أصل حالة الميل الفكري، هو رد فعل على أخطاء سياسية وإدارية، أهملت الشباب وهمّشتهم وأقصتهم عن النسق العام، ولم تهيّئ أبسط ظروف العيش القويم للشاب، فمثلا في العراق توجد شريحة شبابية تشكل أكبر نسبة في المجتمع، لو بحثنا عمّا تحقق لهم من إنجاز، فإنه يكاد يقارب الصفر
لوحظَ في ظرفنا المُعاش اليوم، نشاط وفاعلية لبعض المجاميع، بالأخص من الشباب، يميلون نحو الإلحاد مع أنه فكر غريب عن قيمنا وأفكارنا، فالإلحاد (بمعناه الواسع عدم الاعتقاد أو الإيمان بوجود الآلهة، وبالمعنى الضيق، يعتبر الإلحاد على وجه التحديد موقف أنه لا توجد آلهة، وعموماً يشير مصطلح الإلحاد إلى غياب الاعتقاد بأن الآلهة موجودة، ويتناقض هذا الفكر مع فكرة الإيمان بالله أو الإلوهية، إذ أنّ مصطلح الإلوهية يعني الاعتقاد بأنه يوجد على الأقل إله واحد.
وقد تبلور مصطلح الإلحاد عقب انتشار الفكر الحر والشكوكيّة العلميّة وتنامي نشاط التيارات الفكرية في البحث بمضامين الأديان، حيث مال الملحدون الأوائل إلى تعريف أنفسهم باستخدام كلمة "ملحد" في القرن الثامن عشر)، وجاء في معجم لسان العرب بأن معنى الإِلحاد في اللغة المَيْلُ عن القصْد، ولحَدَ إِليه بلسانه: مال. وقال الأَزهري في قول القرآن: لسان الذين يلحدون إِليه أَعجمي وهذا لسان عربي مبين؛ وقال الفراء: قرئ يَلْحَدون فمن قرأَ يَلْحَدون أَراد يَمِيلُون إِليه، ويُلْحِدون يَعْتَرِضون، وأَصل الإِلحادِ: المَيْلُ والعُدول عن الشيء.
إذاً أصل المفردة يوحي إلى عدم التساوق مع النهج المستقيم والميل عنهُ أو الاعتراض عليه، وقد يكون هذا السبب في عدم ظهورها بين المسلمين، فالفكرة ظهرت وازدهرت في مجتمع غربي، وجاءت كـ ردة فعل ضد محاكم التفتيش وبطش الكنيسة، ومحاصرة الرأي، وجعل الأفكار سائرة في مدار واحد، فقاد ذلك إلى ازدراء الإنسان في الغرب، واستبيح عقله وانتهكت حرمته، وحُطَّت قيمته، فظهر الإلحادية وامتطاها مثقفون غربيون، ونشروها في الغرب من باب الخروج على الكنيسة، فالاستبداد هو العامل المساعد لكل أنوع الانحراف والميل عن الجادة الصحيحة، وهذا يتضح من المعنى اللغوي للإلحاد الذي يعني (المَيْل).
أما في الحديث عن تغلغل الإلحاد في مجتمعنا الإسلامي، فهناك أسباب مشابهة وأخرى مختلفة، فما تسبّبت به بعض التنظيمات السياسية التي تعكّزت على الدين، أسهم بما لا يقبل الريب في لجوء البعض إلى الميْل وإعلان العصيان أو الاختلاف، خصوصا بعد أن ارتقت بعض التنظيمات المسماة بالإسلامية إلى سدة الحكم، كما حدث لحركة الأخوان المسلمين في مصر وسواها، ولا نخطئ بالطبع إذا قلنا أن بعض التنظيمات المسماة بالإسلامية في العراق تسببت أيضا ببروز موجة الإلحاد وتغلغلها في عقول الشباب.
فهذه التنظيمات السياسية وسمتْ نفسها بالإسلامية، لكنها لم تطبّق الفكر الإسلامي في إدارة الحكم والسياسة، وأساءت للإنسان، كما أساء غيرهم في محيطيّ الغرب والشرق فيما ورد ذكره أعلاه، ولا نغالي في القول بأنّ الحركات السياسية والفكرية المغطاة بالتطرف الفكري والتطبيقي، تقف وراء ظهور مثل هذه الموجات الفكرية المائلة عن النسق العقلي العام، بالطبع ليس من باب الاحتجاج أو المعارضة، لأن هذه الحاجة تتوافر دونما ميل نحو الإلحاد، خصوصا في ظل شبكات التواصل الاجتماعي، وتشابك الأمم والشعوب والثقافات في بعضها.
