نزل من سيارته الفاخرة كي يتسوق من أحد المحال، اقترب من امرأة عجوز كانت تصب حبات العرق من جبينها باستمرار، لتخبرنا بمعاناتها وقسوة الحياة عليها إذ لم ترحمها رغم التجاعيد التي ملأت وجهها، وقف الرجل أمامها وظل يتكلم ويحاول معها كي تنقص من سعر الحليب وفي النهاية خرج من المعاملة رابحاً كما ربح بالعيش الهانئ دون أي تعب، وخسرت تلك العجوز لأن البؤس أقسم أن لا يفارقها مدى الحياة، أخذت المال المتفق عليه من الرجل مقابل الحليب وشكرت ربها وذهبت.
لكن الرجل نفسه في موقف آخر، تناول الطعام في ذلك المطعم الفاخر وأعطى مبلغاً كبيراً لصاحب المطعم ولم يستلم منه ما تبقّى من المال مراعاة لـ (بريستيج) وابتسم بلطف وخرج من المطعم منتعشا مختالا في مشيته كالطاووس، فأية رحمة هذه، وأي كرم هذا الذي يجعل الإنسان يتصرف مع الناس بهذه الازدواجية؟! حيث يعتصر الفقير في معاملة تستغل ضعف وحاجة الناس، وفي موقف آخر يبذخ المال بلا (وجع قلب).
أي أخلاق يجعل الإنسان يفعل هذا الفعل ويتعامل مع الضعفاء بهذه القسوة؟.
جميل ما قاله بعضهم عن الرحمة، فهي أعمق من الحب وأصفى وأطهر بكثير لأنها أكثر شمولية، حيث نجد فيها الحب والتضحية، وفيها كذلك إنكار الذات والتسامح، وفيها العطف والعفو والكرم، وكلنا قادرون على الحب بحكم ما جُبِل عليه البشر، وقليل منا هم القادرون على الرحمة.
ما معنى الرحمة
الرحمة هي الرقة والشفقة والعطف، وطلب الرحمة هو نداء لالتماس المغفرة والصفح، أو لاستثارة الشفقة:
- يقول الله عز وجل في سورة الأنبياء (107): "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالمين".
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام :
"إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
من فوائد الرحمة
- أنَّها سبب للتعرض لرحمة الله، فأهلها ممن يتنعمون برحمة الباري عز وجل جزاء لرحمتهم بخلقه. (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
- إن الرحمة سبب محبة الله للعبد، ومن ثم محبة خلق الله للإنسان الرحيم وهي دليل سمو النفوس ورقة القلوب.
- الإنسان المتحلّي بالرحمة يتحلّى بخلق العظماء والصالحين، وأعظمهم رسول الله صلى الله عليه وآله.
- الرحمة من الأركان الأساسية في المجتمع حيث ينبني عليها مجتمع إنساني متماسك، يشعر فيه الفرد بغيره ويعطف ويتعاطف مع بني جلدته ويرحم بعضهم بعضاً.
- إنها تشعر المرء بصدق إنسانيته وانتمائه للمجتمع السليم والفاضل وعلى قدر الرحمة في القلب تكون درجة الإنسان عند الله عز وجل.
- الرحمة سبب لمغفرة الله سبحانه وتعالى وقد كان الأنبياء والأوصياء أشد الناس رحمة من بين الجميع، وهذه الصفة تجعل الإنسان يشعر بالمستضعفين والأرامل والأيتام.
أما القسوة فتجعل الإنسان في منحدر ضيق وتسلب منه صفات الإنسانية وتجره إلى أعماق الجحيم حتى وإن كان يعيش في القصور كما كان قياصرة روما يحبون رؤية العبيد وعامة الشعب وهم يقطعون بعضهم بعضاً، فقد اتفق مزاج الأباطرة وعامة الشعب معاً وجعلهم يقتلون بعضهم بعضا لشدة القسوة التي خيمت على قلوبهم وأعمت أبصارهم.
من أقسام الرحمة
1- الرحمة بالوالدين: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾(الإسراء / 23 ـ 24).
2- الرحمة بكبار السنّ:الكبار والعجزة هم بأمسّ الحاجة إلى الرعاية والعناية والرحمة.
3- الرحمة بالمرأة والأطفال والصفح والتسامح في المعاملة معهم.
4- الرحمة بالأصدقاء والأقرباء ومداراتهم.
5- الرحمة بجميع الناس كما قال امير المؤمنين علي عليه السلام: الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .
6- الرحمة بالحيوان فعن سعيد بن المسيب: أن علياً « عليه السلام » بنى للضوال مربداً فكان يعلفها علفاً لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال.
إن الرحمة ركيزة مهمة من ركائز بناء المجتمع، واذا تراحم الناس فيما بينهم تحولت بلادهم الى مدن فاضلة بل وعاشوا جميعهم بسلام، ولكن كل هذه الفوضى والمساوئ تنبع من ينبوع القسوة لذلك الموت مع الرحمة أجمل بكثير من البقاء مع الشقاء والقسوة، كما قال الشاعر:
موتٌ يسيرٌ معه رحمةٌ … خيرٌ من اليُسْرِ وطول البقاء.
اضف تعليق