المصادر الامامية القديمة كلها تنحو هذا المنحى في تعريف الامامة بتغليب مفهوم الامام، وقد بدا العلامة الحلي بتعريف الامام في تعريفه للإمامة قائلا \" الامام هو الانسان الذي له الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا بالنيابة عن النبي \" بينما نقل تعريف الامامة عن آخرين...
لم يحظ مفهوم الدولة باستقلالية عن مفهوم السلطة، ولم يحظ مفهوم السلطة بالاستقلالية عن مفهوم الامامة في الفكر الفقهي والكلامي الاسلامي، وانما هناك تداخل كبير بين هذه المفاهيم، بل ان فكرة الدولة والسلطة لم تتخل عن فكرة المجتمع في هذا الفكر، وكان يعبر عن المجتمع في النصوص الاسلامية القديمة بالاجتماع.
فكان الاتفاق على ان الحاجة البشرية للإمامة تكمن في عدم قدرة هذا الاجتماع على العيش بالسلم اذا لم يكن هناك سلطان او حاكم أو امام يقضي في الخصومات ويردع الناس عن المخالفات، والا فالفوضى تضرب أوضاع المجتمع وتقود الى الخراب، وهذا مبنى الامامة وتبريره لدى فقهاء الاسلام من الشيعة والسنة – راجع الماوردي الاحكام السلطانية وابن خلدون المقدمة والطوسي الاقتصاد والحلي كتاب الالفين، ونجد في تعريفهم للإمامة توكيد على المنحى الدنيوي في الامامة اضافة الى مهمتها في حراسة الدين، والمنحى الدنيوي هو الذي يجعلها موضوع السياسة ومادة الفقه السياسي الاسلامي.
وقد تطورت المباني الفقهية والكلامية الاسلامية في مفهوم الامامة، فقد كان هذا المفهوم هو الشغل الشاغل للفقهاء والمتكلمين المسلمين في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وكان الجدل الكلامي... نسبة الى علم الكلام... بين فقهاء ومتكلمي المذاهب هو السائد حول الامامة، وكان جدل لا ينتهي بين فقهاء ومتكلمي الاسلام، فاجمعوا على امور واختلفوا في اخرى.
فأما ما اجمعوا عليه فهو وجوب الامامة، وقال ابو الحسن الاشعري تـ 330 هـ "فقال الناس كلهم الا الاصم، لابد من امام"، والاصم هذا من المعتزلة وقد خالف كل مذاهب الاسلام في نفيه وجوب الامامة فقال "لو تكاف الناس عن التظالم لاستغنوا عن الامام"، واما ما اختلفوا فيه فهل الامامة تكون بنص أم بغير نص؟ فقال فريق منهم بالنص وقال فريق ليس بالنص وانما تقام بأهل الحل والعقد مع وجوبها على الناس لدى من قال باختيار أهل العقد، اما من قال بالنص فانه يرى وجوبها لطفا على الله وليس أمرا على الله، واختلف أهل العقد بعدد من تنعقد به الامامة من الرجل الواحد الى الخمسة الى الجماعة التي لا تتواطأ على الكذب ولا تلحقهم الظنة.
واما الاصم المعتزلي فقد شرط انعقادها بإجماع المسلمين واختلفوا في هل يجوز أكثر من امام؟ فقال بعضهم يجوز امامان، وقال اخرون يجوز ثلاثة، وأكثر فرق الاسلام أنكرت ذلك. واختلفوا في جواز خلو الارض من الامام، فقال الشيعة كافة بعدم جواز خلوها، وقال غير الشيعة كافة يجوز ان تخلو الارض من امام حتى تعقد بواحد، واختلفوا في امامة المفضول، فقالت الزيدية والمعتزلة بجواز امامة المفضول وجواز ان يكون في الرعية من هو أفضل من الامام، وقد كان هؤلاء يفضلون عليا ويرون جواز خلافة أبي بكر وتقدم عليا عليه في الفضل، وقال الامامية والاسماعيلية من الشيعة لا يكون الامام الا أفضل الناس. واختلفوا في جواز الامامة في غير قريش فقال بها بعض المعتزلة والخوارج كافة، واما سائر اهل السنة والشيعة وبعض من المعتزلة فقالوا لا يجوز ان تكون الامامة الا في قريش، ثم اختلفوا في بيت من في قريش هل هي في هاشم خاصة ام في قريش عامة؟ فقال بعضهم هي في قريش عامة، وقال بعضهم هي في بني هاشم خاصة وهم الراوندية، وقال بعضهم هي في ولد علي خاصة لا تعدو الى غيرهم وهم الشيعة كافة، واختلفوا في جواز التوريث في الامامة بين من يقول بجوازها وبين من يقول بعدم الجواز، وهذا خلاصة القول في الامامة لدى المسلمين في ما نقله الاشعري من مقالاتهم- راجع كتاب مقالات الإسلاميين ج 2-.
