فالإسلام قرر شهر رمضان، حتى يكون شهر التبتل والانقطاع، الذي يسلخ الفرد ـ والمجتمع المتكوّن من الأفراد من التوغل في الحياة المادية الرتيبة، ليفرغه للتمسك بذلك (المعقل الحريز) ألا ترى الإسلام، كيف دفع النّاس دفعاً إلى تلاوة القرآن الكريم، في هذا الشهر العظيم، حيث جعل...
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)
مقدمة قرآنية
جاءنا ذروة الشهور وقمَّة الأيام، شهر الله المعظم، شهر النور والفرح والسرور على الأمة الإسلامية، وصدق رسولنا الكريم حيث يقول في خطبته في استقبال هذا الموسم والشهر المبارك: (أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَفْضَلُ اَلشُّهُورِ وَ أَيَّامُهُ أَفْضَلُ اَلْأَيَّامِ وَ لَيَالِيهِ أَفْضَلُ اَللَّيَالِي وَ سَاعَاتُهُ أَفْضَلُ اَلسَّاعَاتِ هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اَللَّهِ وَ جُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اَللَّهِ..)
أتانا فيا مرحباً، وجاءنا فيا أهلاً وسهلاً بشهر التواصل والتوادد والمحبة بين المؤمنين، والبذل والعطاء والجود للمستطيعين، فهذا الشهر في الحقيقة هو شهر البركة ولا تكون البركة إلا بالعطاء والبذل مما نحب، ليعطينا ويتفضَّل علينا الخالق الكريم بالأضعاف المضاعفة بإذن الله تعالى..
وأعظم ما في هذا الشهر هو أنه شهر القرآن الحكيم تلاوةً، وتفكراً، وتدبراً، وتهجداً، ولذا قال الرسول الأكرم (صلى الله عله وآله) في خطبته: (مَنْ تَلاَ فِيهِ آيَةً مِنَ اَلْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ اَلْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ اَلشُّهُورِ)، فالتلاوة في هذا الشهر لا يًقاس بها غيرها من بقية أيام وشهور السنة كلها، ولذا علينا أن نشارك الأحبة الصائمين بالإشارة إلى بعض الآيات الحضارية التي تفيدنا في رؤية حضارية أكثر جمالاً وتكاملاً في هذا العصر الأغبر لعلنا نساهم في نشر الوعي الحضاري، والفكر القرآني بين المؤمنين بإذن الله تعالى في هذا الشهر العظيم.
وسأستفيد من بعض البصائر القرآنية الحضارية، وأدبه الراقي من سلسلة (خواطري عن القرآن) للسيد الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي (قدس الله روحه الطاهرة) لأنه من أجمل الكتب التي قرأتها عن القرآن الحكيم وكم أتمنى أن يظهر مَنْ يُكمل هذا المشروع القرآني الذي بدأه السيد حسن على عجلة من أمره وفي أسفاره التي كانت ما بين دمشق وبيروت في معظم الأحيان..
حقيقة الصيام
يشرح السيد الشهيد هذه الحقيقة من زاوية لطيفة حيث يتعرَّض لها بالكلمات التالي وبأدب جم وعبارات راقية غاية في الرَّوعة والجمال، حيث يقول:
١- أن طبيعـــة الصيـــام -في ظاهـــر التشـــريع- طبيعة ســـلبية، لا يمكن أن، تكون هدفاً من أهداف شرائع السماء الإيجابية، لأن كبح نداءات الجســـد -ولو لفترة الصيام- عملية هدم، وليســـت عملية بناء فهو عملية ســـلبية، لا ينسجم مع طبيعة الأديان، وخاصة مع طبيعة الإســـلام، الذي هو حضارة الروح والجســـد معاً والذي اهتم برعاية الجســـد كما اهتم برعاية الروح، فقال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77)
وقال على لســـان الإمام علي بن الحســـين (ع): (ليس منا من ترك آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته).
٢- إن طبيعة الصيام -في ظاهر التشـــريع- محاولة لإلغاء رغبات الجســـد -ولو فترة الصيام - وإلغاء رغبات الجســـد لا يمكن ما دام الجسد، إلا إذا كان حلقة في سلسلة أعمال تصفوية تمارس لإلغاء الجسد أو تذويبه.
