الاحترام صناعة، لا غرابة في ذلك، يخضع حاله حل الصناعات الاخرى للتمهيد والتخطيط والدقة والجودة وسوى ذلك من مزايا، تجعل الاحترام الانساني متاحا وملموسا ومتداولا بين الجميع، نقل السلوك يتم عبر التجربة أفضل من الكلام، هذا الرأي أكده أصحاب الشأن من مفكرين ومعنيين، الطفل مثلا عندما تقوم بحركات معينة أمامه، يستطيع أن يتقنها بسرعة، ولكن عندما تريد أن ترسخ قيمة او تقليد ما في عقله، يحتاج الأمر الى وقت اطول وجهد أكبر، فالتجريب خير ناقل للسلوك الجيد، هذه التوطئة تقودنا الى كيفية صناعة الاحترام الانساني.
من الأمور المتميزة التي تعلمها الانسان أنه يستطيع أن يتقن مدى تحضّر الانسان وفقا لما يحمله من تفكير وسلوك انساني حيال الآخرين، فكلنا نتذكَّر المواقف ذات الطابع الانساني لهذا الفرد او لتلك الجماعة، وكلما انطوى الموقف على حس انساني كبير، وموقف متعاون ازاء الآخر، كلما رسخ في الذاكرة، واصبح مبعث إعجاب دائم للجميع، حتى أولئك الذين يميلون الى العنف وتفتقر شخصياتهم الى التعامل الانساني، يحترمون - سرّا- المواقف الانسانية التي لا يمكنهم اتخاذها، او القيام بها بسبب نقص اخلاقي أو نفسي قد تنطوي عليه شخصياتهم، والواقع يعود الأمر الى مراحل مبكرة من عمر الانسان، عندما يكون هنالك تقصير في صناعة الاحترام وتمرير هذه السمات المهمة في شخصية الانسان.
السؤال المهم من الجهة او الجماعة الفرد الذي تقع عليه مهمة التصدي لهذا الدور، ونعني بذلك دور صناعة احترام الانسان، ومنذ متى ينبغي أن تبدأ هذه الصناعة؟ وثمة تساؤلا أخرى مهمة ايضا منها، ما هو المعيار الذي يمكن من خلاله تقييم درجة إنسانية الانسان؟، وقبل ذلك لماذا تسعى الاديان ويسعى المصلحون والمفكرون والمثقفون، الى تشذيب شخصية الانسان، وتخليصها من أدران التوحّش والتعصّب، وتنقيتها من المشاعر العدائية تجاه الذات والآخر في الوقت نفسه؟. إن الاجابة سوف تقدم بعض الحلول وتوضح بعض الخفايا.
كما أن المسعى الاساس لحضارة الانسان يكمن في القدرة على بلورة شخصية ذات نزعة إنسانية تحترم الآخرين في جميع أفكارها وكل سلوكياتها، واذا ما فشلت تلك الحضارة في تحقيق هذا الهدف الجوهري، فإن ثمة خلل يشوب الحضارة نفسها، هكذا تمّ إقران الفكر السليم بالحضارة السليمة، وإقران العمل الناجح بالحضارة المتوازنة، وكل هذه الأمور ينبغي أن تتم تحت مظلة الاحترام الانساني المتبادَل، وأي خلل في هذا الجانب سوف يؤدي الى خلل مقابل يطول العلاقات الانسانية على نحو العموم.
هل يوجد نقص في الاحترام؟
مع أننا أمة أتقنت صناعة الاحترام، وحرصت على التعامل به مع الآخرين، وتاريخنا الاسلامي العربي يشهد على ذلك، لكن هنالك حالات اختلال حدثت في هذا الجانب، ضمن حلقات الضعف التي تخللت مسيرتنا، وأعني بذلك المسلمين والعرب، ومنهم العراقيين على وجه التحديد، إننا كشعب جُبلنا على الاحترام، وكانت ولا تزال هذه القيمة من أهم القيم التي نتعامل بها مع الآخرين، ولكن لا بأس أن نشير الى مواطن الخلل في هذا الجانب.
فمن لا يتنبّه لأخطائه لا يستطيع أن يصححها، ومن ها الباب نقول، ظهرت علامات ومؤشرات تقول أننا نعاني من تراجع في صناعة احترام الانسان، وما لبثت أن تعاظمت قيم مناقضة للاحترام، وصار اللهاث وراء المادة مشكلة كأداء نعاني منها، وما يجعل من الامر اكثر فداحة وصعوبة، أن المبادرات لاعادة قيمة الاحترام، وحفظ الحقوق ومراعاة الحق وسلامة الرأي تنحدر مع مرور الوقت، وهذا يدل على أننا نمر في مرحلة الاخفاق بصناعة أفضل وأكثر اتقانا للاحترام الانساني، لذا تكون الاجابة الواقعية، أننا نعاني بالفعل من خلل في صناعة قيمة الاحترام، وحتى هذه اللحظة لم نلمس مبادرات حقيقية لمعالجة هذا الخلل.
