يعود اشتقاق كلمة النصح الى النصيحة كمعنى، والأخيرة تعني في اللغة أن يقدم لك أحدهم تصحيحا لخطلٍ ارتكبته سهوا او عن قصد، فيقدم لك البديل الصحيح له، والنصح هنا يرتبط بالشيء السويّ المقبول النافع الذي لا ينتج منه أي ضرر للانسان، سواء في الاستخدام او التداول اللفظي او حتى العملي، لذا يعود النصح بالنفع على الناس في كل الأحوال، كونه يهدف أساسا الى رأب الصدع، وتقليل الفجوة الفاصلة بين الصحيح والخطأ.
صاحب النصح، يكون ذا عقل متفرد، وروح متسامية، وقلب كبير، وضمير حي، وشخصية ذات تجربة وحنكة وعصامية متميزة، لأن النصح لا يقدر عليه كل من يرغب القيام به إلا صاحب الخزين المعرفي، كون النصح ينتمي الى سلسلة من القيم الكبرى، وأهمها الايثار او نكران الذات، فصاحب النصح اذا لم يكن - مع كل مؤهلاته العقلية والعلمية والمعرفية- ناكرا لذاته ورادعا لها، وقادرا على حب الناس قبل نفسه او مثلها، فإنه لا يتمكن من القيام بمهمة النصح.
فالناصح في هذه الحالة انسان يتميز بصفات وخصال متفردة، لا يمتلكها الانسان إلا اذا كان قد استعد مسبقا لهذا الامتلاك، واجتاز الاختبار اللازم للقيام بهذا الدور الانساني الكبير، ولا ينحصر دور النصح في الجانب الاخلاقي فقط، بل يتعداه الى العملي، بل والى الربحية ايضا، فالنصح تعني الصدق في التعامل، وزرع الثقة بين الاطراف المتعاملة في المشاريع الاقتصادية او التجارية وما شابه.
ولا شك أن نتيجة النصح هي محبة الاخرين لمصدر النصح، ومضاعفة ثقتهم به، والاقبال على التعامل معه بسبب هذه الثقة، وقد يكون هناك نصح كاذب، وهو في هذه الحالة ينقلب الى غش، لذلك سرعان ما ينكشف للجميع، فمعسول الكلام تكشفه الوقائع العملية ومجريات الامور، ومن يقع في فخ الغش مرة، لا يمكن أن يعاود التعامل مع مصدر الغش، لذلك يبقى النصح نقيا واضحا كضوء الشمس الذي لا يُحجَب بغربال.
يقول الإمام علي عليه السلام: (الْنُّصْحُ يُثْمِرُ الْمَحَبَّةَ).
وهذه المحبة تثمر علاقة وطيدة مع الآخرين، تقوم على الثقة المتبادَلة، لذلك دائما نجد الأشخاص الناجحين اقتصاديا، صادقين في التعامل، وفي ضبط جودة السلع التي يعملون على انتاجها وتسويقها، فهؤلاء يتخذون من النصح اسلوب حياة لهم، لأن النُّصح وإخلاص الودّ لشخص ما يُثمر محبّته، بمعنى أنّ من كان قلبه ناصحاً لشخص ما، فإنّ ذلك يسبب حصول محبّته في قلب ذلك الشخص، وقد جاء في القول المشهور (القلب إلى القلب دليل)، والإخلاص لله عز وجل سيكون أيضاً سبباً في محبّة الحقّ تعالى لهذا المخلص، فيكون محط رعايته وسببا في نجاحه وتوفيقه.
على خلاف ذلك، يقع الغش الذي يأتي نقيضا للنصح، وغالبا ما يكون الدافع الذي يقف وراء الغش، هو الحصول على المنافع بأسهل الطرق واقصرها وأقلّها تكلفة، من اجل زيادة الثراء على حساب الآخرين، ولك العقل الغشاش سرعان ما يكتشف أنه يسير في الاتجاه الخاطئ، فالناس لهم حاسة كبيرة ودقيقة يمكنها ان ترصد الغش من اول تجربة مع الغشاش، فترفض التعامل معه، وتضعه خلف ظهرها، وتتوجه الى من يتعامل معها وفق الطريقة التي تحفظ حقوقهم.
فلا يوجد احد في هذه الحياة، يريد أن يخسر امواله وجهوده، لذلك يبحث الناس دائما عن الانسان الناصح قولا وعملا، ويرفضون من يتعامل بالنصح المجرد من الحقيقة الفعلية التي تدعم صحته، لذا يرتبط النصح دائما بالحقيقة، اما الغش فهو يعني الخديعة، وهذه تعني الحيلة، وهي إن نجحت مرة فسوف تنتهي الى الفشل والخسارة بصاحبها، لذلك يقول اهل التخصص والعارفون في مجال التعامل الانساني المتنوع، أن الغش والخسارة وجهان لعملة واحدة.
فإذ نجح الغش مرة، سوف يتم كشفه وهذا يعني ابتعاد الجميع عمّن يحمل الغش في قلبه وقوله وتعامله، لذا سيكون الخاسر الأكيد، وتبقى الربحية من حصة النصح والصدق والامانة والجودة، فهذه المفردات والصفات تقترن دائما وأبدا بالربحية على الأصعدة كافة، فالنصح والنجاح صنوان متلازمان، والغش والخسارة مترابطان لا فكاك بينهما حتى يفضحان بعضهما الآخر!!، ويكون صاحب الغش في هذه الحال عرضة للسبّ والشتم من لدن الجميع.
لذلك يقول الإمام علي عليه السلام: (الْغِشُّ يُكْسِبُ المْسَبَّةَ)، ويعني الغشّ ـ أن يُظهر الانسان للناس خلاف ما يُبطن ـ فيكسب بذلك المسبّة، لأنّ مَن يغشّ الناس إذا ظهر لهم غشّه سبّوه، أو يصبح مسبّة لهم، فهو بالاضافة الى خسائره المادية، سوف يكون عرضة للتجاوز اللفظي وربما الجسدي ايضا، وسوف يفقد مصداقيته اما الجميع، مما يسبب له خسارة فادحة.
في حين تتحقق الربحية، لصاحب النصح، الذي يصدق مع الناس في اقواله واعماله وتعاملاته كافة، لأن النصح تربية، يحصل عليها الانسان من البيت والمدرسة ومحيط العمل والبيئة الاجتماعية، وعندما ترسخ في اعماقه وذاته، سوف تصبح سلوكا معتادا له، لا يتصنّعه مثل الاشخاص المحتالين الذي يخسرون كل شيء شيء بسبب غشهم وخداعهم.
وهكذا يربح صاحب النصح كل شيء، على الصعيدين المادي والمعنوي، في حين يفقد صاحب الغش كل شيء، لذلك يبقى النصح والغش على طرفيّ نقيض دائما كما اتضح لنا سابقا، وكما لاحظنا ذلك في القولين المذكورين أعلاه للامام علي عليه السلام، حيث يورث النصح المحبة، فيما يورث الغش المسبّة.
اضف تعليق