يربط علماء النفس الرغبة بالجسد، فالرغبة كما يؤكد جميع المعنيين من علماء وخبراء، هي الشعور بالإحتياج إلى شخص أو شيء ما، ويفرق علماء النفس بين الرغبة (desire) والمشاعر (emotion)، فالرغبة تنبع من جسم الإنسان مثل احتياج الجسم للطعام بينما المشاعر تأتى من الحالة العقلية للإنسان. أما الحكمة بحسب المختصين، فهي اكتساب العلم من التعلّم والمران والتدريب أو من التجارب ويقاربها في المعنى كلمة الخبرة، والحكيم هو شخصٌ عاقل يرجح الامور نحو الصواب بما امتلكه من خبرات عبر تجاربه في الحياة.
فهناك فرق كبير بين الرغبة والحكمة، باختلاف مصدريهما، كالاختلاف بين المادة والروح، فكل شيء يعود الى الجسد يعد من الجوانب التي تتعلق بالمادة، أما الروح فإنها تستقطب الفكري والمعنوي، وهكذا يكون هناك اختلاف وتناقض بين المادة والروح، ومنهما يأتي الاختلاف والتناقض بين الرغبة والحكمة.
ولاشك أننا لا نقصد المعنى الحرفي والعام للرغبة، حيث يرغب الانسان بأشياء كثيرة قد تكون مشروعة له، كرغبته في الطعام والملبس وسعيه لتحقيق حاجاته، مدفوعا برغبة لا غبار عليها اذا كانت ضمن الأطر المقبولة والمتعارف عليها، لكننا نتحدث في موضوعنا هذا ضمن اخلاقيات الربح والخسارة، عن الرغبة التي تخرج بعيد عن اطار المشروعية والقبول، فهناك رغبات كثيرة للنفس، قد تقود الانسان الى مهالك كبيرة لا يتوقع حدوثها، مدفوعا برغائب النفس وأهوائها، على العكس من الحكمة التي تحيط الانسان دائما بالرفعة والمنعة، وتحميه من السقوط في براثن الخطأ والزلل كبر أو قل حجمه.
التناقض والصراع بين الرغبة والحكمة لا يتعلق فقط بسلوك الافراد، بل يتعدى ذلك الى الجماعات والشركات والمنظمات والدول ايضا، وكلما ازداد حجم وتأثير الجماعة، كلما كانت مخاطر الرغبة اكبر عليها، فيما تعود الحكمة عليها بنتائج كبيرة لصالحها، فالشركة التي تدخل عالم الاقتصاد بحكمة، وتتعامل فيما يخص الانتاج والجودة والاتقان والتسويق والتعامل الشريف وما شابه، فإنها سوف احصل على ربحية عالية ماديا ومعنويا، في حين لو انها اندفعت وفق رغباتها في تحصيل الارباح بطرق غير حكيمة ولا مشروعة، فغنها حتما ستكون عرضة للإفلاس والخسارة الكبيرة، كما يؤكد ذلك الخبراء المعنيين، والواقع الاقتصادي العالمي وحتى داخل الدولة الواحدة، بل حتى بين الافراد من اصحاب المشاريع التجارية الصغيرة، فمن يعتمد الحكمة يحقق ربحية عالية، ومن يقع تحت ضغط رغباته غير المشروعة، سوف يتلقى خسائر فادحة ربما لم تقع ضمن حساباته وتوقعاته.
لذلك يقول الامام علي عليه السلام: (الْهَوى قَرِينٌ مُهْلِكٌ). أي مُفسد للآخرة، بل مفسد للدنيا أيضاً. ولذلك عندما يقع الانسان تحت سطوة رغباته وأهوائه، فإنه سوف يكون كالأعمى الذي يسير في طريق مليء بالحفر التي لا يراها على الرغم من انها واضحة امامه، ولكن الرغبة أو الهوى يحجب عنه رؤيته لها، بل تذهب الرغبة الى ابعد من ذلك عندما تزيّن للانسان طريقه نحو الخطأ او الانحراف، مدفوعا بأوامر النفس الأمارة التي تدفعها أهواؤها نحو المعاصي ومن ثم المهالك، هنا سوف تكون خسائر الانسان، الفرد والجماعة، حتمية على الصعيدين المادي والمعنوي، ليس من باب اخلاقي فحسب، بل حتى من باب الربح المادي عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، فإن من يذهب وراء رغباته سوف يتلقى خسائر قد تكون كبيرة.
لذلك ينبغي أن يكون الانسان حكيما في تفكيره وسلوكه، وعليه أن يصدّ رغباته غير المشروعة بقوة، لأن النتائج لن تكون في صالحه، لهذا نلاحظ دائما أن أصحاب المشاريع الانتاجية، والشركات الناجحة، يتمتعون بالحكمة في اتخاذ القرار الاقتصادي، ولا تتحكم بهم الاهواء او الرغبات، ولا تغريهم الربحية غير المدروسة، فهؤلاء يتمتعون بعقلية اقتصادية متوازنة، تجعل من الحكمة في القرار الاقتصادي معيارا أساسا في عمليات الانتاج والتسويق وما شابه، وفي مثل هذه الحالة نستطيع القول أن الربحية في شقيها المادي والمعنوي مكفولة.
حتى على المستوى الاخلاقي والايماني هناك ارباح وخسائر، تتدخل فيها معادلة الحكمة مقابل الرغبة، بمعنى أن الانسان عندما يرغب بالحياة بصورة غير مشروعة، فإن رغبته للتمسك بالحياة بهذه الطريقة تدفعه الى ارتكاب الذنوب، فهو طالما لا يعتمد الحكمة في التعامل مع الحياة، لا شك أنه سيكون مستعدا لعمل أي شيء وبأي اسلوب كان من اجل الاحتفاظ بحياة يسودها البذخ وما شابه، لكنه من جانب آخر ستكون خسائره كبيرة، لأن السبل غير المشروعة التي ينتهجها في حياته ستقوده الى ارتكاب الذنوب، وهذه بدورها سوف تتسبب له بخسارة أخروية فادحة، فضلا عن خسائره في حياته الراهنة.
لذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: الْرَّغْبَةُ فِي الْدُّنْيا تُوجِبُ الْمَقْتَ.
بمعنى كلما ازداد تمسك الانسان بالحياة، كلما اصبح اكثر عرضة للخطأ والتجاوز على الاخرين بطرق توجب المقت، الامر الذي يجعل المحيط الاجتماعي كله في حالة مقت له بسبب اساليب التجاوز والفشل التي يسلكها في حياته، لذلك لا ينبغي للانسان أن يوغل في هذا الجانب، لاسيما اذا كانت نفسه تدفعه في هذا الاتجاه، فتكون حصيلة ذلك خسارة كبيرة بدلا من الربحية التي يستطيع الانسان أن يحققها، عندما يلجأ دائما الى الحكمة ويبتعد دائما عن سطوة الرغبة اللامشروعة.
اضف تعليق