك عظيماً"، فأجابه العباس القريب بعض الشيء الى ثقافة الرسالة، "إنها النبوة".
ولا نستغرب أن نشهد رواسب هذا التصور الجاهلي حتى اليوم في بعض اذهان المسلمين، الى درجة تحوله الى "أيديولوجيا ثورية" تفرض على الواقع الاجتماعي فكرة التسلّط والتسيّد بدعوى إقامة حكم الله في الأرض، حتى وإن استدعى الأمر التوسّل بالقوة، وبدلاً من ان يتحول المبعث النبوي الى ذكرى جميلة تبعث في نفوس أهل العالم المسرّات والبشائر بنجاة البشر من الظلم والعدوان والضياع، فان مجرد الحديث عن ذكرى ظهور الإسلام اليوم في أي مكان بالعالم ربما يستدعي الى الذاكرة؛ التطرّف، والعنف، والسطحية، وحتى الصنمية لمن يدّعون القيادة والزعامة.
بين الشخصية الجاهلية والشخصية الرسالية
بما أن الاعتداد بالنفس خصلة مكنونة، فان الانسان العربي منذ بزوغ فجر الإسلام حاول الإيحاء بأنه ليس بحاجة الى كثير تعاليم وآداب وأحكام، فهم يتغنون بالكرم والشجاعة والشعر، علماً أن حقائق التاريخ تدلنا على أن هذه الشجاعة والفروسية كانت لشن الغارات الليلية، والنهب والسلب وفق قانون الأقوى، والآية الكريمة تحدثنا عن هذه الحالة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، كما أن الصديقة الزهراء، في خطبتها الفدكية المدوية ذكرتهم بأن "وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ، صلى الله عليه وآله".
وذهب المؤرخون في سيرة النبي الأكرم الى أبعد من هذا في رسم الشخصية الجاهلية أمام شخصية رسول الله، بأن في العرب من كان ينبذ عبادة الأوثان وينتظر المخلّص والمنقذ من ضلالات الجاهلية وسوءاتها، ومنهم؛ زيد بن عمرو بن نفيل الذي يعده "البخاري" السابق على رسول الله في نبذ الأوثان في مكة! وينقل عنه رواية تاريخية –رغم أنه بالأساس راوٍ لأحاديث النبي الأكرم- بأنه التقى رسول الله ذات مرة قبل نزول الوحي عليه فقدم النبي له مائدة فيها لحم، فأبي زيد ان يأكل منها، وقال: إني لا آكل ما لم يذكر اسم الله عليه، مما تذبحونه لأنصابكم!
ويذكر عنه أن هام على وجهه في البلاد البعيدة بحثاً عن التوحيد والعقيدة الصحيحة، وكان الى جانبه رسول الله يتعبّد في غار حراء فترة طويلة، والاستفهام الكبير حول صمت رسول الله إزاء حالة زيد وتركه يغادر الى الشام يبحث عن التوحيد بين اليهود والنصارى؟
وما هو أغرب من هذا عند البخاري روايته عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: "رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قد أسند ظهره الى الكعبة وهو يقول: "يامعشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري"! والأنكى من كل ذلك، أن "ابنه سعيد بن زيد جاء مع ابن عمّه عمر بن الخطاب الى النبي بعد بعثته نبياً وقالا: أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: نعم فإنه يُبعث أمة وحده"! (سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني)، وهذا يتناقض مع الرواية المشهورة بأنه، صلى الله عليه وآله، لم يستغفر لحاتم الطائي رغم ثنائه على كرمه في حواره المشهور مع ابنته سفانة خلال أسرها في إحدى المعارك، "لو كان مسلماً لترحمنا عليه".
إن الرجل الأمة الذي يبعث وحده، و الذي يخفيه البخاري هو أبو ذر الغفاري، رضوان الله عليه، بتصريح النبي الأكرم، وفي رواية مشهورة في كتب السنة والشيعة بأن النبي قال في حقه: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده"، هذا الوسام يُضاف الى وسام الصدق، لأن أبوذر الغفاري كان تلميذاً مجتهداً بين يدي رسول الله، وقد صاغت الرسالة شخصيته بالكامل فصار إيمانه، وأخلاقه، وكلامه، وتضحياته التي استمرت حتى نهايته المؤلمة، كلها لله وللإسلام، لتصدق نبوءة النبي بحقه، والمثير هنا؛ أن "البخاري" يضعّف هذه الرواية!