والإســـلام عمل لصيانة الجســـد وترتيبه، واعتبر أي عمل يؤدي إلى إهلاك الجسد -أو طرف من أطرافه- من أكبر المحرمات، وألغى أي حكم يؤدي الالتزام به إلى إهلاك الجسد، أو طرف من أطرافه.
والإسلام احترم رغبات الجسد، واعتبرها أمانة الله لدى الإنسان، وشرَّع الأحكام لتقنينها.
فكيف يكون إهمال رغبات الجسد، عبادة تقرِّب إلى الله، والاستجابة لها، معصية تبعِّد عن الله؟؟!!
فلا بد أن نفترض الصِّيام، أحد شيئين لا ثالث لهما:
١- شـــيء مركب له جانبان: جانب ســـلبي وجانب إيجابي وجانبه الســـلبي، تجاهل نداءات الجســـد فترة الصيام ـ. فيكون التساؤل: (إذن: فما هو جانبه الإيجابي؟).
٢- شـــيء بســـيط، يمهِّد له تجاهل الجســـد -خلال فترة الصيام- كالبناء الذي يمهد له الهدم والصيام، يؤدي دور الهدم. فيكون التساؤل: (إذن: فما هو الصوم الحقيقي الذي يمهِّد له الصيام الظاهري؟).
ففي الفرضية الأولى؛ يكون التساؤل بحثاً عن الجانب الإيجابي للصيام.
وفي الفرضية الثانية؛ يكون التساؤل بحثاً عن حقيقة الصيام.
ويمكن الجواب على هذا التساؤل بما يلي:
١- إن حقيقة الصيام كلها؛ هي ما يبدو من ظاهر التشريع، هو إيقاف الغرائز -فترة الصيام- وليس إيقاف الغرائز لفترة محددة، عملاً سلبياً، إذا كان من مصلحة الغرائز أنفسها، وفي صالح الجسد ذاته.. لأن الإيجابية بالنسبة إلى أي شيء، لا تعني العفوية والاسترسال، وإنما تعني الالتزام وفق التقييم الواقعي المدروس.. والتقييـــم الواقعـــي المـــدروس، دلَّ على: أن الاسترســـال العفوي مع الغرائـــز إلى منتهى طغيانهـــا واندفاعها؛ يودي إلى استنفادها الباكر، وتبكيت الجسد من ورائها.. وأن ترويضها، يساوي احترامها وصيانة الجسد من ورائها.
وقد أفاد الطب: أن الصيام -بظاهره الوارد في نصوص الشـــريعة- يؤدي إلى تربية الجســـد، وتخليصه من الرواســـب المتطفلـــة عليه، والزوائد العالة التي تشـــلُّ نشـــاطه واســـتقامته.. وقد أفاد الطـــب أن الصيام -بظاهـــره الوارد في نصوص الشريعة- يؤدي إلى تنشيط الغرائز، وإنقاذها من الرَّهق الكابي (المسقط).. فهو عمل إيجابي، رغم ظاهره السلبي.
لأن واقع كل شـــيء لا يقاس بظاهره، فرب شـــيء ظاهره سلبي وواقعه إيجابي: فالنوم -في ظاهره- عمل سلبي، لأنه يعطِّل الجســـد عن ممارســـاته الحيويـــة، وفي واقعه إيجابي، لأنـــه يهدِّئ الأعصاب ويريحها، فيهيئ الجســـد لمواصلة ممارساته الحيوية.
وتشـــذيب الشـــجر -في ظاهره- عمل ســـلبي، لأنه تنقيص لحجمـــه، وبتر لأغصانه، وتحديد لامتـــداده، وفي واقعه إيجابي، لأنه تطهير له من عفويته، وإنقاذ له من الفروع المحسوبة عليه، التي تعيق فيه نشاط الإثمار ووفرة الغضارة". (خواطري عن القرآن: ج1 ص 98)
رؤية حضارية في الصوم
هذه الرؤية الحضارية التي يحاول أن يشرحها ويفصلها السيد الشهيد في كلماته في تعليقه على الآية الكريمة هو محاولته النظر إلى قيم التشريع الإسلامي كقيم إيجابية متناسبة ومتناسقة مع طبيعة الحياة والكون من حولنا، فهي ليست عملاً سلبياً كما يظهر منها بحيث أنها تحارب الشهوات والغرق في الملذات ومستنقعاتها الآسنة في كثير من الأحيان، فهي عملية ضرورية جداً لبناء الجسم الصالح المعافى، والروح السليمة الكريمة على خالقها الذي خلقها وكرَّمها وكلَّفها بالتزكية، وجعل الصيام من هذه الطرق الرَّبانية في تزكية الروح وتطهير الجسد من رواسب العفونة وكثافة المادة، والروح من أمراضها والنفس من أعراضها المؤذية.
