الأمم الحية هي التي تهتم بتراثها وتاريخها وعظمائها الذين صنعوا أمجادها وأرسوا خصوصياتها الثقافية، ومن هنا جاء اهتمام كثير من الأمم بآثارها وشخصياتها. وعكسها الأمم الميتة هي التي تتنكر لمجدها التاريخي الإيجابي، ولا تخلد ذكرى عظمائها، ولا تحفظ آثارهم.
من هذا المنطلق كان اهتمام عالم اليوم بالآثار، حتى أن كسيرات من خزفيات انتشلت من تحت ركام من التراب، تعتبر من التراث الوطني والثروات القومية التي لا تقدر بثمن، ويعكف على دراستها علماء الآثار فيكتشفون منها معالم حضارات سابقة كوَّنها أجدادهم أو من سكنوا في ربوع ديارهم، ثم توضع تلك الآثار في أرقى المتاحف لتعرض على عامة الناس وخاصة المهتمين بالحضارات السالفة.
والإسلام أيضاً اهتم بالآثار، والقرآن الكريم حثَّ المؤمنين على الاعتبار بالآثار، بل حينما أراد تخليد تضحيات إبراهيم النبي سلام الله عليه أمر باتخاذ مقامه مصلَّى؛ قال الله تعالى: «واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى»، والمقام هو حجر عليه أثر قدمي إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام حينما كان يبني الكعبة، وكذلك خلد الإسلام النبي اسماعيل وتسليمه لأمر الله فأدخل في المطاف حجر اسماعيل عليه السلام وهو محل دفنه، ومربض أغنامه على رواية.
قبور الصالحين
الاهتمام بالصالحين وقبورهم أيضاً شرّعه الاسلام، ففي حكاية أصحاب الكهف يقرّ القرآن رأي اتخاذ قبورهم مسجداً. قال الله تعالى: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً»، وسنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله زيارة القبور والسلام على أصحابها وخاصة الشهداء، تخليداً لتضحياتهم الجسام وتذكيراً ببيعهم أنفسهم لله تعالى كسباً لمرضاته وامتثالاً لأوامره، ليقتدي بهم من بعدهم وليسيروا على دربهم.
البقيع الغرقد
ذلك الجرح الذي ما يزال ينزف منذ 83 عاماً.. تلك البقعة المباركة التي ضمّت أربعة من أئمة أهل البيت سلام الله عليهم: الإمام الحسن، والإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق سلام الله عليهم، وإلى جنبهم الكثير ممن ساهموا في تشييد الاسلام. إن البقيع يختزل الاسلام كلّه بما ضمّه من الأجساد الطاهرة وذكريات عهد التأسيس.
حينما استولى الوهابيون عام 1344 هـ على المدينة المنورّة، هدموا تلك القباب الطاهرة للمرّة الثانية، بعد أن كانوا قد هدموها في المرة الأولى قبل مئتي عام -في سنة 1220هـ الموافق 1805م - لكن في تلك المرة طردوا من المدينة، وبنيت تلك القباب الطاهرة (كما تشاهد في الصورة الملتقطة قبل عام 1344).
أصابع الاستعمار
التأثيرات الأجنبية الاستعمارية أرادت إفراغ الحج من محتواه ليكون سبباً للشقاق بين المسلمين بدلاً عن كونه رمزاً لوحدتهم ومكاناً لاتحادهم كما أمر به الله تعالى في قوله: «ليشهدوا منافع لهم».
فقد نقل أن أحد كبار المستعمرين قال قبل أكثر من مائة عام: إن سبب قوة المسلمين هو القرآن والحجّ، ولكي نسيطر عليهم ينبغي إلغاؤهما من حياة المسلمين، وبالفعل فقد ألغوا القرآن من مناهج التعليم نهائياً، أو اختاروا منهجاً ينفّر الطلاب من القرآن بدل الطرق الجذابة، وإن لم يوفّقوا لتعطيل الحجّ لكنهم حاولوا بخطوات أسوأها تهديم البقيع، جعل الحج مكاناً للتفرقة بدل الاتحاد والوحدة، ولكن «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولوكره الكافرون» (سورة الصف: الآية 61).