القضية تستدعي التحرك المنظّم والمدروس لمواجهة هذه المعضلة في العراق ولدى العرب والمجتمعات الاسلامية عموما، هناك خلل واضح في هذا الجانب، وأعني بوضوح، التلكّؤ في احترام الذات والآخر معا، بل غالبا ما ننبهر بمواقف مجتمعات الاديان الاخرى، مع أن الاسلام وتقاليد المجتمعات الشرقية والعربية، تؤكد على ترصين الجانب الانساني في شخصية الانسان، لذا نحن بحاجة الى تجديد الاساليب التي تساعد على صناعة الاحترام الانساني وتجعله قيمة لا يمكن التخلي عنها في مجتمعنا!!.
لا شك أن التثقيف والتوعية بالسماء والكتابة امر مهم، ويساعد على صناعة قيمة الاحترام، ولكن ينبغي أن نجد حلولا اخرى مساعدة، تسرع من ترسيخ هذه الصناعة بيننا، وتنشرها في النسيج المجتمعي الاسلامي والعربي، لاسيما أننا بدأنا نعاني من افرازات اخرى كنتيجة حتمية لتفشي قيم بديلة شرعت تزيح الاحترام جانبا وتتمركز في قلب النسيج المجتمعي وهذا في الحقيقة نذير شؤم ينبغي التحسّب له بصورة جادة، وليس إهماله أو غض البصر عنه، فغالبا ما تكون المؤشرات صغيرة وبسيطة، وقد لا تعطي الحجم الكامل لخطر المشكلة، ولكن في نهاية المطاف، سوف نجد أنفسنا ازاء طوفان لا اخلاقي، يضع الاحترام في زاوية ميتة.
الحضارة وصناعة الخلق
ثمة جذور اخلاقية زرعتها حضارتنا عبر تاريخ طويل وعميق، لذا نحن نتساءل هنا، ما الذي استفدناه من الحضارة، ومن ديننا، ومن الخطاب الوعظي المتواصل ليل نهار الى أسماعنا واذهاننا؟، هل نحن انسانيون فعلا، ونحترم ذواتنا والآخرين؟ وهل نرحم أنفسنا وبعضنا البعض والكائنات الاخرى التي تعيش معنا؟، عند الاجابة لابد أن نقرّ ونعترف، أن هناك بونا واسعا بيننا وبين الغربيين في هذا الجانب (وأعني هنا ليس الحالات الفردية المنتقاة، وانما المنظومة السلوكية التي يسير في ضوئها المجتمع كله)، بمعنى يوجد لدينا أفراد انسانيون قد تتفوق انسانيتهم على الآخرين من الغرب او سواه، ولكن عندما يتعلق الامر بمنظومة السلوك المجتمعي الشاملة، فإنهم أفضل منا!!، وانهم يحترمون بعضهم، ويحافظون على حقوق الآخر، والسؤال المهم، لماذا نعاني من تراجع الاخلاق مع أننا أهلها ومهدها أيضا؟.
سؤال آخر اكثر أهمية، متى تكون قيمة الانسان مقدسة في مجتمعاتنا، ونعني العراقيين والعرب والمسلمين، ومتى تُصان كرامة الانسان، ومتى تُشاع ثقافة المواقف الانسانية التي تنطلق من مبدأ المساعدة والاسناد من دون مقابل مادي؟، إنها اسلئلة كثيرة تثير الحسرة والألم حقا، فنحن أهل الانسانية كما ندّعي، وديننا الاسلامي أبو الفضائل والاخلاق، ومنابرنا بالملايين في عموم الدول الاسلامية، ولكن حين نأتي الى الواقع، سنجده واقعنا مؤلما وهو في الواقع خراب في خراب؟، أين المشكلة إذاً؟؟ سؤال ينبغي أن نجيب عنه بدقة وصراحة من يعي حجم المشكلة ويبحث عن معالجات ناجعة لها.
في الختام، لن يأتي طرف غريب يعالج اخطاءنا، نحن المسؤولين عنها وعن اصلاحها، وعلينا أن نبحث في جذور المشكلة وأين تكمن، هل في الانسان المسلم أم في منظومة الفكر والسلوك أم أين تحديدا، نحن لا شك متخلفين عن الركب الانساني بأشواط ليس في التقانة والتكنولوجيا والالكترونيات، ليس في الجانب الحضري المادي، إننا متخلفون إنسانيا، وعلينا أن نجيب بدقة وبصورة عملية، كيف نواجه الطوفان القادم في تراجع الاخلاق والاحترام؟؟.
هذا السؤال الخطير ينبغي أن يجيب عليه أولي الأمر، والنخب، ومن يتصدر قيادة القوم، سياسيا وثقافيا ودينيا.... فهل نحن أهل لذلك؟؟.
اضف تعليق