الجمال له وجهان او عمقان، عمق ظاهري محسوس مرئي، وعمق داخلي مخفي يتم اكتشافه بالإدراك، وثمة إشكالية بين وجهيّ الجمال المذكورين، فإذا تم اعتماد الوجه الخارجي للجمال لن نتمكن من الوصول الى حقيقة الجمال كما هو، بل سنصل الى نسبة معينة منه، وفي هذه الحالة سوف يكون تقديرنا للجمال ناقصا، ولا يصح الحكم على الشيء او درجة جمال الانسان من الوجه الظاهري له، لأننا هنا سوف نتعامل مع نصف الجمال او جانب منه فقط، كذلك الحال عندما نعتمد على الجمال الداخلي للشيء او لعمق الانسان، هنا سوف يكون تقديرنا ناقصا للجمال ايضا على الرغم من ان الجمال المعنوي اوسع من المادي الظاهري، وحتى نتمكن من إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاشكالية بين الجمال الخارجي والداخلي، علينا أن نمزج بينهما ونعتمد عليهما في تقرير درجة جمال الشيء او الانسان.
يصف أهل الاختصاص الجمال بأنه قيمة مرتبطة بالغريزة والشعور الإيجابي، والعاطفة ذات المعنى للأشياء الحيوية كالخصوبة والصحة والسعادة والطيبة والحب، وما الى ذلك من مشاعر انسانية معروفة، ويقسم الجمال الى قسمين او نوعين:
الأول.. الجمال المادي وهو الجمال الحسي المدرك بحواس الإنسان (كالنظر) وهو يتعلق بجمال الطبيعة أو البشر أو الأشياء الأخرى التي يمكن رؤيتها والتحقق منها ماديا، وفي تناسق الأشياء وتنظيمها كما يعتبرها بعض الفلاسفة من أشكال الجمال المادي، في حين يرى البعض أن الجمال المادي نسبي، فما يراه البعض جميلا قد يراه البعض الآخر قبيحا وهكذا، لذلك لا يعتبر الجمال المادي مطلقا، او مقياسا كافيا ووافيا لمعرفة درجة الجمال الصحيحة، كذلك قد يفنى الجمال مع تقادم الزمن، لكن ربما يرتبط هذا النوع من الجمال الحسي أحيانا، مع الجمال المعنوي.
الثاني: الجمال المعنوي ويعتبر ذا معنى أعمق وأشمل من الجمال المادي وقد يكون اوسع وأكبر، فهو يحمل في مضامينه معان سامية، مثل الأخلاق والقيم والصدق وكثير من الملامح والمزايا الأخرى للجمال، ويرى اهل التخصص من فلاسفة ومعنيين بقيمة الجمال، أن ديمومة الجمال المعنوي تتفوق او هي أكبر من الجمال المادي البحت، كما يعتبر الجمال المعنوي مطلقا، حيث لا يمكن إنكاره بما يتوافق مع الفطرة الإنسانية الحميدة، ولكن رؤيته من زوايا أخرى يجعله يدخل في نطاق النسبية والآراء طبقا للأفكار التي يؤمن بها الانسان.
ما تقدّم من افكار ذكرناها في هذا المقال، تتعلق بالجمال كمفهوم شامل، فالجمال يمكن أن نعثر عليه في كل شيء، بمعنى قد نجده في شكل الشيء ومظهره، وربما في التصميم أو التخطيط او الحركة، بل حتى الصوت له درجات من معينة من الجمال، وبخصوص الانسان ايضا له جمال الظاهر، وجمال العمق، ويمكن ان يدخل الجمال في كل تفاصيل حياة الانسان، في طريقة عيشه، وسلوكه، وملبسه، وتعامله مع الناس، وادارته لشؤونه، ولعل اهم جانب يدخل فيه عنصر الجمال بالنسبة للانسان هو الكلام، فجميع نشاطات الانسان تتم ادارتها بوساطة القول، حتى الافكار التي يؤمن بها الانسان ويحاول ان يظهرها للمحيط الاجتماعي او العملي المحيط به، سوف يكون اللسان هو الوسيط الذي ينقل هذه الافكار والمبادئ من عقل الانسان الى الناس الآخرين عبر اللغة او الكلام.
