إنّما الأخلاق وُضعَت لإصلاح الروح، كما أن الطب إنما وضع لإصلاح الجسم، فعلينا إذاً أن نزوّد أنفسنا بالوقود الخلقي، كما نزوّد أجسامنا بالوقود البدني، وعلينا أن نعالج أرواحنا المريضة، كما علينا أن نعالج أجسامنا المريضة. يبتعد بعض الناس عن الدنيا فيترهّب، وينسلخ بعض الناس عن الآخرة...
إنّما الأخلاق وُضعَت لإصلاح الروح، كما أن الطب إنما وضع لإصلاح الجسم، فعلينا إذاً أن نزوّد أنفسنا بالوقود الخلقي، كما نزوّد أجسامنا بالوقود البدني، وعلينا أن نعالج أرواحنا المريضة، كما علينا أن نعالج أجسامنا المريضة. الإمام الشيرازي الراحل(قده)
يبتعد بعض الناس عن الدنيا فيترهّب، وينسلخ بعض الناس عن الآخرة فيلحد، وكلاهما على خطأ.
إن البدن والروح إذا شبّها بالحصان وراكبه لم يك بعيداً، والغاية من هذا الوصول إلى دارٍ آخرة هي جناتٍ عرضها السماوات والأرض. وكما أن على الراكب أن يتعاهد أمر فرسه بالعلف والسقي حتى يوصله إلى مقصده، كذلك على الإنسان أن ينظّم أمور جسده من أكل وشرب ونوم وراحة حتى يكمل فضائله استعداداً لمقصده.
فأولئك الذين يتكالبون علـى الحطام دون اعتناء بالروح يكون حالهم كراكب أغفل نفسه، واعتنـى بأمـر دابته، حتـى مـات جوعـاً وعطشا، وليس قوله، إلا كمـا حكى الله عنه: (..يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله..)(الزمر: آية 56).
وأولئك الذين تبعد أعينهم عن البدن ويشتغلون بالآخرة المجرّدة -في زعمهم- يكون حالهم كالراكب إذا أغفل أمر دابته واشتغل بنفسه فإنه ينقطع في الطريق ولا يصل إلى المقصود وفي ذلك يقول النبي (صلى الله عليه وآله): كالراكب المنبتّ لا سفراً قطع، ولا ظهراً أبقى)(أصول الكافي: 2/86).
وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ليس منّا من ترك آخرته لدنياه، وليس منّا من ترك دنياه لآخرته)(جامع السعادات: 2/22).
وقد عرّف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الدنيا في كلمة وجيزة، فقال: (الدنيا تغرّ وتضرّ، وتمرّ)، فيا لها من عبارة ليس فوقها تعريف!
وهكذا تكون الدنيا في الأغلب: سبباً للظلم والعدوان، والتعدي عن الموازين، والجري وراء الشهوات! أما الدنيا التي هي مزرعة العلم والعمل والفضيلة والعدل فهي ممدوحة ومن لوازم البشرية.
والدنيا كالكهرباء إن أحسن الفرد استعمالها انتفع بضيائها ودفئها وتبريدها، وإن أساء استعمالها فقد يهلك نفسه، أو كالماء إن شربه العطشان على قدر ارتوى وانتعش جسمه، وجرت الحياة في عروقه وشرايينه، وإن أغرق نفسه فيه فنصيبه الموت وعاقبته وبال. ولذا قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (الدنيا دنييان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة)(أصول الكافي: 2/130).
وما ورد من الأحاديث في مدح الدنيا فإنها ناظرة إلى دنيا البلاغ، وما ورد في ذمّها فهي ناظرة إلى دنيا الظلم والعدوان والخروج عن المقاييس. فمن الأخبار المادحة للدنيا وطلبها: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (العبادة سبعون جزءاً: أفضلها طلب الحلال)(جامع السعادات: 2/21). وقال (صلى الله عليه وآله) بصدد طلب الدنيا: (ملعون من ألقى كلّه على الناس)(جامع السعادات: 2/21).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس وسعياً على أهله وتعطفاً على جاره لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر)(جامع السعادات: 2/21).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله)( جامع السعادات: 2/22). وقال (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق)(جامع السعادات: 2/22). وقال (عليه السلام): (ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه)( جامع السعادات: 2/22). وقال (عليه السلام): (لا تكسلوا في طلب معايشكم، فإن آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها)(جامع السعادات: 2/22). وقال رجل له (عليه السلام): (إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها، فقال (عليه السلام): (تحب أن تصنع بها ماذا؟). قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق، وأحج واعتمر فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة)(جامع السعادات: 2/22).
وهكذا يرى الإسلام الدنيا المطلوب منها أعمال البر والتعفف من طلب الآخرة، فإنه لا فرق بين الدنيا وبين الآخرة فكلتاهما مملكة ملك قدير وإله عظيم وإنما قضاء الدنيا والآخرة في أعمال الشر والإثم، فهذه الدنيا ليست من الله، وإنما هي من الشيطان:(... إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان...)(المائدة: آية 90).
وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) وهو الشخصية الإسلامية العظيمة يعمل تاجراً، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يعمل زارعاً، وفاطمة، (عليها السلام) تعمل غازلة.
وفي الحديث: أن أبا الحسن (عليه السلام) كان يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق فقيل له: (جعلت فداك أين الرجال؟ فقال: (قد عمل باليد من هو خير مني -في أرضه- ومن أبي فقيل: ومن هو؟ فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين)(جامع السعادات: 2/22).
في المقابل هناك أحاديث كثيرة تذم الدنيا وهي ناظرة إلى الدنيا الفاتنة الخادعة، منها: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لو أن الدنيا كانت تعدل عند الله جناح بعوضة أو ذبابة ما سقى الكافر منها شربة ماء)(مكارم الأخلاق: 462). وقال (صلى الله عليه وآله): (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما ابتغي به وجه الله)(مكارم الأخلاق: 462). وقال (صلى الله عليه وآله): (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر)(مكارم الأخلاق: 461).
وقال (صلى الله عليه وآله): (من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله في شيء، وألزم الله قلبه أربع خصال: همّاً لا ينقطع عنه أبداً وشغلاً لا يتفرّغ منه أبداً، وفقراً لا ينال غناه أبداً، وأملاً لا ينال منتهاه أبداً)(جامع السعادات: 2/27). وقال (صلى الله عليه وآله): (يا عجباً كل العجب للمصدّق بدار الخلود، وهو يسعى لدار الغرور)(جامع السعادات: 2/27).
وقال (صلى الله عليه وآله): (لتأتينكم بعدي دنيا، تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب)(جامع السعادات: 2/27).
وقال (صلى الله عليه وآله): الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادي من لا علم عنده، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له)(جامع السعادات: 2/28).
وقال (صلى الله عليه وآله): (لتجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار) فقيل: يا رسول الله، أمصلّين؟ قال: (نعم كانوا يصومـــون ويصلّون، ويأخذون هنيئة من الليـــل، فإذا عرض لهم مـــن الدنيا شيء وثبوا عليه)(جامع السعادات: 2/28).
فجدير بالعاقل أن يأخذ من الدنيا ما يضمن فيه الآخرة، وإن من اتقى فإن الله خير الأولى والأخرى، يقول الله تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)(سورة الطلاق).
اضف تعليق