علي بن أبي طالب.. ديمومة الإسلام
ليس من شأن هذا المقال البسيط الحديث عن علاقة أمير المؤمنين، عليه السلام، بالرسالة وتحديداً ببعثة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وحقيقة هذه العلاقة وعمقها وأبعادها، فقد أشار اليها النبي الأكرم غير مرة، وفي اكثر من مناسبة أمام جموع المسلمين، حتى أن احد الباحثين أكدّ استحالة الحديث عن مسيرة الإسلام منذ البعثة النبوية، ما لم يواكبها الحديث عن مسيرة حياة أمير المؤمنين، عليه السلام، منذ نعومة أظفاره، وحتى خضاب لحيته بدم رأسه في محراب صلاته، فقد كان الى جانب رسول الله وهو وحيداً في مكة يتعرض لمختلف اشكال الأذى والاعتداءات، ثم تحول الى الدرع الواقي له ليلة المبيت، وفي المدينة تحوّل الى الرجل الثاني في الدولة الاسلامية، لبطولاته وتضحياته في سوح المعارك مع المشركين وأعداء الرسالة، لذا جرت المحاولات للتقليل من أهمية هذه الشخصية العظيمة، او على الأقل تحييدها وجعله كأي شخص آخر، يُخطئ او تصدر منه هفوات او اساءات -حاشاه- كما ألصقوا به حادثة "عبس وتولّى"، ومن أجل هذا ركزوا على جانبين في علاقة أمير المؤمنين برسول الله، من جملة جوانب اخرى:
الجانب الأول: يتعلق بسنّه حين أسلم، ففي الوقت الذي يتفق المؤرخون والمحدثون على سابقيته الى الإسلام، وأنه أول الناس إيماناً بنبوة رسول الله، و يروون أنه "بُعث النبي يوم الاثنين وصلّى معه علي يوم الثلاثاء"، لكنهم يختلفون في سنّه يوم إيمانه، فقد جرت محاولات حثيثة لجعل سنّه أقل من الحقيقة ليكون الدعامة لاستنتاجهم بعدم أهمية هذا الإسلام من "صبي صغير غير مكتمل العقل والإدراك، في مقابل من أسلموا وهم في كمال العقل والإدراك، فهو إسلام النظر والتفكير، وإسلام الصبيان عن تقليد ومحاكاة"! فقد قال بعضهم أنه أسلم في سن السابعة من العمر، في حين معظم المصادر التاريخية تؤكد أنه، عليه السلام، كان عمره ثلاثة عشر وقد آمن برسالة السماء، وجاء عن حذيفة بن اليمان: "كنا نعبد الحجارة ونشرب الخمر، وعلي بن أبي طالب، من أبناء أربعة عشر عاماً وهو قائم يصلّي مع النبي ليلاً ونهاراً، وقريس تسافه النبي، وعلي يذبّ عنه ولا ناصر له غيره، وغير أبيه أبي طالب". (شرح نهج البلاغة- ابن أبي الحديد).
الجانب الثاني: محاولة حصر قضية إيمانه بالإطار الشخصي والعائلي والقبلي التزاماً وحبّاً منهم بالقيم الجاهلية، بينما نجد شخصاً مثل سلمان القادم من بلاد فارس، يسميه النبي الأكرم، سلمان المحمدي، بدلاً من سلمان الفارسي، ويعطيه الوسام العظيم بأن "سلمان منّا أهل البيت"، لذا كانوا يرون أن إسلام أمير المؤمنين جاء كونه ابن عمّ النبي، وقد تربّى في حجره، فمن الطبيعي ان يكون أول المؤمنين به، وهو ما أشار اليه ضمناً عباس محمود العقاد في "عبقرية الامام علي"؛ "اذا نظرنا في ميلاد العقيدة والروح، لأنه فتح عينيه على الإسلام ولم يعرف قط عبادة الأصنام قط، وقد تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الإسلامية، وعرف العبادة في صلاة النبي الأكرم، وزوجته الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه وأمه".
ولا غرو أن نجد هذه النظرة الجاهلية ماثلة امامنا اليوم عندما تؤمن طائفة كبيرة من افراد الأمة بأن حديث الغدير قائمٌ على الحب والمودة من النبي لابن عمّه، ولذا قال له: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه"! بينما يغيب عنهم –للأسف- أن أمير المؤمنين، وهو في سابقيته وقرابته من رسول الله، يتحيّن فرصة نيل الشهادة في معارك المصير بين يدي رسول الله، وفي معركة أحد أعرب عن أسفه الشديد من عدم الالتحاق بركب الشهداء مع عمّه حمزة، فكان الجواب من النبي: "إنها من ورائك يا علي"، ولم يكن ليدخّر سجله الجهادي ليكون الخليفة والقائد والزعيم من بعد النبي كما كان يفكر الآخرون.
وفي الختام؛ يجدر بي الإشارة الى الزيارة المنصوص عليها لمرقد أمير المؤمنين في ليلة المبعث النبوي الشريف بما تؤكد لنا حقيقة العلاقة أمير المؤمنين ورسول الله، وأنها علاقة رسمتها السماء، وكشف عن جانب منها رسول الله بقوله: تقاتل على التأويل كما قاتل على التنزيل، وقد أوردته كتب السنّة بهذا اللفظ: "عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، فانقطعت نعله –أمير المؤمنين- فتخلف يخصفها فمشى قليلا فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فاستشرف لهما القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل - يعني عليا- فأتيناه فبشرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله".
اضف تعليق