فأصل حالة الميل الفكري، هو رد فعل على أخطاء سياسية وإدارية، أهملت الشباب وهمّشتهم وأقصتهم عن النسق العام، ولم تهيّئ أبسط ظروف العيش القويم للشاب، فمثلا في العراق توجد شريحة شبابية تشكل أكبر نسبة في المجتمع، لو بحثنا عمّا تحقق لهم من إنجاز، فإنه يكاد يقارب الصفر، إنهم محاطون بالبطالة، والفراغ، وتدهور المستوى التعليمي، وضعف الرفاهية، وروتينية النوادي، ما دفع بالشباب إلى ابتكار ميول تلو آخر، يأخذهم نحو الاختلاف، لشعورهم باللاجدوى وربما بشيء من العبثية، فغاب بعضهم في المقاهي وصادقوا وصائل خطيرة لقتل الفراغ من الأرجيلة والتدخين، وفي خطوة أشد في خطورتها، لجوء الشباب إلى المخدّرات.
كل هذه الظواهر التي مرّ ذكرها هي حزم متتابعة من الاحتجاجات على الواقع، هذا الواقع الشبابي المزري، فحين يُهمَل الإنسان ويُزدرى ويُهمَّش، يميل إلى المضاد أو ينحرف عن سواء السبيل، والإلحاد سيكون من ضمن ما يميل إليه بعض الشباب، فالأسباب تبزغ من قلب المجتمع، وهي جليّة بما لا يقبل الريب، والمعرفة بأسباب الأسباب جليّة أيضا، فالفشل السياسي والإداري ينعكس على ظروف الشباب والشعب كلّه، والأكثر تأثّراً به هم الشباب.
هذه المسبّبات طرّا تشترك في الميل إلى الإلحاد، فانحراف العقول ومحاول إشباع ما ترومه من فكر، تكمن في ما مرّ ذكره، حيث تعمّد تخريب السياسة لأهدافها، وخلط أوراقها مع أوراق الدين، عبر التسميات والمضامين المبدئية التي لا تنطبق سياسيا وإداريا على ما يجري فعليا، كما حدث في مصر، وتونس، والعراق وغيره من الدول التي تمتشق الإسلام دينا رسميا لها، لكنها لا تطبّق شيئا من الإسلام في سياساتها الاقتصادية وضمان حياة مناسبة لقيمة البشر، فينفر إلى ما هو أكثر اختلافا مع السائد، فأما الدخول في التطرف الديني (داعش) ومن لفّ لفها، وأما الميل إلى الفكر الملحد، وهذان النوعان من الانحراف، هو رد فعل متوافر لمن يشعر بالإهمال والعزل وعدم الاهتمام.
واليوم أصبحت الحالة واضحة للعيان، بالأخص من الحكومات الإسلامية، فالمبادرة إلى المعالجات ممكنة ومتاحة أيضا، تحسين الواقع، تقديم الخدمات، مراكمة فرص العمل، تطوير التعليم، الصحة، القدرة الشرائية، الرفاهية، العدل الاجتماعي، احتواء الشباب ليس بالقوة أو الاعتقال، أمامنا طريقان لإطفاء الإلحاد، الأول تحسين الحياة بنحو مختلف عمّا سبق، بحيث يلمس الناس تغييرا جوهريا بين واقع الأمس واليوم، الثاني إطلاق حملة فكرية في إطار توعية العقول عبر الإقناع، وليس الإكراه، وقد يقول قائل الفرد في الغرب مرفّه، يمتلك قدرة شرائية وفرص عمل وتعليم وصحة، فلماذا يوجد الإلحاد في مجتمعاتهم؟.
توجد فوارق كبيرة بين الشرق والغرب، عقليتهم مختلفة، نظامهم الفكري والسلوكي مختلف، هم وصلوا حدّ البطر، تسود بينهم الكمالية بعد أن حققوا الحاجات الأساسية، أما نحن فلم نزل نعاني من هشاشة الحاجات الأساسية، والغياب الكلي للاحتياج الكمالي، هم تشبّعوا بتيارات فكرية هائلة، ونحن لم نزل في حالة اصطدام عقلي مفاجئ مع انفتاح عالمي غير مسبوق، ومع ذلك لو توافر لمجتمعاتنا اهتمام فكري مادي ديني سياسي إداري يشبع الحاجات الأساسية، سوف تكون عقولنا في مأمن، وتتوخى الدقة الفكرية، وتنأى عن الميل أو الإلحاد.
اضف تعليق