وطالما أن العضو المتخصص بالكلام، هو لسان الانسان، فإن المجاز اتاح لأهل التخصص وللناس جميعا أن يطلقوا صفة الكلام كتسمية على اللسان، فعندما نقرأ (لسانك حصانك، إن صنته صانك)، هذا يعني أن الانسان مُصان بجمال كلامه، ويمكن أن يُهان به ايضا اذا كان قبيحا، لذلك يمكن أن نستقي المعادلة التالية بين اللسان والجمال فنقول.. كلما كان اللسان سليما متوازنا مقبولا في قوله، كلما كانت درجة جمال الانسان عالية، والجمال هنا هو الجمال المعنوي وليس المادي، وإن كان الجمال المعنوي يؤثر في المادي ويدعمه.
من هذا المنطلق نقرأ في كتاب (تحف العقول)، أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، قال: (الجمال في اللسان).
تُرى كم نحن بحاجة الى الجمال؟؟، لاسيما أن حياتنا الراهنة يحاول القبح بكل اشكاله وصوره أن يلوثها، نعم ها هو القبح يحيط بنا من كل جانب، ليس في الاقوال وحدها، بل الافعال التي تهدف الى تدمير حياتنا، وتفرض نفسها علينا بقوة، كما نلاحظ ذلك في موجات التطرف التي بدأت تهاجمنا من الغرب والشرق على حد سواء، بل حتى من داخل مجتمعنا الذي نعيش فيه، حيث بدأت لغة الجمال وأفعاله تنحسر بوضوح وتبتعد عن طبيعة حياتنا التي نعيشها اليوم، ليحل محلها القبح بأشدّ درجاته سوادا وظلاميةً.
من هنا علينا العودة الى ربوع الجمال، وعلينا أن نتبصّر جيدا في قول الرسول الأكرم الذي ورد ذكره سابقا، (الجمال في اللسان)، وهذا يعني أن الانسان كلما صحّ لسانه ازداد جماله، وكلما ازداد الجمال كلما اصبحت الحياة افضل واجمل واكثر احتراما لمكانة الانسان وكرامته، فلا يصح أن يكون اللسان مشوها، فيأتي الاخرين بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان، تسيء لهم وتحط من قيمتهم؟!!.
يقول الشاعر:
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ ......... فكلك عورات وللناس ألســـــــــــــــــنُ
وعينك إنْ أبدت إليك مسـاويـا ......... فصنها وقل ياعين للناس أعينُ
وهذا دليل على أن اللسان يمكن أن يتضامن مع حواس اخرى لكي يسيء للآخرين، إذا لم يحتَط اللسانُ بالجمال، اما اذا حدث العكس وكان الجمال ذخيرة اللسان والانسان، فهذا ينعكس على حياة المجتمع برمته، حتى مظاهر التطرف التي نعيشها اليوم، مصدرها غياب الجمال عن لسان الناس، فالتكفيريون مثلا ماذا نتوقع من ألسنتهم وما هي الكلمات التي يتفوهون بها، إنطلاقا من افكارهم السوداء المتعصبة، لا شك أن قبح اللسان وافتقاره للجمال ينعكس بصورة قاتمة على المجتمع.
لذلك دع لسانك محصّنا بالجمال دائما، فـ (الجمال في اللسان)، كما يقول رسولنا الكريم (ص)، وعندما نعي هذا الامر جيدا، ونؤمن به، ونطبقه في حياتنا اليومية العملية وسواها، أي نطبق جمال اللسان، في العمل، والشارع، والمدرسة، والبيت، وفي الاماكن الاخرى، فإننا بذلك سوف نُسهم بصناعة المجتمع الجميل، وهذا بالضبط ما كانت تهدف إليه جملة (الجمال في اللسان) ويؤكدها الحديث الشريف (الكلمة الطيبة صدقة).
اضف تعليق