هناك ضوابط توجب على الأثرياء أن يشاركوا في القضاء على الفقر، من خلال مساعدة المحتاجين، وكلما كان عطاء الإنسان متميزا يستحق المكانة الاجتماعية المتميزة التي سوف ينالها بسبب (تقاسمه) للموارد والثروات مع الآخرين بعدالة، لذا فإن استعداد الانسان لتقديم المساعدة المادية لمن يحتاجها، تعد نوعا من الايثار، ونكران الذات، ونبذ الانانية، والتعامل وفق الفطرة الانسانية التي تنحو الى الخير، وتذهب الى نشر المساواة والعدل في بناء منهج سلوكي يحفظ كرامة الجميع، الغني والفقير، القوي والضعيف.
وينتمي هذا السلوك الإنساني المتميز، الى التربية النفسية الجيدة والاستعداد الدائم للتضحية من اجل الناس الذين هم بحاجة الى التضحية، وغالبا ما تعود هذه التضحية وهذا النوع من الإيثار بسعادة غامرة على من يؤديها تجاه الآخرين، ومعظم الأحيان يكتسب الإنسان مثل هذه القيم الأخلاقية من محيطه العائلي والاجتماعي عموما، ومع تقدم العمر، يكون الفرد أكثر فهما استعدادا للتعاون في بناء المجتمع وأكثر استعدادا للقيام بالتضحية من اجل الآخرين، وهذا السلوك يدفع بالغني نحو تحقيق العدالة في اقتسام الموارد مع الآخرين بشقيها، المادي والعيْني.
وحينما تصل قدرة الإنسان على التعاون الى هذه الدرجة التي تتطلب ضغطا كبيرا على النفس، فإن ذلك يعني أننا إزاء قيمة أخلاقية كبيرة، تمكن حاملها من إجبار نفسه على تحقيق العدالة في توزيع الأموال والموارد بين أفرد الأمة، على أن يكون هذا النوع من التعاون طوعيا، ولا تتبعه أفعال أو أقوال تحاول بالتلميح أو الإشارة أن تدفع صاحبها بالتباهي والتبجح بهذا العمل.
لدرجة أن القائم بمثل هذا الفعل الانساني، ينبغي أن يشعر بأنه يندفع ذاتيا الى هذه القيمة الاخلاقية من دون ضغط أو قسر، يقول أبراهام لنكولن محرر العبيد والزعيم الأمريكي الراحل: (كلما تقدم عمرك ستكتشف ان لديك يدان، واحدة لمساعدة نفسك، والأخرى لمساعدة الآخرين).
واذا توصل الشخص الى مثل هذا الشعور، فإنه يكون قد حقق تفوقا كبيرا في التحول من الأنانية الفردية، الى نكران الذات، واستطاع من تطبيق مضمون الحديث النبوي الشريف (أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وهذا يعني أيضا أن الإنسان بلغ من القدرة العالية للتحكم بنفسه الى درجة عالية بحيث تمكن من أن يتقاسم قدراته المادية والعينية مع أخيه من دون أن يتردد في بث السعادة في نفوس الاخرين.
الرضا النفسي المتكامل
وهكذا يمكن للإنسان الذي يتحلى بقيمة وأهمية العدالة الاجتماعية، أن يساوي نفسه مع الآخرين، ويقتسم معهم كل ما يمتلك من أموال او موارد، وحتما سوف يكون على استعداد تام لتقاسم ما يمتلكه مع المحتاجين، وهكذا تكون إحدى يديه في خدمته، والأخرى في خدمة من يحتاجه، والمعنى هنا مجازي بطبيعة الحال، حيث يكون الإنسان في حالة من الرضا النفسي المتكامل للتعاون الطوعي والسعي لإسعاد الآخرين، على أن لا ينحصر ذلك في فئة معينة، أو يقتصر على افراد بعينهم، بمعنى ينبغي ان يكون التعاون منفتحا على المجتمع عموما.
هناك قول معروف يؤكد أن السعادة تأتي من خلال قدرة الشخص واندفاعه الطوعي في مساعدة الناس على أن يكونوا سعداء، لأن فائدة التعاون ونشر العدالة في توزيع الثروات لا تصب فقط في حيز فائدة المحتاجين والمعوزين والمحرومين من حقوقهم لأي سبب كان، بل سيكسب الانسان الذي يقوم بهذا الفعل فوائد نفسية لا حدود لها، تسهم في رفع معنوياته عاليا، ويكون متصالحا مع ذاته، بسبب ذلك الشعور المتعاظم بالرضا عن النفس.