فالصوم جنَّة -كما ورد في الحديث الشريف- ونِعم الجُنة للجسد الترابي الأرضي، وللروح السماوية والنفخة، أو النفحة الرَّبانية فيه، فهكذا تظهر حقيقة الصوم التربوية والتطهيرية للإنسان لو أدركها لسعى للصيام بكل ما فيه ولأخلص لله في صيامه وقيامه وتلاوته لكتاب ربه سبحانه وتعالى.
حضارية عبادة الصوم
فالصوم عبادة حقيقية، وفكرة حضارية تبني الروح بالأمور المعنوية، والجسد بالحركات العادية، وهو من أعظم العبادات الاجتماعية في الإسلام، إذ أن الصوم في فلسفته وعلَّة تشريعه ليشعر الناس ببعضهم البعض فيتواسون لأنهم جميعاً فيه يتساوون ولا فرق بين الكبير والصغير والغني والفقير ولذا جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إِنَّمَا فَرَضَ اَللَّهُ اَلصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ اَلْغَنِيُّ وَاَلْفَقِيرُ وَذَلِكَ أَنَّ اَلْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ اَلْجُوعِ فَيَرْحَمَ اَلْفَقِيرَ لِأَنَّ اَلْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئاً قَدَرَ عَلَيْهِ فَأَرَادَ اَللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَأَنْ يُذِيقَ اَلْغَنِيَّ مَسَّ اَلْجُوعِ وَاَلْأَلَمِ لِيَرِقَّ عَلَى اَلضَّعِيفِ وَيَرْحَمَ اَلْجَائِعَ). (علل الشرایع للصدوق: ج۲ ص۳۷۸)
فالصيام كالموت الذي يتساوى فيه الجميع في هذه الدنيا، ولذا نجد أن شهر رمضان الكريم هو شهر البناء النفسي بالنسبة للأشخاص، والحضاري بالنسبة للأمة، لما فيه من التواصل والتباذل والجود والعطاء، وهنا جميل ما جاد به السيد الشهيد في كلماته حيث يقول: (الإنسان الذي يعيش الاجتماع سنة كاملة، يقتحم في غضونها كل جوٍ، ويباشر كل تفكير، ويمارس كل تجربة ومعركة ومحيط، تترسب على عقله وقلبه وعواطفه، أكوام باهظة من (الغبار الاجتماعي) الذي يثور في كل جو، نتيجة الصراع الاجتماعي الدائب في كل مكان، يعيشه أكثر من إنسان ويتحرك فيه أكثر من نشاط.
وليس من المضمون، أنْ يكون الإنسان أثيراً في كل جو وبيئة ومحيط، ومع كل نشاط وإنسان بحيث يعطي ويطوّر، ولا يأخذ ولا يتطوّر، بل الإنسان مهما صلب ونشط، يتأثر كما يؤثر، كلمات هنالك: إنّ العباقرة يؤثرون أكثر مما يتأثرون، والبسطاء يتأثرون أكثر مما يؤثّرون، وأمّا البوتقة الاجتماعية، فلا تبرد عن مزج الشخصيات المنصهرة فيها، وتفريغ النتاج المزدوج في نفوس المستلهمين من ذلك: (الجو الاجتماعي) المتألف من مجموع الشخصيات المتفاعلة فيه... فكل من يتغذَّى من ذلك الاجتماع، يتغذَّى من جميع الشخصيات التي عاشوا مترابطين منذ الأزل، فكان منهم ذلك الاجتماع، وكل تفكير صورة جماعية لملايين الأفكار، وكل شخصية نتاج ازدواج ملايين الشخصيات.. ومن هنا ينشأ تطور الفكر البشري، الذي يوحي بتطور بقية مظاهر الحياة.