ثم انتقل الجدل في الامامة في القرنين الرابع والخامس الهجريين لدى فقهاء السنة الى تبرير الولايات السلطانية فيما عرف قديما بالولايات الشرعية أو بالسياسة الشرعية وهي الولايات والسياسات المبنية على قواعد الامامة ويطلق عليها الآن اسم الفقه السياسي، و لعل كتاب الاحكام السلطانية وهو عنوان كتاب الفقيه الشافعي الماوردي تـ 450 هـ هو المؤسس لهذا النهج في الفكر الفقهي الإسلامي، فقد تناول الامامة والخلافة والقضاء والحسبة والوزارة في التفويض والتنفيذ والامارة في الاستكفاء والاستيلاء ليخلص الى شرعية ولاية الاستيلاء بالغلبة وأنواع الولايات والجهاد والخراج والحسبة والعقوبات، وهي ما شكلت مواد وموضوعات الفقه السياسي، وكذلك عنوان كتاب الفقيه ابي يعلى محمد بن الحسين ابن الفراء تـ 458هـ الحنبلي وقد ذكر في مقدمة كتابه هذا ان موضوعه يتعلق بالجانب العملي والتطبيقي بالإمامة وهو الولايات المتعلقة بأفعال ومهام الامامة ووظائف الخراج والفيء والغنيمة والجزية واحياء الموات والرق وغيرها من موضوعات صارت من تقليديات الفقه السياسي الاسلامي القديم. ومما يثير الاستغراب انها لازالت تشكل مادة اساسية في هذا الفقه رغم تجاوز الزمن لها وتخطي التاريخ لظروفها، لكنه التقليد الذي رسخ في العقل الاسلامي تحت سطوة وكاريزما الفقهاء الاوائل وبتأثير مقولة البدعة وضلالها، وقد وضعت هذه الكتب الفقهية في السياسة الشرعية في مواجهة الازمة العاصفة التي مرت بها الدولة العباسية وهي ضعف الخلافة وتراجع قوة الخليفة بعد استيلاء البويهيون على السلطة ومركز الخلافة في بغداد، وهم شيعة انتقلوا من الزيدية الى الاثني عشرية مما حفز الدافع المذهبي للخوض في هذا الفقه السياسي بتناول الامامة بالشرح نظريا وعمليا ليترسخ كقواعد أساسية في فقه الامامة والسياسة الشرعية.
ثم توقف هذا الجدل حول الامامة في القرون اللاحقة عند كل المذاهب حتى لدى فرق الشيعة الاخرى من اسماعيلية وزيدية، ما خلا الشيعة – الامامية فقد استمروا في جدلهم الديني في الامامة، ذلك أنهم يرون في الامامة أصلا من أصول الدين بينما يرى السنة وفرق المسلمين الأخرى انها فرع من فروع الدين، وكان أهم ما وضعه الامامية من كتب في هذا الجدل العقائدي في القرن الرابع والخامس الهجريين هوما كتبه الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد تـ 413 هـ من رسائل وجوابات وكتاب أوائل المقالات وفيه تفصيل العقيدة الامامية في الامامة، ويعتبر الشيخ المفيد هو من ختم القول وجمعه في هذه العقيدة عند الشيعة الامامية ولم يزد عليه من بعده أحد من الامامية في عقيدة الامامة الا النادر القليل.