ومثل هذه الخطوات الانسانية التي يتخذها الثري العادل سوف تشعره بالسعادة الغامرة والإحساس المفعم بقبول الآخرين لشخصه وفكره وحضوره، فالتعاون ومنح الآخرين مساعدة طوعية تعد عمليا انسانيا متميزا، لا تنحصر نتائجه على المحتاجين بل على المعطين ايضا، وهو فعل معاكس تماما للأنانية والبخل، لأنه نوع من الكرم والخلق الرفيع إذ انه لا يرتبط بأيه توقعات شخصية، فأفضل العطاء من القلب، انه افضل تدريب للنفس حينما تنزل الى الأسفل لترفع الى الأعلى شأن إنسان أخر، ولكن الذي يحدث بعد ذلك هو سمو النفس وشعور حاملها بسعادة لا حدود لها.
هل يمكن أن يكون الانسان المتمكن ماديا، قادرا على تحقيق العدالة في الموارد والثروات طوعا ومن دون ضغوط، لا شك أن الدين الاسلامي قد شرّع المستلزمات المطلوبة في هذا الجانب، ولكن يبقى المجال مفتوحا وأكثر سعة أمام من يرغب بالتعاون والتكافل ودعم المعوزين، لاسيما أن السلوك المتميز بالإيثار والشعور بالانتماء الإنساني والخلقي التلقائي الموجه لشخص او مجموعة من الناس دون قيود او شروط سابقة او لاحقة، يخلو من انتظار أي نتائج او ردود فعل مصلحية مادية او سواها عما يقدمه المبادر بمثل هذا العمل.
سعادتك تكمن في سعادة الآخرين
فيعد ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح، لبناء مجتمع قائم على ركيزة العدالة في الموارد، وهذا يعني اطلاق مشروع فاعل لمكافحة الفقر، من خلال هذا العمل التلقائي المتدفق من القلب مباشرة تجاه الانسان والكائنات الاخرى والحياة، فيتجاوز حدود الواجب والولاء والالتزام الديني والعرفي والاجتماعي وحتى الأخلاقي، لان في الولاء والالتزام والواجب قيود والتزام تجاه الأخر، لذلك فإنه يعتمد على نظرة ومفهوم الإنسان للحياة و للإنسانية، ومدى ايمانه بمبدأ العدالة في توزيع الثروات، من أجل القضاء على الطبقية المقيتة.
أصبح من الواضح أن هذا المبدأ يمثل قيمة اخلاقية كبيرة، فضلا عن الطابع الانساني له، إذ ينطوي على شتى أنواع السلوكيات الإنسانية التي تتمخض عنها منفعة يستحقها أصحاب الحاجة والمتعففين، لاسيما أن مثل هذا السلوك تدعمه مشاعر من المودة والحنان والعاطفة لقلب الطفل، والمريض والكبير والمسكين وأصحاب المصاعب والاحتياجات، وإعطاء الفرصة للشكوى، والتلاطف والتعاطف، والمساعدة المالية والتثقيف والتعليم والإسناد والتوجيه والمشاركة والمساعدة في الجهد والوقت والمعرفة، فيكون التعاون ذا صبغة جماعية تنعكس في السلوك المجتمعي عموما فتصبح بمثابة منظومة سلوكية يزخر بها المجتمع.
لذلك يُنظَر الى هذه القيم الأخلاقية على أنها تمثل أقوى وسيلة لإسعاد الذات، كما تؤكد معظم الابحاث، فحينما تصبح احتياجات الناس أمامك وجها لوجه وتبادر للمساهمة في وتضع الحلول المشرفة لها، فهذا يعني أن الإنسان قد تغلب على جميع نوازع الشر والأنانية التي تتواجد من ضمن تركيبته التكوينية، لذلك سوف يداهمه شعور بأنه قد وجد ذاته، وأنه من خلال إعانة الآخرين حقق سعادته التي لا يمكن تحقيقها من خلال التخلي عن مساعدة الناس.
ومن المفاجآت العلمية أن العلم أثبت بعض الفوارق بين دماغ البخيل، وغيره من الناس!!، فقد أثبتت بعض الابحاث المعنية بمثل هذه الأعمال، أن الأشخاص القادرين على المساعدة، تختلف وظائف أجزاء من أدمغتهم عن البخلاء، ذلك أن الاشخاص الذين يعطون تتأصل لديهم هذه الممارسة في عقليتهم ونظرتهم الى العالم والآخرين، ولا تكون مجرد ممارسة سلوكية تخلو من الإحساسات النفسية والروحانية، أي ان هناك تبايناً في المفاهيم والنظرة الوجودية للإنسان والعالم و الحياة، فيرسخ الفعل الإيجابي في الدماغ، فيعتاده الانسان ويصبح جزاء لا يتجزء من سلوكه المعتاد في المجتمع فيدخل بجميع الانشطة المالية والمادية والروحية ويشكل شخصية الانسان ظاهرا وجوهرا.
اضف تعليق