ومتى كان (التفاعل الاجتماعي) دائباً لا يفلُّ عن إنجاز هدف الطبيعة من الاجتماع، كان الفرد الذي يتكون تحت رعايته، ويدرج في أحضانه، مصباً قهرياً لكافة تياراته، ومعرضاً أكيداً للانحراف الطائش، مع اتجاهاته الكثيرة المتشابكة، من حيث يشعر ويريد، أم يكره ولا يشعر.
وإذا صحت هذه الحقيقة ـ هي صحيحة ـ واستسلم الفرد للتجاوب مع الاجتماع، والانصياع لإرادته وميوله، كان منقاداً للمجهولات المتحكمة في ذلك الاجتماع، وكان جديراً بأن يتكسَّر ويتهدَّم، ويترسَّب على عقله وقلبه وعواطفه، ما يعوّذ منه اليوم، ويغدو من العِبر القائمة، التي كان يستجير منها بالأمس، ويكون ريشة على متن الإعصار، لا يعلم لماذا، ومتى، وأين يهوى به في القرار.
فلا بد لمَنْ يعايش الاجتماع، من (عاصم واع) يسلس له حتى يتجاوب ويتفاعل مع الاجتماع، فينمو ويتطوّر، إلى حيث يحسن الانطلاق مع إرادة الاجتماع، والاندماج في مواكبه، والانضواء تحت راياته.. ويكفكفه من الاندفاع الطائش مع الإرادات الأجنبية، التي تتسلل إلى الاجتماع لتسخيره وتسييره في الاتجاهات المتطرفة، التي تبدأ من عقر بلادنا، وتنتهي بِدرِّ خيراتنا في لهوات المستغلين والانتهازيين...
وهكذا، كان لا بدَّ لكل إنسان يعيش الاجتماع، من (مصقل) يتقن كشف واقع الحوادث، وتحديد موقف الفرد منها، كي لا تنتهي بخسارته.. وكذلك المجتمع، الذي يكون (وحدة) في المجموعة البشرية، المؤلفة من مجتمعات عديدة، يبقى عرضة دائمة، لشتى الانحرافات، ونهزة لأقوى المجتمعات المتفاعلة في المجموعة البشرية، وكتلة يترسب عليها الغبار العالمي.
فالمجتمع الحي الواعي، ليس هو الذي يبقى مغلَّفاً معصبَ العيون، حتى يغدو وكراً للعناكب، ونفقاً مظلماً للراقدين.. ولا ذلك المائع السَّافر الذي لا يعرف الأسوار والحصون، ولا يعترف بالطهارة والصدق، بل يفتح أحضانه لكل وافد منبوذ، ويرحِّب بكل عابر ممسوخ... وإنّما ذلك المجتمع، الذي يفتح نوافذه على الشرق والغرب، لتختلف فيه الأنسام، وتعكس فيه الإشعاعات، وتفاض عليه الاتجاهات والآراء والميول، من قواعد الإرسال، فيدرس ويجرب كل واحد، فيغلق النافذة التي تتسلل منها الأوبئات باسم الثقافات، ويوّسع النوافذ التي تهمي الثقافات النافعة، فيعيش الموئل الخصب المأمون، الذي تتصافح فيه الحضارات والمدنيات، فتتفاعل وتزدهر، ولكن لا يهمل واقعه بلا ضمان، حتى يصبح مصباً للمستنقعات العفنة، ومرتعاً للزوائد الشاذة، وأرضاً للمعارك الأجنبية، التي تدور على حسابها، ويقتطف نتاجها الآخرون.
فالاجتماع، الذي يريد أنْ يشعر بوجوده العضوي، في الأسرة الدولية والعالمية، ويحب أنْ يمثل البشرية العادلة، التي ليست بالمتأخرة ولا بالمتطرفة، عليه أن يرتبط بـ (معقل) حصيف، يحصنه من الجمود والانجراف.. وشهر رمضان، يقوم بجزء من دور (المعقل العاصم) وتتجسد رسالته في إسباغ الحصانة على الفرد والمجتمع.
فهو فترة التأمل والتفكير، ومحاسبة النفس، وعرض الواقع الذي يعيشه الفرد والمجتمع، على ذلك (المعقل) المعصوم، الذي لا يزلُّ ولا يخطأ، وذلك (الضَّمان) الفردي والاجتماعي، الذي يحصِّن مرابطه من التأخر والتطرف، ويكفل له الهداية والرَّشاد، إلى سواء الحقِّ والصراط المستقيم، وهو (القرآن الحكيم).
