ضمن سلسلة مقالاتنا عن أخلاقيات الربح والخسارة، لا نرغب بالتركيز على البديهيات، كونها أمور مسلّم بها، ومفروغ منها، فعندما نقول أن التواضع أفضل من التعالي والكبر، فهذا القول لا ينطوي على جديد، كونه موضوعا أخلاقيا مطروقا كثيرا، ولا يختلف على صحته اثنان، ونحن في الحقيقة لا نأتي بجديد عندما نقول أن العُجبَ بالذات مذموم، فهو كذلك فعلا منذ ان قيل (من مدح نفسه ذمَّها)، ولكننا نحاول في هذه السلسلة أن نركّز على إمكانيات وفرص الربح المادية والمعنوية التي يمكن أن تتحقق فيما لو التزم الانسان (بالتواضع وترك العُجب)، فهل يا تُرى هناك تأثير فعلي لمعادلة (التواضع والتكبّر) على تحقيق الربح أو نقيضه؟.
في هذه المعادلة يربط العارفون من اهل التخصص بين العُجب (الكِبَر) وبين الجهل، وهم يؤكدون من الناحية النفسية، أن من يترفع على الاخرين من الأسوياء فهو ليس سوي نفسيا وعقليا، أي انه يعاني من نقص مركَّب، يتعلق بنقص العلم لديه أي انه مصاب بالجهل، بالإضافة الى شعوره النفسي بالنقص، وبهذا العيب المزدوج (الجهل مع الشعور النفسي بالضآلة)، يدفعه ذلك لا اراديا للبحث عن بدائل، حيث يجدها في (العُجب والتكبر على الآخرين) من دون ارادته، أي انه في هذه الحالة مصاب بمرض (العجب)، الامر الذي يجعل منه شاذا عن السلوك الطبيعي، لذلك يكون محط تندّر وسخرية الآخرين، لأنه يحاول أن يخفي جهله وضعفه المزدوج بسلوك متبجّح ومفتعَل، وهذا لا يروق للناس فيكون رد فعلهم إهماله والسخرية منه.
ولو أننا تركنا الجانب الاخلاقي والاجتماعي والسلوكي، واقتربنا أكثر من الجانب العملي، وأردنا أن نتعامل تجاريا مع انسان مصاب بمركب الجهل والضعف ومن ثم العُجب، بمعنى لو كان هناك شخص مسؤول او مالك لمشروع تجاري انتاجي، مصاب بالعُجب والكبر، هل يمكننا كزبائن او متعاملين تجاريين، أن نستسيغ شخصية كهذه، وهل يكون لدينا الاستعداد التام للتعامل معها اقتصاديا وتجاريا، وقد يقول قائل إن العمل والشغل والتجارة لا علاقة لها بالتواضع والعجب، وهنا لابد من العودة الى معادلة العرض والطلب، وخصوصا فن العرض، واهمية السبل والطرائق التي يتم من خلالها عرض السلعة للزبائن، فإذا كان مالك او مدير المصنع الانتاجي للسلعة مصابا بالتكبر، ويترفع على زبائنه من دون ان يسيطر على ذلك لكونه مرض مفروض عليه نفسيا، فهل يتقبّل الزبائن مثل هذا السلوك الخاطئ، وهل يتمكن هذا المالك بشخصيته هذه ان يكسب الاخرين ويزرع الثقة المتبادلة معهم؟. إن الاجابة بطبيعة الحال واضحة، فصاحب المشروع الاقتصادي او التجاري او الانتاجي عموما، اذا كان مصابا بالعجب فهذا يعني انه جاهل.
كما نقرأ ذلك في قول الامام علي عليه السلام: (الْعُجْبُ رَأْسُ الْجَهْلِ). فالعُجب والكِبْر رأس الجهل فعلا، أي انه أوّل مراتب الجهل. أو أنّ الجهل لا يوجد بدون عُجْب. فمن تخلّص من العُجب فقد تخلّص من الجهل أيضاً، وكان ذلك سبباً في عِلمه.
وهكذا سوف يكون المالك من هذا النوع، فاشلا، وخاسرا، ومن المستحيل عليه أن يحقق الربحية المرسومة والمتوقَّعة من الانتاج، بل حتى المشاريع الفردية الصغيرة، لا يمكن لها الاستمرار والتطور والنجاح، ما لم يكن التواضع عنوان صاحب الدكان الصغير، وبهذا نحن ازاء قضية اقتصادية تتعلق بالربحية ونقيضها، ولا غرابة عندما نصل بالمحصلة النهائية الى النتيجة التالية، أن غياب التواضع يعني غياب الربحية، وهو امر واضح بجلاء للجميع.
فكما يقول الامام علي عليه السلام: (الْتَّواضُعُ عُنْوانُ النُّبْلِ).
فالتواضع في ساحة الحقّ تعالى وأمام الناس أيضاً هو عنوان النُّبل والنُجب، وهو أوّل أمر لا توجد النجابة من دونه. أو انّ المراد هو أنّه دليلٌ وعلامة على النُجب والنُّبل. وعندما يكون صاحب المشروع الانتاجي متواضعا، فهذا يعني انه انسان نبيل، وهذه صفة تدل على رحابة النفس وجمالها، وتدل على نقاء الاسارير، وترسيخ الصدق في التعامل، وهذه كلها تعد عوامل مساعدة على نجاح صاحب المشروع الاقتصادي في تحقيق ربحية عالية، من خلال كسبه للأطراف التي تتعامل معه اقتصاديا، باسلوبه في التعامل معهم، وهذا الاسلوب يقوم على النبل الذي ينبع من تواضع الانسان بصورة حقيقية.
وفي الخلاصة بإمكاننا أن نستنتج بصورة منطقية، أن الربحية تتعلق بطريقة السلوك، والاخير يرتبط بالحالة النفسية لرب العمل او مالك المشروع الاقتصادي الانتاجي، فإذا كان من النوع المصاب بالعُجب، فإننا سنحكم على مشروعه بالفشل، إلا اذا وجد البدائل اللازمة للنجاح، كأن يفهم نفسه جيدا ويصحح أخطاءها، ا وان يسند ادارة المشروع لشخصية متواضعة نبيلة ويبتعد عن العمل والتعامل مع الاخرين، وما الى ذلك من حلول وبدائل.
وعلى العموم يستدعي تحقيق الربحية، والتخلص من الخسارة المادية والمعنوية، شخصية ليست مصابة بمركب الجهل والضعف الناتج بدوره، عن الاصابة النفسية بالعُجب أو (الكِبَر/التكبر والتعالي على الاخرين)، وهذا يستدعي بدوره، تخلّصا تاما من الامراض النفسية التي قد تصيب رب العمل وصاحب المشروع، وفي حالة الفشل، لا ينبغي لمثل هؤلاء الاشخاص المرضى (بالعُجب) أن يتصدوا لقيادة أية مشاريع اقتصادي ربحي او سواها من المشاريع في المجالات الاقتصادية أو غير من المجالات الاخرى، لأن الشخصية المصابة بهذا الداء النفسي، لا يمكنها النجاح في عملها بسبب حالة الكِبَر المصابة بها، الامر الذي يستدعي التنبّه الى هذا الجانب بصورة قاطعة حتى لا يقع الانسان فريسة لهذا المرض المركَّب.
اضف تعليق