ثم ما كتبه الشريف علي بن الحسين بن موسى المرتضى تـ 436 هـ في كتابه الشافي في الامامة وهو كتاب جامع لأصول الامامة وفروعها كما قال مؤلفه الشريف المرتضى في مقدمته، وهو كتاب جاء في الرد على ما ذهب اليه المتكلم المعتزلي عبد الجبار القاضي في تفنيد مقولة الامامة عند الامامية في كتابه المغني في التوحيد والعدل، والجزء العشرين منه اختص بالإمامة، ثم ما كتبه العلامة الحسن بن يوسف بن المطهرالحلي تـ 726هـ في كتابه الالفين الذي جاء اسمه من وضعه الف دليل عقلي ونقلي في اثبات امامة امير المؤمنين والف دليل على ابطال دعاوى الطاعنين، وفيه يقرر نظرية اللطف الواجب على الله تعالى في بعث النبي ونصب الامام، وفيه يقرر الحاجة الى الامامة في ردع التغالب والتنازع والفساد الكلي وهي تمثل انتقالة في التصورات حول الامامة من الديني الصرف الى الاجتماعي ذي النزوع الديني، وهو استدلال عقلي نجد اصله في نظرية وجوب الامامة عقلا وليس سمعا عند الشيعة الامامية، وهو ما ذهبت اليه مدرسة بغداد وبعدها مدرسة الحلة، ثم ليتوقف بعد هذا الكتاب التأليف الرئيسي عند الامامية في هذا الفن من فنون علم الكلام وما جاء بعد هذه المؤلفات لهؤلاء الاعلام الثلاثة من كتب لدى الامامية في الامامة هي عيال على هذه المؤلفات.
وقد احتفظت بقوتها العقائدية والعلمية في المذهب الامامي بعد ان غابت وفقدت أهم مؤلفات الامامية في الامامة قبل عصر الشيخ المفيد لاسيما ما كتبه فقهاء ومحدثي الامامية في القرن الثالث الهجري في عصر امامة العسكريين عليهما السلام وعصر الغيبة الصغرى، وقد جاءت تلك المؤلفات بعنوان واحد في اغلبها وهو "كتاب الامامة الكبير" أو "كتاب الامامة الصغير" وغالبا ما كان يختصر المؤلف كتابه الامامة الكبير بكتاب الامامة الصغير – راجع الذريعة الى تصانيف الشيعة أو كتب الفهارس الامامية –.
لكن ضياع هذه الكتب حرم الامامية والباحثين والعلماء من مصادر مهمة في الفكر الامامي لاسيما وانها كتبت في عصر الحضور للائمة عليهم السلام، وقد بلغت اعداد هذه الكتب العشرات أو لعلها المئات، مما أفسح المجال للكلام الامامي او علم الكلام الامامي ان يأخذ دورا رياديا وتأسيسيا عقليا وروائيا في تنظيم وتفصيل عقيدة الامامة.
وقد تكفلت تلك المهمة في القرن الرابع الهجري مدرسة بغداد الامامية على يد الشيخ المفيد وطلابه ومريديه من فقهاء الامامية كالمرتضى والطوسي وأبو زهرة الحلبي، وقد جاءت اراء المفيد في نظرية التفويض لتؤسس منحى جديدا في العلاقة بين الفقيه الامامي والامام المعصوم في عصر الغيبة، وتؤسس تطورا في الفقه السياسي المبني على عقيدة الامامة.
وتنص نظرية التفويض على تفويض الائمة (عليهم السلام) للفقهاء العدول إقامة الحدود دون الدماء، وقد توسع فيها المفيد فاستلم الحقوق الشرعية بالوكالة المنجزة له عن الائمة وفق نظرية التفويض هذه، وكان أول من مارس استلام الحقوق الشرعية من الفقهاء، هذه الحقوق المالية التي كانت تصل الى الائمة عن طريق وكلائهم ثم توقفت في عصر الغيبة ليعيد الشيخ المفيد استلامها بحكم وكالته للإمام في التفويض اليه كفقيه عدل أجمعت الامامية على عدالته في عصره وبعده، ليأتي من بعده الفقيه الامامي الشامي ابو زهرة الحلبي ليقول بنيابة الفقيه العادل للامام المعصوم في القضاء واقامة الحدود مادون الجروح والدماء بناء على نظرية التفويض هذه، حتى اذا جاء المحقق محمد بن ادريس الحلي اضاف الى القضاء صلاحيات اقامة الحدود حتى الجراح والدماء في نيابة الفقيه العادل للإمام المعصوم – راجع نظرية السلطة في الفقه الشيعي، توفيق السيف –.