مرقد الرسول الأعظم (ص) يدين تصرّفاتهم
رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الصراط المستقيم الذي أراده الله تعالى للبشرية جمعاء، فكلّ ماهو من الرسول صلّى الله عليه وآله حجّة على الخلق أجمع، وشاء الله تعالى أن يكون مرقد الرسول صلّى الله عليه وآله إدانة عملية للفكر المتطرف الذي قام بجريمة هدم البقيع، إذ لو كان البناء على القبور محرّماً والأيدي الآثمة التي امتدت الى البقيع إنما هدمته تطبيقاً للسنّة!! فما بالهم تركوا مرقد الرسول صلّى الله عليه وآله على حاله تعانق قبته الخضراء عنان السماء؟ أليس هذا من التناقض الصارخ؟
بلى لعل الله تعالى أراد أن يكون مرقد الرسول صلّى الله عليه وآله معلّماً للبشرية جمعاء، فلم يدَع الأيدى الأثيمة تقترب منه!! وفي الوقت نفسه بسبب جواره للبقيع، تكون تلك القبة الخضراء دليلاً لكلّ مسلم على أن ما اقترفوه من جريمة في البقيع لا تمتّ للدين بصلة، وأنهم لم يريدوا بها امتثال سنّة الرسول صلّى الله عليه وآله بل لحاجة في نفوسهم وبغضاً لأهل البيت سلام الله عليهم كتموه في قلوبهم!! فظهر في أفعالهم!!
أطراف البقيع
أطراف البقيع الغرقد عمارات شاهقة بنيت على أحسن طراز، وفنادق باذخة تلتهم نقود الزوّار، وشوارع وأنفاق وجسور ومواقف مبنيّة بطريقة عصرية، لكن في وسط هذا الزخم العمراني الهائل بقعة خربة - بظاهرها - يعلوها التراب والغبار و طرقها تضيق بالزوّار فلا راحة لهم ولا قرار.
هل يريدون القول بأنهم لا يعيرون أية أهمية
لعظماء الإسلام!! الذين لولاهم لما وصل الينا الاسلام، وأنهم يهتمّون بالمال اكثر من اهتمامهم بأهل بيت الرسول سلام الله عليهم!! وهم بفعلهم هذا يطمعون أعداء الاسلام في المسلمين. فما دام المسلمون لا يحترمون رموزهم وفي إحدى أقدس بقاع الأرض لديهم، فأعداؤهم أولى في استضعافهم!!
لننصر أهل البيت سلام الله عليهم
(اللهم إني أعوذ بك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره) هكذا يدعو الإمام زين العابدين سلام الله عليه ليبيّن أنّ على المسلم أن ينصر المظلوم، وإلا فلا يأمننّ الهلكة، فكيف إذا كان هؤلاء المظلومون هم وصية الرسول صلّى الله عليه وآله الذين أمر بالتمسّك بهم الى جنب القرآن الكريم في حديث الثقلين المتواتر!
إنه لمن الواجب على كل واحد واحد منا الاهتمام والعمل لدفع هذا الظلم عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم في البقيع، وذلك يكون بطرق متعددة منها:
أولاً: تعرية الفكر التكفيري، وأنه لا يمتّ للإسلام بصلة، وأنه فكر شاذ دخيل على الإسلام، والرسول صلّى الله عليه وآله منه براء، وذلك بالبراهين الجلية وبمختلف الوسائل المشروعة والمتاحة.
ثانياً: ممارسة الضغوط المكثّفة والمستمرّة، وهي ستثمر بإذن الله ولو بعد حين، فإن المحيط من القطرات، والبراري من الذرات، فإن من هدم البقيع لم يتخذ الدين إلا وسيلة لمبغاه السياسي، وإن علماءه ما هم إلا وعاظ سلاطين يدورون حوله ويزيّنون عمله، ويبرّرون فعله، فهم عبيد الدرهم والدينار، فإذا استمرت الضغوط بحيث خشي السلطان على مصالحه فإن إرادته تكفي لوعّاظه ليغيّروا موقفهم، كما أن تلكم الوعّاظ لم ينبسوا ببنت شفة حول قبر الرسول صلّى الله عليه وآله لما رأى السلطان أنه ليس من مصلحته هدمه، بل برّروا فعله، كما غيّروا كثيراً من فتاواهم تماشياً مع الرغبات السلطانية! وإن بيت الحكام أوهن من بيت العنكبوت، فهم الآن يخشون على سلطانهم ومستعدّون لفعل أيّ شيء لبقائهم على الكرسي، والضغوط الدولية والفردية كفيلة بجعلهم يستشعرون بالخطر فيسبب تراجعهم عن مواقفهم.