فالإسلام قرر شهر رمضان، حتى يكون شهر التبتل والانقطاع، الذي يسلخ الفرد ـ والمجتمع المتكوّن من الأفراد ـ من التوغل في الحياة المادية الرتيبة، ليفرغه للتمسك بذلك (المعقل الحريز).
ألا ترى الإسلام، كيف دفع النّاس دفعاً إلى تلاوة القرآن الكريم، في هذا الشهر العظيم، حيث جعل ثواب قراءة كل آية منه في هذه الفترة، بمنزلة قراءة سبعين آية، أو تلاوة القرآن كله، فيما سواه من الشهور؟
ألا ترى الإسلام، كيف يحبذ الإكثار من الأدعية المأثورة، التي تفصل أهداف القرآن، وخصص بكل وقت من أوقات هذا الشهر أدعية تسدُّ جميع الوقت، وتبلغ بالداعي أقصى درجات الوعي والصفاء؟
ألا ترى الإسلام، كيف حتَّم بصرامة بالغة، صيام هذا الشهر كله، لتتميم رسالة رمضان، بتفريغ المعدة وكبح الشهوات، اللذين يعملان على كشف الرواسب، وصقل الأذهان، لتتأهب للتلقي والتجاوب والقبول؟
ألا ترى الإسلام، كيف يحفّز على مواصلة (الاعتكاف) في هذا الشهر، لينقل الصائم حتى من أجواء الحياة الصاخبة المزدحمة، إلى جو عبادي هادئ، كيما يبتعد عن واقعه المألوف، فيتفرَّغ لضميره وقرآنه وأدعيته، ليعرض عليها نفسه وحياته السابقة بكل هدوء وأناة، ثم يقول هو كلمة ضميره وقرآنه وأدعيته في نفسه؟
ألا ترى الإسلام، كيف يشجع على التأمل والتفكير، حتى يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين عاماً)؟
ألا ترى الإسلام، كيف يُلفت النّاس إلى فحص واقعهم، وتجديد النظر في أنفسهم، ويحذّرهم من مغبة الانطلاق الأهوج وركوب الأهواء، فيقول على لسان نبيه الكريم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) فإنّ عثرة المسترسل لا تقال؟
ألا ترى الإسلام، كيف يحرص على سهر ليالي رمضان، وإحيائها بالذكر والتلاوة والصلاة، ويعوض النوم فيها بـ (نوم القيلولة) قبل الظهر، حيث علم أنَّ جو الأسحار وهدوئها الملهم، يبعث على صفاء الأفكار ونبوغ العبقريات؟
ألا ترى الإسلام، كيف يدعو ـ في هذا الشهر - إلى حسن الخلق، والعفو، والإحسان، والتواصل، والتحابب، وجعل ثواب كل معروف مضاعفاً، ليذيب السخائم الداخلة، التي تغلي وتجيش، فيشغل الفكر بواقعها الثائر، عن مهادنة الصائم، للانصراف إلى محاسبة حياته الماضية، والاستلهام والتصميم للمستقبل؟
ألا ترى بقية آداب وتعاليم رمضان، كيف تتضافر على تجريد الإنسان من الشواغل الماديّة كلها، وتفريغه لواقعه وضميره وقرآنه، يعرض واقعه على قرآنه، ويترك ضميره يحكم له أو عليه، في أمان ممَّن يدسُّ أنفه في المحكمة بلا استحقاق، ليؤنِّب هو نفسه على ما فرَّطت، ويصمم لإلزامها الصَّواب حتى لا تخبط من بعد؟
فرمضان بمؤهلاته وآدابه (فترة المحاسبة والحصانة) التي لا يحصل الاعتدال والنبوغ إلاّ فيها، ولا يقدران إلا بقدرهما.. واعترافاً بهذا الواقع، نجد النوابغ، والعظماء يقدرون في برامج حياتهم، ما يسنح لهم من فترات شاغرة للمحاسبة والتفكير، ولا تتأزم المواقف إلا ويوفرون على تلك الفترات قطاعات أخرى من الوقت، لتعينهم على اقتحام الأزمات بنضوج، وعندما يبرزون إلى الحياة، نجد حصانتهم بمقدار سعة تلك الفترات.