وفي كل هذه الادوار للفقه الامامي لم يتم الحديث عن السلطة والدولة بما هي اهم مجالات ووظائف الامامة، وليس المجال الوحيد لها كما هو الحال في الفقه السياسي السني، فقد ركزت المصادر الامامية القديمة في تعريف الامامة على شخص الامام، فكان التعريف ينصرف اليه بأولوية تُغلّبه على معنى السياسة في الامامة، وهذا ما نستشفه في تعريف الامامة في خطبة الامام علي ابن موسى الرضا التي تعدها المصادر الامامية من اهم الموارد الشرعية في بيان معنى الامامة، فالإمام الرضا لم يذكر الامامة باللفظ الا مرتين وبتعريف ديني خالص لها بينما استغرق لفظ ومعنى الامام كامل خطبته – راجع تحف العقول بن شعبة الحرّاني-.
وهكذا نجد أن المصادر الامامية القديمة كلها تنحو هذا المنحى في تعريف الامامة بتغليب مفهوم الامام، وقد بدا العلامة الحلي بتعريف الامام في تعريفه للإمامة قائلا " الامام هو الانسان الذي له الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا بالنيابة عن النبي " بينما نقل تعريف الامامة عن آخرين فقال "وقيل الامامة عبارة عن خلافة شخص من الاشخاص للرسول صلى الله عليه واله وسلم في اقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على الامة كافّة" –راجع كتاب الالفين للعلامة الحلي ج1 –.
أما الامامة لدى السنة فإنها ركزت على المنحى السياسي العام فيها فيقول الماوردي "الامامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" - راجع الاحكام السلطانية للماوردي – دون اقترانها بشخص معين مما جعلها معرضة للادعاء وممكنة لكل الاشخاص وبكل الوسائل بما فيها القوة والشوكة والغلبة، فالإمامة لدى الماوردي ويتبعه أهل السنة ايضا وظيفتها في حراسة الدين وليس رئاسته، ووظيفة الحراسة ممكنة لكل ادعاء لكن رئاسته لا يمكن الزعم بها لأي شخص كما هو لدى كل المذاهب الاسلامية، فهي لم تنسب رئاسة الدين الى أحد كما هو عند الامامية في نسبتها الى المعصومين بل رئاسته العامة لهم لدى الشيعة كافة لاسيما الامامية، وهذا ما يفسر سعة مفهوم الامامة الديني عند الشيعة وليس اقتصاره على السياسة كما هو عند السنة.
فالإمامة منصب الهي بالنص عند الشيعة وليس منصب سياسي يتحقق بالإجماع كما هو عند السنة والذي تكفله أو تشرعه وظيفة الحراسة للدين، وليس رئاسته وسعته الدينية هي التي سمحت بتطوره الفقهي لدى الامامية في نظريات التفويض والنيابة العامة والخاصة، ولعل المنحى الشخصي في مفهوم الامامة هو الذي كفل تطور هذه النظريات، فالإمام الشخص المعصوم الذي من حقه الامامة بالأصالة يمنح بعض صلاحياتها وليس كلها بالوكالة الى الفقيه المأذون والمأمون والجامع للشرائط في نظرية الوكالة والنيابة للفقيه المجتهد الاصولي في الفتوى والحكم وللفقيه المحدث الاخباري في رواية الخبر والتقاضي، وبذلك انتقلت زعامة ورئاسة المجتمع الشيعي – الامامي الى العلماء الفقهاء وتشكلت مؤسسة المرجعية الدينية في الواقع الديني - الاجتماعي ومن ثم السياسي في حياة الشيعة الامامية دون غيرهم من مذاهب المسلمين، ونجد ذلك في تطورات الفقه الامامي في مسألة ولاية الفقيه عند المحقق الكركي والنراقي وفي شورى العلماء عند السيد محمد مهدي الشيرازي وشورى الأمة أو ولاية الامة على نفسها عند محمد مهدي الشيخ شمس الدين وفكرة النظام العام التي استندت اليها فتاوى وبيانات المرجع السيد علي السيستاني، وتشكل تلك النظريات الفقهية المتأخرة تطورا واضحا في الفقه السياسي عن عقيدة الامامة.
اضف تعليق