ومن وسائل الضغط:
1ـ المسيرات الاحتجاجية السلمية
وذلك بشكل مستمر، لإن تلك المسيرات تجعل البقيع حاضراً في الساحة، فيكون حاضراً في وجدان المتظاهرين وذلك مما يحفّزهم على التفكير المستمر في هذه الظلامة وكيفية إنهائها، ويكون الحدث حاضراً بشكل متواصل في وسائل الإعلام، فيشكّل إزعاجاً مستمرّاً للسلاطين وتهديداً دائماً لمصالحهم، فيفكرون بإنهاء تلك المسيرات الاحتجاجية بإنهاء المشكلة بشكل نهائي وذلك بالسماح ببناء البقيع.
2ـ الاعتصامات المستمرة
فإن الاعتصام مكمّل مهمّ للمسيرات، إذ إنه يعطي الفرصة الكاملة لجميع وسائل الإعلام وعامة الناس للتحاور مع المعتصمين ومعرفة دوافعهم وأهدافهم وظلامتهم، كما أن الاعتصام يجلب تعاطف مختلف شرائح المجتمعات، فيتسبب في اهتمامهم وتعاطفهم بعد أن يثير في أذهانهم سؤالاً عن قضية المعتصمين الذي تركوا أعمالهم ومنازلهم وليقيموا في الحر والبرد والمطر والشمس!!
3ـ البرقيات والإيميلات المتواصلة
ما ضاع حق ورائه مطالب. فلو وجد الظالم من يحاسبه باستمرار ومن مختلف الجهات من شتى البقاع، فإنه يجد نفسه محاصراً من كل اتجاه، ولعله يسعى للتخلص وذلك بالرضوخ إلى مطالب أصحاب الحق.
4ـ المنابر الإعلامية المختلفة من مجلات وصحف وإذاعات وإنترنت وفضائيات... الخ.
فإن الإعلام يلعب دوراً كبيراً في عالم اليوم ويؤثّر حتى في أهم القرارات السياسية العالمية، إذ إنه قادر على إيصال الصوت الى كل أحد من دون حسيب أو رقيب، فهو يصل إلى أكثر الناس تأثيراً كما إلى أقلّهم، مما يخلق رأياً عامّاً فاعلاً ومؤثّراً؛ خاصّة وإن حكام الحرمين لهم اهتمام خاص بالإعلام بغية أن تنقل صورة ايجابية عنهم!! فإذا شاهدوا عكس ذلك فمن المؤكد أنهم سيسعون إلى حلّ المشكلة من جذرها حفاظاً على صورتهم الإعلامية!
5ـ منظمات حقوق الإنسان والدفاع عن حرية المعتقد
إن من أهمّ حقوق الإنسان هو حريته في المعتقد، وأنه لا فرض ولا إجبار على أية طريقة، قال الله تعالى: «لا اكراه في الدين» وقال سبحانه: «فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر» واحترام رموز الأديان والمذاهب حقّ كفله أيضاً ميثاق الأمم المتحدة.
وإن تهديم البقيع مصداق صارخ لانتهاك حقوق الانسان وإهانة الرموز الدينية لعامة المسلمين ـ إلا شرذمة مارقة ـ وإن التحرك الدبلوماسي والحقوقي أيضا مما يؤتي أكله بإذن الله تعالى.
6ـ المؤسسات العالمية لحفظ الآثار والتراث الإنساني
مثل منظمة اليونسكو، فإن اعتبار آثار الرسول صلّى الله عليه وآله وكذلك البقيع الغرقد من الآثار والتراث الانساني يسبب في مزيد من الضغط العالمي لصون الآثار وإعادة بناء البقيع.
7ـ التأثير على مراكز القرار الدولي
فإنه لو رأى اصحاب القرار الدولي أن بقاء البقيع مهدوماً يضرّ بمصالحهم الاستراتيجية فإنهم سيضغطون لرفع المنع عن البناء، وغيرها من الوسائل.
ثالثاً: محاولة بثّ الروح من جديد في جسد الأمة الإسلامية، التي تغطّ في سبات عميق؛ ما جعلها عرضة لمختلف أنواع المشاكل الداخلية والخارجية.
وإن توعية المسلمين بدينهم -بمختلف جهاته- وفهمهم لكتابهم وسنّة وسيرة رسولهم وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم، وأخذهم بتعاليم السماء في العلم والعمل والتعقل... كفيل بحلّ مشاكلهم وتطهير بيئتهم من التطرف.
رابعاً: الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، فإن الدعاء إن اقترن بالعمل، فإن الله سيستجيب له كما وعد بذلك «قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم».
اضف تعليق