ونظراً إلى هذا الواقع، يعتبر الإسلام شهر رمضان، أقل فترة يجب ألا ينقص منها أي إنسان، وحتى إذا ما نقصت تحت إلحاح الضرورة، أو الطوارئ التي تلجأ إلى الأسفار، كان على الإنسان أنْ يعوضه فيما يلي بمقداره، أما ما أنقص منها بلا مبرر، فعليه التعويض والكفارة والعذاب، ولكن يستحب لمَنْ يستطيع الزيادة أن يزيد، فليس ذلك إلا توفيراً على الكمال الإنساني، فيستحب الصوم ثلاثة أيام في كل شهر أوله ووسطه وآخره، وأيام الجمع، والأيام البيض، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وأيام أخرى لمناسبات أخرى، ثم مَن زاد فله الأجر.
ذلك جزء من فلسفة رمضان، وهذه فلسفة رفيعة لا يحققها في واقعها غير النوابغ والعظماء، ولكن الإسلام بنظراته الشاملة، التي تنكر الاستئثار، واستغلال فئة خيرات الدنيا، وإنْ كانت هي العبقريات، فلا يحب الإسلام تخصيص السيادة بأفراد دون آخرين، وإنّما يرى أنَّ كلَّ تطلّع إلى الحياة، يستحق من الحفاوة والرعاية، بمقدار ما يستحقه أعظم الفلاسفة النابهين، حتى تكون المسؤولية عليه إنْ هو توانى عن استخدام صلاحياته ومؤهلاته.. وأنَّ كل فرد في حياته العائلية وعمله وأهدافه، يحتاج إلى الرعاية والنبوغ، بمقدار ما يحتاجه الملك في تنظيم حكومته، فلا بدَّ من تعميم التعاليم التربوية، وتوسيعها من القاعدة حتى القمَّة، ليتكون كل فردٍ في حياته الخاصة والمشتركة غنياً يحمل في تفكيره النبوغ والنضوج، ويعرف مصادر الحياة وأهداف الكون.. ويعني ذلك خلق مجتمع متساوي القوائم والأضلاع، وتعميم نظريات اجتماعية بالغة الأهمية.
وإذا صح أنْ في الشهور شخصيات.. فإن شهر رمضان، شهر ذو شخصية لامعة، له مميز خاص، وطابع معين، لأنّه شهر يؤثر في حياتنا ويحوّرها، ومن هنا كانت شخصيته، التي ينفرد بها، لا يدانيه فيها أي شهر، حتى شهر الحج، لا ينافسه شخصيته، لأنّ الحج أيام معدودات، لا يشعر بها إلاّ مَنْ يعيش في البلاد المقدسة، أو يفد إليها، أما شهر رمضان، فيملي أحكامه من أول يوم فهي إلى آخر يوم، ثم لا يترك النّاس إلاّ وهم على أبواب عيد، وهو يعيش ويمنح جوه الخاص للمسلمين، عموماً في مشارق الأرض ومغاربها، لا كذي الحجّة، الذي لا يشعر بالحج، غير الواقفين في عرفة، أو الماكثين بمنى.
فهو انتفاضة روحية عامة، وتوحيد للشعور المادي بين المسلمين، وتأهيب سنوي لكافة الفئات والعناصر، والمتناقصة حول كثير من المسائل والحقائق). (حديث شهر رمضان؛ للسيد الشهيد حسن الشيرازي).
بهذه الكلمات الراقية وهذا الأدب الرائع وصف الجانب الاجتماعي والحضاري في عبادة الصوم وحضارة شهر رمضان المبارك السيد الشهيد، وليتنا نعيد القراءة من جديد بهذا العطاء العلمي والأدبي ونأخذ به لنصوغ أنفسنا وأسرنا ومجتمعنا وحضارتنا على هذه القيم الحضارية حقاً.
نعم؛ إنه الإسلام العظيم أيها السادة بكل ما فيه من عظمة وحضارة هلا عرفنا له ذلك قبل أن نغرق في مستنقعات الحضارة المادية الآسنة، وتجرفنا تياراتها الشيطانية إلى مهاوي شيطانية سحيقة؟
اضف تعليق