إن الالتزام بالقواعد والضوابط يسبق الكراهية للفوضى وانتهاك حقوق الآخرين، بل يمكن عدّها نتيجة طبيعية لتلك الالتزامات، وليست سابقة عليها، نعم؛ هي تتصدر المشهد في السلوك والثقافة، بيد أنها مرتبطة عضوياً بما يشرعها في النهي لهذا او ذاك، كما أن ثمة قواعد أخرى تبيح الكثير من الاشياء...
"إن أفضل الدين الحب في الله و البغض في الله"
أمير المؤمنين، عليه السلام
القيم، قواعد ثابتة تنظم حياة البشر منذ تعرفه عليها في فجر الحضارات عند أول محاولة للتعبير عن الفكرة والرأي بالنقش على الصخور والكتابة على الرقاع، فقد اتضح للانسان معنى العدل، والصبر، والحرية، والتقوى، والاخلاص، والشكر، فجرى تصنيفها الى قيم دينية وأخرى أخلاقية، و انسانية.
ففي الجهاز القضائي لنمرود؛ ذلك الطاغية الظالم، صدر الحكم لصالح نبي الله ابراهيم بمنحه حق اصطحاب اغنامه معه في رحلة التسفير التي فرضها عليه الحاكم السياسي (نمرود)، وعدّت المحكمة آنذاك مصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة قراراً غير عادل، وهو ما أذعن اليه ذلك الحاكم الذي حاجج ابراهيم بأنه آلهة جدير بالعبادة، يُحيي ويميت!
الى جانب هذه القيم والقواعد الثابتة، ثمة مفاهيم، هي الاخرى تنبع من الثلاثي؛ الدين والأخلاق، والانسانية، مع الفارق أنها رهن الفهم البشري لها، فالانسان الحامل لقوى الخير وقوى الشر في كوامنه اذا تعذر عليه التقيّد بالعدل والحرية والتقوى، فان بإمكانه التمثّل بالحب، والعفو، والأمل، حتى وإن كان يتمنطق بقواه الشريرة، فهو الحاكم الذي يحب جماهيره المصفقة وحاشيته المتزلفة، وهو المنحني بأقصى درجات الحُب أمام غريزته الجنسية فيلقي رسائله و اشاراته المعنونة بشعار "الحب" الى كل مثير لغريزته بغية اشباعها وحسب، حتى وإن كانت الانثى صورة مصطنعة على الشاشة الصغيرة، وليس بالضرورة بلحمها ودمها في الشارع.
بينما الحب في المنظور الديني هو حب الله –تعالى-، وفق ما جاء به الرسل والانبياء والأوصياء، والمقرون بالطاعة ضمن معادلة الرحمة والعطاء مقابل الشكر، والخوف مقابل الرجاء، وفي المنظور الأخلاقي، هي حب الوالدين، والزوجة والأبناء، وكل ما من شأنه بناء العلاقات الاجتماعية المتماسكة، أما في المنظور الانساني، فهو حب الناس، وحب إسداء الخير والمعروف لهم.
هذا في مجال الحب، أما في مجال الكراهية، فهو مفهوم ينطبق عليه ما ينطبق عليه الحب في منابعه الثلاث، فهي رغم ظاهرها السلبي، مطلوبة للصديق والحبيب؛ يقول الإمام الباقر، عليه السلام: "أحبب لأخيك ما تُحب لنفسك، و اكره له ما تكره لنفسك"، كما هي مطلوبة في العلاقات الاجتماعية عندما تلوح بوادر الخطر على السلوك والثقافة، فضلاً عن الاضرار المادية، فيكون التذكير واجباً عقلاً بكراهية هذا العمل او تلك الفكرة.
هنا يقفز السؤال و ينتشر في كل مكان:
ومن يقول أن الكراهية مدعاة للحصانة من الاضرار وهو مفهوم سلبي؟ فكيف –مثلاً- يستنبط منه الطفل الحامل لهذا المفهوم منذ صغره، مفاهيم الخير والحب والانسجام مع الآخرين، وهو مسكونٌ بالكراهية؟!
السؤال يحمل معه الإجابة؛ فالكراهية لبعض الاشياء والامور ليست رغبة بها، بقدر ما هي إشارة ضوء حمراء من مخاطر تهدد حياة الانسان في نفسه والمحيطين به، ثم تطرح البديل في الطريق الآخر الآمن نحو تحقيق الاهداف السامية في الحياة، ولعل البعض يستشعر وجود هذا الطريق الهادي، ولا ينكر حسنه وفوائده، إنما المشكلة في صعوبة الوصول الى هذا الطريق لحاجته الى تفعيل العقل لفهم ما يجري وما ستؤول اليه الامور في قادم الأيام، بينما الوضع القائم –الامر الواقع- الذي تديره أطراف سياسية (الحكم)، او اقتصادية (رجال المال والاعمال)، مطبوعٌ بالمغريات وما يثير الرغبات والغرائز بشكل سريع لا يكلف صاحبه عناءً ذهنياً ولا وجدانياً.
وهذا يحدد لنا الفارق بين الكراهية للأشياء السيئة، ومشاعر العداء لفاعل هذه الاشياء، والامثلة على ذلك من محيطنا الاجتماعي كثيرة، نعيشها يومياً، فمن يجعل الجشع والطمع والغش وسيلة لإنجاح مشروعه التجاري يتعرض للكراهية من الزبائن لما يفعله، وليس لشخصه هو، فاذا ما حصل أن آب الى رشده وغير منهجه فانه سيكسب ثقة الناس، ثم يحقق ما يصبو اليه من النجاح والارباح.
هذا المثل البسيط من واقع اجتماعي محدود ينسحب على مساحات واسعة في المجتمع الصغير، بل والأمة بأسرها، ثم في نطاق أوسع؛ في العالم الذي يعيش فيه الانسان الملتزم بالقيم والتعاليم، فهو إنما يكره بعض الأمور لتطلعه الى عواقبها، وما تحمل من المساوئ والمكاره، بما يعني أن الكراهية للإباحية الجنسية –مثلاً- او للتعامل الربوي في الاسواق وغيرها كثير، تنبع من ذات الفعل، وإلا مجرد أن نرفع الإباحية، ونترك الجنس للعلاقات الزوجية التي ترتضيها الفطرة السليمة، نحصل على أسرة متماسكة، ملؤها الحُب والمودّة والانسجام، ثم نحصل على مجتمع يخرّج العلماء والعباقرة، كما أكد هذه الحقيقة علماء الاجتماع.
إن الالتزام بالقواعد والضوابط يسبق الكراهية للفوضى وانتهاك حقوق الآخرين، بل يمكن عدّها نتيجة طبيعية لتلك الالتزامات، وليست سابقة عليها، نعم؛ هي تتصدر المشهد في السلوك والثقافة، بيد أنها مرتبطة عضوياً بما يشرعها في النهي لهذا او ذاك، كما أن ثمة قواعد أخرى تبيح الكثير من الاشياء والامور في حياة الانسان، ولعل من نافلة القول الاستشهاد بما كشف عنه آية الله الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- في إحدى محاضراته بأن "المباحات في الشريعة الاسلامية أكثر بكثير من المحظورات"، بما يعني أننا يمكن ان نعيش مع نسبة أقل من ظاهرة الكراهية في العلاقات الاجتماعية لو استفدنا من تلك المباحات وجعلناها بديلاً للمحظورات في حياتنا.
اضف تعليق